أسباب السعادة في الدارين | أ.د علي جمعة

أسباب السعادة في الدارين | أ.د علي جمعة - ندوات ومحاضرات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه أحييكم أولا بما أحييكم به بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكل عام وأنتم بخير وندعو الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا صالح أعمالنا والعنوان المختار لهذا اللقاء هو أسباب سعادة الدارين وقد في دراستنا أن نقف عند كل كلمة من العنوان حتى نغوص في معناها وفيما حولها وما يترتب عليها وفي مصادرها ومن
أين أتت، فكلمة أسباب هي كلمة تدل على الجمع جمع سبب، والسبب هو الوسيلة وما يتوصل به إلى الشيء في لغة العرب، إلا أنه في الاصطلاح هو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، أي أنه إذا وجد المسبب وإذا انعدم المسبب، وضربوا لذلك مثالا بزوال الشمس أو غروبها أو بخروج الفجر، فإنها أسباب للصلوات، فعند زوال الشمس من مكانها يجب على المسلم والمسلمة صلاة الظهر،
فهذه الحركة في جرم السماء تعد سببا لماذا؟ لأنها عند وجودها يوجد الوجوب وعند عدمها فإن الزوال لم يحدث بعد لا يوجد الوجوب ولا يجوز أن يقوم مسلم يصلي الظهر والزوال لم يتم فالسبب يستفاد من وجوده الوجود ومن عدمه العدم أسباب سعادة الدارين ونقف هنا عند قوله سعادة والسعادة كلمة قد تكون في إدراكها ترجع إلى الذوق والذي الشعور والذي ما تعجز اللغة
عن أن تعبر عنه وقد تكون محددة وذهب إلى كل فريق من المفكرين والعلماء قال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون إذن الحياة الطيبة فالسعادة هذه هي الحياة الطيبة وسعادة الدارين أي دار الدنيا لأنها قريبة منا ودار الآخرة لأنها مؤجلة عنا سنذهب إليها بعد الالتحاق بالرفيق الأعلى والذهاب إلى رحمة الله سبحانه
وتعالى نرجو الله السلامة في الدارين أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في التفسير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله حياة طيبة قال السعادة ومن هنا صدرنا بتلك الآية العظيمة التي تتعلق في القرآن بموضوع هذا اللقاء في ذلك اليوم الأغر يقول القشيري في تفسيره ثم ما تلك الحياة الطيبة فإنه لا تعرف بالنطق يعني من جهة اللغة يعني بأن نتكلم بكلمات وبجمل نفسر فيها هذه الحياة الطيبة وإنما تعرف بالذوق تعرف
بالشعور يعرف بما وراء اللغة يشعر به الإنسان ويعيش فيه لكنه لا يحسن التعبير عنه فقوم قالوا إنه حلاوة الطاعة فهو إذن يعرف بالذوق لكن بالرغم من ذلك فإن قوما أرادوا أن يحددوه أن يضعوا له تعريفا فقالوا هو حلاوة الطاعة وقوم قالوا إنه القناعة وقوم قالوا إنه الرضا وقوم قالوا إنها النجوى وآخرون قالوا إنها نسيم القرب، نسيم القرب من الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يشعر بالحنان ويشعر بالأمان ويشعر بالهدوء النفسي ويشعر
بالتوكل على الله وبالتسليم وبالرضا، يشعر بما قاله بعض العباد: نحن نشعر بسعادة لو عرفها الملوك لحاربونا من أجلها، فهذا نسيم القرب يقول القشيري وكل ذلك صحيح، المعاني التي حاولها العباد والمفكرون والعلماء كلها صحيحة ولكل واحد أهله، أي أننا نستشعر السعادة من جهات مختلفة، بعضنا يستشعر أنها الطاعة، بعضنا يستشعر أنها القناعة، اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا، بعضنا يستشعر أنها
نسيم القرب، بعضنا يستشعر أنها النجوى، بعضنا يستشعر أنها الرضا، ولكل واحد أهل ويقال إن الحياة الطيبة لا تكون إلا مع المحبوب، فالمعية هنا هي السعادة، والمحبوب ومحبوب الجميع هو الله سبحانه وتعالى "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، إذن فالحبيب الأعلى والأكمل هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هنا فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته
إلى ما هاجر إليه. فمنا من وفق بأن جعل الله سبحانه وتعالى هو المحبوب، وجعل وسيلة الاتصال بيننا وبينه وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المحبوب، وطبق قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ومن ضيق فجعل امرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها من مال من ولد من جاه من نحو ذلك هو المحبوب فندعو الله سبحانه وتعالى من أجل أن نحصل على سعادة الدارين أن نجعل الله ورسوله المحبوب يقول القرطبي في تفسيره عن معنى الحياة الطيبة قال
سهل بن الله التستوري هي أن ينزع عن العبد، أن ينزع الله يعني عن العبد تدبيره ويرده إلى تدبير الحق، وكان جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه يقول: هي المعرفة بالله وصدق المقام بين يدي الله سبحانه وتعالى، وقيل هذا كلام القرطبي: الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق، وقيل الرضا بالقضاء هذا. الكلام للإمام القرطبي كلام عال جدا، ولكن يحتاج منا أن نقف عند أنه تفسير لكلمة "لا حول ولا قوة إلا بالله". من أدرك بعمق معنى "لا حول ولا قوة إلا بالله" فإنه
يخرج من تدبير نفسه إلى تدبير ربه، فيحدث له التسليم ويحدث له الرضا ويحدث له حسن التوكل ويحدث له أشياء كثيرة فسرها ابن عطاء الله السكندري رضي الله تعالى عنه في حكم ابن عطاء، حكم ابن عطاء أكثر من مائتي حكمة، مائتان وثلاث عشرة حكمة، ولكنها كلها وكأنها تفسر "لا حول ولا قوة إلا بالله"، لا حول ولا قوة إلا بالله كلمة من كلمات الإسلام، وفي البخاري لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز عرش الرحمن، إذا فنحن أمام عنوان أمام مفتاح نستطيع به أن نصل إلى هذه الحالة إلى أن نرى الله
سبحانه وتعالى في كل شيء، ولذلك نلاحظ أن بعضهم وهو يتحدث عن السعادة يتحدث عن أسماء أربعة: الأول والآخر والظاهر والباطن، هذه الأربعة عندما نتعمق في معانيها نشعر بكلمة لا حول ولا قوة إلا بالله ونعرف أننا قد عرفنا الدنيا وأننا عرفنا الحقائق على حد قول الحكماء من عرف نفسه فقد عرف ربه نعرف أنفسنا بالضعف فنعرف ربنا بالقوة نعرف أنفسنا بالحدوث والبداية فنعرف ربنا بأنه حي قيوم قائم بنفسه نعرف أنفسنا بأن نعتمد
على الظاهر فنعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم الظاهر والباطن، ننظر إلى أنفسنا في أنفسنا فنحتاج إلى أن نزكي دواخلنا، ومن هنا فإننا نتعلق باسمه سبحانه وتعالى الباطن الأول والآخر والظاهر والباطن في إدراك معانيها وفي التصديق بها ثم في تحويلها إلى برنامج يومي للعمل، نوع من التفسير لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا سيؤدي بنا إلى سبب آخر من أسباب سعادة الدارين وهو شهود الله، كما قال أبو العتاهية: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. إذا
تأمل في الكون وعرف دقة الصانع ودقة الصنعة، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه. لو تأمل في الخلق وتدبر في معانيه فإنه ليس له إلا أن يسجد لله سبحانه وتعالى لأنه سيرى الله وراء كل شيء وهذا يصل بنا إلى حديث جبريل حيث جاءنا يعلمنا أمر ديننا فسأل عن الإسلام والإيمان ثم سأل عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك، المراقبة والشهود والمراقبة في النهاية من أسباب سعادة الدارين، ومن هنا نعلم
أن الله سبحانه وتعالى قد خلق هذا العالم لأجل هدف محدد وهو العبادة، وجعل الدنيا دار اختبار وابتلاء فقال "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وأمرنا في هذه الحياة الدنيا أن نعمر الأرض وهي كلمة قد يصعب ترجمتها في كثير من اللغات، عمارة الأرض تعني ضد الفساد، تعني البناء، تعني العطاء، تعني الأخلاق، تعني الكرم والحب والسلام. كلمة عجيبة غريبة عمارة الأرض، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فهذا نوع من أنواع العبادة
أو من خلال العبادة ولأجل الله سبحانه وتعالى فإننا نعمر الأرض. والثالثة هي تزكية النفس قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها بالعبادة والعمارة والتزكية نصل إلى السعادة إلى الشعور بكل ما قلناه من سعادة هذه الحياة الدنيا هذه الأمور المرتبة تجعلنا دائما ننظر إلى أنفسنا فنخلي القلب من كل قبيح ونحليه بكل صحيح وهذا من أسباب السعادة وراحة البال وعدم الوقوع في ظلم العباد وعدم التسرع، فإن
الكلمة إذا كانت معك فأنت مالكها، فإن نطقت بها فقد ملكتك. فترى هذا قد أوتي صمتا، وإذا رأيتم الرجل قد أوتي صمتا فإنه تنزل عليه الحكمة. يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. قضية التخلية والتحلية من القلب. نخلي القلب من كل قبيح ونحلي القلب بكل صحيح، هي منهج السائرين إلى الله حتى نصل إلى مرتبة الإحسان أن نعبد الله كأننا نراه. الوصول إلى ذلك إنما يتم بالذكر والفكر على حد الآية التي ذكرها الله في سورة آل عمران والتي يقول فيها "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى ويتفكرون
في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار هذه الآية تحدثت عن الذكر وتحدثت عن الفكر كثير من آيات القرآن تأمرنا بالذكر لأنه سبب من أسباب السعادة ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى والضنك هو النكد والمشقة ولكن السعادة، فإذا نحن أمام مفارقة بين السعادة وبين ضدها، وذلك بالذكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ترك لنا برنامجا حافلا في الذكر: "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" "واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون"
"والذاكرين الله كثيرا والذاكرات" "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" "لا يزال لسانك رطبا بذكر لله آيات كثيرة وأحاديث كثيرة وجعل الله الذكر خالصا كالتسبيح والتحميد والتهليل وجعله بأسمائه الحسنى وجعل الدعاء ذكرا وجعل القرآن ذكرا ونحن في شهر اجتمعت فيه هذه المعاني كلها والأمر الثاني هو التفكر في كتاب الله المسطور وفي كتاب الله المنظور وهو الكون وهذا الكون أيضا يذكر ويسبح يسبح له ما في السماوات وما في الأرض وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، يسجد له ما في السماوات وما في الأرض إلى
آخر الآيات التي تجعل الكون من حولنا في حالة عبادة دائمة لرب العالمين سبحانه وتعالى، بالصبر والشكر والمحبة والمهابة نستطيع أن نعيش هذا البرنامج. الذي يشتمل على الذكر والفكر والذي يشتمل على الشكر والصبر والذي يشتمل على شهود الله سبحانه وتعالى والذي يشتمل على معرفة معنى أسماء الله الحسنى الأول الآخر الظاهر الباطن والذي يشتمل على قصد العبادة والعمارة والتزكية كل ذلك يلخص لنا سيدنا نوح وقال استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء يرسل عليكم مطرا غزيرا ويمددكم بأموال
وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا، والاستغفار والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله في اليوم مائة مرة وكان يقول فيما أخرجه مسلم إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة مرة وهذه غين أنوار كانت تكتنف قلب النبي صلى الله فكأنها تريد تلك الأنوار أن تحجبه عن تبليغ الرسالة، فيستغفر ربه لأنه مكلف تكليفا إلهيا بتبليغ الرسالة إلى الناس، فيفسرها بقوله أبو الحسن الشاذلي أن القلب له بابان: باب على الحق وباب على الخلق، فكان باب الحق مفتوحا دائما وكان باب الخلق ينغلق،
فيستغفر الله سبحانه وتعالى مائة مرة لفتح باب الخلق وليس أن باب الحق يغلق لغفلة، لا قدر الله. يا سائلا عن رسول الله، كيف سها؟ وسهو من كل قلب غافل، الله قد غاب عن كل شيء سره، فسها عما سوى الله. فالتعظيم لله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان معظما له جل جلاله على الدوام، لكنه كان يستيئس من بعض البشر فيرجع فيستغفر ربه أنه سيرجع إليهم ليبلغهم الرسالة وليعلمهم الطريق. النبي صلى الله عليه وسلم جعل أيضا علامات من سعادة ابن آدم فقال من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة، فجعل المرأة
الصالحة كأنها علامة على سعادة ابن آدم وكان دائما يرشدنا إلى هذا المعنى فيقول فيما ورد في صحيح ابن حبان أربع من السعادة: المرأة الصالحة والمسكن الواسع وهذا يعني أنه يدعونا إلى أن نضبط أنفسنا وأن نتعامل مع الدين تعامل الفاهمين وليس القاصرين الذين يأخذون بعضه ويعرضون عن بعض والمسكن الواسع فهو من سعادة ابن آدم والجار الصالح الجار قبل الدار والمركب الهنيء وأربعة من الشقاء الجار السيء والمرأة السيئة والمسكن الضيق والمركب السيء. أسباب
السعادة في الدارين هي حسن الخلق، فكما ورد عند الخطيب البغدادي عن جابر بن عبد الله: من سعادة ابن آدم حسن الخلق ومن شقائه سوء الخلق. فعليك بحسن الخلق وأحسن الأخلاق الحسنة. نرجو الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا في هذه الليالي المباركات بالعفو والعافية التامة في الدين والدنيا والآخرة وأن يجمعنا على خير في الدنيا والآخرة وأن نحشر تحت لواء نبينا يوم القيامة نشرب من يده الشريفة شربة ماء لا نظمأ بعدها أبدا اللهم يا ربنا نسألك سعادة الدارين ونسألك أسبابها ونسألك من كل خير سألك منه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعنا على ذكرك وشكرك
وحسن عبادتك إلى لقاء آخر أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته