التصوف وآل البيت جـ 1 | رب لترضى جـ 1 | حـ 21 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات هذا البرنامج المتواصل معكم "رب لترضى"، ومعنا مجموعة الشباب الذين
يريدون أن يسألوا أسئلة حول التصوف الإسلامي ومدى شرعيته وبعض مصطلحاته وأفكاره والهدف منه وكيف نطبقه في حياتنا. أهلاً ومرحباً بكم، أهلاً بحضرتك يا سيدنا. سيدنا معكم أسئلة اليوم. نعم، تفضل. مولانا، كنا نريد أن نسأل اليوم عن علاقة التصوف والسالكين إلى الله وأهل الله وبين أهل البيت وسيدنا النبي صلى. هل في تلازم بينهم؟ هل محبتهم ونحن سالكون إلى الله، محبة أهل البيت مثلاً واجبة علينا؟ وهل أهل البيت كلهم أصبحوا متصوفين أم غير متصوفين؟ يعني كنا نريد أن نسأل في هذا السؤال. هذا السؤال مكون من شقين، الشق الأول هو أهل الله أو هؤلاء السالكون
إلى الله. سبحانه وتعالى ينبغي علينا أن نعرف ما الذي يجري في قلوبهم وفي نفوسهم وفي أرواحهم وفي عقولهم حتى أصبحوا تحت هذا الاسم. أهل البيت هم الذين قد انتسبوا لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم وهم بركة الأنام، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب من يراعيه في أهله وهذا شيء طبعي. أمر فطري والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وعترة أهل بيتي". وأصبح هذا الحديث آية من الآيات ومعجزة من معجزات سيدنا النبي؛ لأن
أبناءه ماتوا أمامه في حياته ولم تبقَ إلا فاطمة عليها السلام، وحتى السيدة فاطمة أصر لها بأنها أسرع الناس لحاقاً به، فماتت بعد ستة شهور من وفاته. هو يعلم أن أهل بيته قد ماتوا أمامه وبين يديه، ثم إن رقية وأم كلثوم والصبيان، "ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم"، لم ينجبوا. والذي أنجب هو السيدة زينب الكبرى بنت سيدنا النبي وفاطمة، أما فاطمة فأنجبت. الحسن والحسين ومحسن وزينب الصغرى التي شرفت مصر ودُفنت بها. أصل النبي يحبنا لأن ابنته
عندنا. كان عباس الديب له قصيدة فيها هكذا: "أصل النبي يحبنا لأن ابنته عندنا". والله يحب مصر فأكرمها بأكثر من أربعين من أهل البيت الكرام، وكان الإمام عبد الوهاب الشعراني يقول ومما من امتنَّ الله عليَّ أن مكَّنني من زيارتهم جميعاً، يعني عرفتُ أماكنهم فزرت الأربعين، هذه أعتبرها نعمةً من عند الله، ومِنَّةً، وما إلى ذلك. رأى أبناءه يموتون أمامه، ولكن بقي من هؤلاء محسن، الذي مات صغيراً، وكذلك حسن وحسين ومحسن مثل بشر وبشير ومبشر أبناء موسى، وقد سُمِّي هؤلاء على أسماء أبناء موسى المُحسن. مات
طفلاً صغيراً وبقيت السيدة زينب وبقي الحسن والحسين، ومن الحسن والحسين، والله سبحانه وتعالى قادر على أن لا ينجبوا أصلاً. فكان سيدنا الحسن بالذات كثير الزواج، قيل أنه تزوج مائة امرأة فلم ينجب، وهذه آية من آيات الله أن يتزوج هذا الرجل هذا العدد الكبير من النساء، فإذا بالأمر... ينحصر في ابنيه الحسن المثنى وزيد الأبلج وبقية الأبناء ماتوا من غير خلف، وهو نفسه لم يخلف عدداً كبيراً مع أن كثيراً من الناس كالملوك والأمراء ومشايخ القبائل الذين تزوجوا أقل من هذا العدد
تركوا أربعين ابناً وخمسين ابناً وسبعين ابناً، وكان فرعون موسى عنده تسعون ابناً وهكذا، لكن لم... هذا الله يريد أن يقول أنا الذي أحافظ على أهل البيت كما حافظت على القرآن الكريم فتكون معجزة للنبي. النبي لو كان عبقرياً أو ذكياً ما ذكر هذا الحديث خيفة أن ينقطع النسل الشريف. النبي لو كان من عنده ما قال "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وهو يرى. أن كل الكتب السابقة قد حُرِّفت. ما كان يقول هذا إذا كان هذا الدين من عند نفسه، ولكنه من عند الله، وهو لا يستطيع أن يغير ما أوحى الله إليه. "فلو تقوَّل علينا بعض الأقاويل، لأخذنا
منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين". ليس بيده، هو يبلغ ما أوحي إليه. فقال إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، فحفظ من عند الله. الأمم لم تستطع أن تحفظ، لكن الله أراد هذا. ثم إنك ترى الطفل الأعجمي تركياً أو ملاوياً يحفظ القرآن وهو لا يعرف ولا كلمة في القرآن. وترى الناس تحفظ القرآن، فإذا تُرجمت معاني القرآن إلى لغة أجنبية لا يستطيع المترجم أن يحفظ ما ترجم وهو يحفظ القرآن الكريم. يوسف علي أرسله والده إلى إنجلترا ليتعلم اللغة الإنجليزية ويترجم إليها معاني القرآن. وكان يحفظ القرآن لكنه لم يكن يحفظ الترجمة التي ترجم بها القرآن.
شيء غريب جداً، شيء عجيب! ولا أحد في العالم حفظ كتاباً حتى الكتب المقدسة، لم يكن هذا إلا... في القرآن نجد ملايين ومليئاً من الذين فعلوا هكذا أنه الله، وكذلك عترة أهل البيت الكرام بقاؤهم معجزة. أما الحسين فمن ابنه واحد فقط والباقي قُتل في كربلاء، علي زين العابدين، ومن الثلاثة نحن اليوم عدد أهل البيت يفوق ثلاثين مليوناً أو أربعين مليوناً. وهكذا "إن شانئك هو الأبتر" من مبغضه. هذه تسعة أقوال في التفسير. لا أحد يعرف من هو شانئه هذا، وهو الذي عيّره ذلك الشانئ المبغض بأنك لا ولد لك، فاسمك سيزول.
لا، ورفعنا لك ذكرك، فاسمه يُتلى في المنابر وفي المآذن في العالم كله، وأبناؤه يحملون اسمه، ثم إن اسمه نفسه "محمد" في موسوعة جينيس للأرقام القياسية سبعين مليونًا. وهو الاسم الأول، بعد ذلك الاسم الثاني خمسة عشر مليون، يعني الضربة قاضية. أما إذا أُضيف إليه مصطفى، أو أُضيف إليه أحمد، أو حتى أُضيف إليه ما ظنه المسلمون اسماً كطه وياسين وما إلى ذلك، فليس هناك أي... دعنا في محمد، إذاً نحن أمام ظاهرة تتعلق... أيضاً بالإعجاز وكل ذلك في أهل البيت. نعود مرة أخرى، ولعل هذا هو موضوع حلقتنا من دروس
السالكين إلى الله سبحانه وتعالى. هيا بنا نلخص أموراً مهمة سوف تكون مفتاحاً لك ولإخوانك وللسامعين عندما تسألون أسئلة أو تُعرض عليكم إشكالات. أولاً، ذكرنا مراراً أن هناك فارقاً كبيراً بين حياة... النبي وعصر النبي، والفارق أن حياة النبي متجاوزة. وذكرنا ثانياً أنها متجاوزة للجهات الأربعة التي نعيد ونزيد فيها حتى نحفظها: الزمان، المكان، الأشخاص، والأحوال. أهل الله يفهمون هذا، والنابتة لا تفهم هذا. ومن أجل ذلك نراهم يريدون أن يعيشوا عصر النبي وغير قادرين
على استيعاب أن يعيشوا حياة النبي. وهم دائماً في قلق وفي صراع، أما أهل الله فإنهم يعرفون أنهم بمعيشتهم لحياة النبي يقومون بما عليهم من واجب. القضية الثانية أننا ندعو إلى منهج النبي من أجل أننا ندعو إلى حياة النبي، ندعو إلى منهج النبي وليس إلى مسائل النبي، وهذه رأيناها مع محاولة الالتزام بالدعاء، نعم التزم. بالدعاء هذه صورة من الصور، أما الدعاء الذي تجد عنده قلبك وهو مقصود العبادة فهو أوسع من ذلك. ولذلك أهل الله والسالكون لا يجدون حرجاً
في أن يتخذوا من كلام الصالحين في مناجاتهم مع الله بأساً، ويجدون صيغاً تجد قلبك فيها. وهؤلاء ضيقوا على أنفسهم. بعد الفاصل نكمل: ما المفاتيح؟ التي في بين يدي أهل الله دائماً يتعجبون من النابتة إذا هم شوّشوا ولوّشوا عليهم، بسم الله الرحمن الرحيم. بعد أن عدنا من الفاصل نتكلم عن هذه المفاتيح التي بيد أهل الله السالكين والتي ميزتهم عن غيرهم أنهم أولاً يفرقون بين حياة النبي وبين عصر النبي،
وثانياً يفرقون بين المناهج. وبين المسائل وفاءً لهذه الكلمة نجد مثلاً الشخص الذي يريد أن يقف فقط عند أدعية سيدنا الرسول وأذكاره، فإنه يخالف بذلك المنهج الذي وضعه، فهو في الظاهر ملتزم وفي الحقيقة هو يضيق على المسلمين ما وسعه رسول الله، أي أن رسول الله يقول بالسعة وهو يقول بالضيق، وهذه هي الخطورة. في الحقيقة أن معنى اتباع النبي وأن معنى حب النبي وأن معنى "وما آتاكم الرسول فخذوه
وما نهاكم عنه فانتهوا" هو هذا المنهج العقلي الذي اتبعه الشافعي ومالك وأبو حنيفة، واتبعه عبد القادر الجيلاني والفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم، واتبعه هؤلاء الصالحون، أنه فهم منهج كيف يكون، ورأينا من هذا مفهوم البدعة وأنه من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، ولم يقل "من أحدث في أمرنا هذا شيئًا"، بل قال "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". ومن أجل ذلك نتقبل يا أخي ما فعله سيدنا عمر بقلب منشرح في قضية التراويح، وهم يقولون التراويح ثمانية ويصرون على ذلك. أصبحت الأمة كلها عبر القرون تصليها
عشرين ركعة اتباعاً لسيدنا عمر، وهم يكتفون بثمانية حتى علّموا الناس الكسل والتأفف من العبادة. الصالحون - سأضرب لكم مثلاً آخر يبين الفرق بين أهل الله السالكين وبين النابتة. الخشوع في الصلاة ما معناه؟ هو يبحث في الكتب، وهذا هو الذي نضعه تحت عنوان النص. ومفهوم النص فهو يقف دائماً عند النص ويُفسِّره بمفهوم صحيح بل بمفهومه هو ويعتبر كل ما سواه باطلاً في هذا النص. ما الخشوع في الصلاة؟ كيف الخشوع في الصلاة؟ سألتَ واحداً منهم فيقول لك:
الخشوع في الصلاة أن تنظر موضع سجودك. أين القلب؟ أين الرابطة؟ أين الصلة؟ أين الحضور؟ بين يدي الله، أين التدبر في آيات الله؟ يقول لك: نعم، يومان هذه الأشياء. أما الخشوع في الصلاة، فقد قال ابن عباس: "النظر إلى موضع السجود". أهل الله يفهمون من كلام ابن عباس أن هذا الشخص عندما خشع قلبه خشعت جوارحه، فنظر إلى موضع السجود، فكان ذلك علامة. طبعاً هناك فرق. بين العلامة وبين العبادة المرتبطة بهذه العلامة يا أخي لا يفرقون هذا الفرق، ويحاولون تحويل كل شيء إلى مسألة كمية. والثاني من أهل الله
يفهم هذا في ظل العلاقة بينه وبين الله سبحانه وتعالى، فتجده أكثر رفقاً ورقةً وميلاً، وأكثر عنفاً وقضاءً. هناك فارق كبير بين الحياة وبين القضاء، هذا القضاء. نلجأ إليه عند النزاع، ولذلك تجد أنه قد أقام علاقته مع زوجته على القضاء على ما هو مكتوب في الكتاب من حقوق ومستحقات، ثم إنه لا يستطيع أن يفعل هذا بشكل كامل فيميل ظلماً إليها لأنه يعتبرها الجانب الضعيف، ويعتبر نفسه الجانب القوي، ومجموع هذا يشوه حال المسلمين في العالمين. أهل الله ليسوا هكذا، أهل الله يعاملون المرأة معاملة رقيقة ويتحدثون عن
الحب بكلام راقٍ. أكثر شخص يُقرأ له في أوروبا هو مولانا، من هذا المولانا؟ إنه مولانا جلال الدين الرومي، وهو أكثر شخص تُقرأ كتبه. لماذا؟ لأنه يدخل من باب الحب، فالإنسان بطبيعته يميل إلى هذا، لكن هناك من يميلون إلى الطقوس. والشعائر والظواهر والخطوات الكمية حتى أن بعضهم من أئمتهم كان يقول إنكم تدعون إلى الإسلام المتميع، هو يريد إسلاماً يهتم بأين نضع أيدينا في الصلاة، بالرغم من أنها مجرد هيئة. هل اليد على اليد أو اليد على الصدر أو
تحت السرة أو فوق السرة أو نمسك أيدينا هكذا، وهذا هو الذي... يهتمون به جداً، ثم إن أهل الله دائماً يرون الخلاف بين الناس على أنه تنوع وتكامل، وهؤلاء يرون الحق في طرف واحد والبقية من الآراء المخالفة هي في الجحيم. ثم إنهم يختارون كثيراً الأقل وما يسبب النزاع والفرقة والخلاف. أضرب لك مثلاً: هذا الذي يتم عندما يقول "سمع الله لمن حمده" فيضع يده. مرة أخرى على يديه، الله فتّشنا. عندنا في الشافعية ما وجدنا هذا، في المالكية ليس موجوداً، في الحنفية ليس موجوداً. لماذا
تفعل هكذا؟ فقال: الأصل أن عند أحمد روايتان. نحن فتّشنا السنة والصلاة على كثرة ما فيها من أحاديث تتعلق بالصلاة وتعظيم شأنها، لم نجد هذه الحالة. فإذا كان أحمد له قولان، لماذا لا تأخذ القول الذي يتفق مع الجمهور حتى لا تُحدِثوا خلافاً وتمييزاً ونزاعاً وتحويلاً للقضايا من حرارة الإيمان إلى نزاع الشكل، وتجعلها قضية تشغل البال؟ لماذا تفعل هذا؟ لا إجابة. علماؤهم يقولون إن الرأي الثاني صواب وهذا صواب، فلا مانع من عمله، فلماذا تحرموننا منه إذن؟ فقيه النفس عندما
يرى الخلاف يقف مع الرأي الذي هو في الاتفاق. هناك أشياء كثيرة مثل هذا، منها صلاة الجمعة، متى نستطيع أن نصليها؟ فالشافعي وأبو حنيفة ومالك قالوا: عندما يؤذن لصلاة الظهر. أما أحمد بن حنبل فقد قال: يمكننا أن نصليها في الساعة العاشرة صباحاً بسبب حديث في صحيح مسلم كذا وكذا وكذا، فقلنا... له تاجٌ، جزاك الله خيراً. أنتم إذاً ماذا تفعلون؟ أتختارون ما سار عليه الناس وما لم يقل إمامكم أيضاً أنه خطأ أو شيء من هذا القبيل، أم تختارون الأمر الذي يثير النزاع والخصام؟ فالفقيه النفيس يقول: "نختار ما
فيه الاتفاق فهو خير من الاختلاف"، وهكذا دائماً. فقِس على ذلك. أشياء كثيرة [منها] احترام الخلاف نفسه. دعنا من هذه المسألة. فهناك أمور فيها خلاف، وهذا الخلاف منه ما كان قديماً، مثل قراءة البسملة. عندما نقرؤها، فالشافعي قال لك: اقرأها بصوت عالٍ، ومالك يقول: لا، لا تقرأها بصوت عالٍ. هل انتبهت؟ فقيه النفس يقول ماذا؟ يقول: أنت أين؟ قلت له... أنا أصلي في تركيا، هل يقولونها أم لا. لا، هؤلاء حنفية لا يقولونها. لا تقلها، لا تُحدث فتنة في المسجد. لكن الشافعي يرى أنها واجبة، قلها بصوت منخفض.
هذا ما هو مكتوب في الكتب هكذا، ويسمونه مراعاة الخلاف. لكن الآخر يريد أن يشعلها، هو ليس ضيق الأفق، هو يرحل إلى... مسائل حتى يُشغل المسلمين، ولذلك سنُكمل في الحلقة القادمة حول هذا المعنى أيضاً حتى نستوفيها. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.