التوكل على الله | مع حديث رسول الله | برنامج مجالس الطيبين موسم 2010 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، نلتمس فيه. الهدى رسول الله صلى الله
عليه وسلم حلَّى الظاهر والباطن، فيجب علينا أن نُحلِّي ظاهرنا بالطاعات، وأن نُحلِّي باطننا وقلوبنا بالمعاني السامية. ومن تلك المعاني التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: التوكل على الله حق التوكل، وقال: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما تُرزق الطير". تغدو خماصاً وتروح بطاناً، تغدو أي تخرج في الفجر في بداية النهار وهي جائعة، خماصاً أي جائعة، وتروح يعني في وقت الرواح يعني بعد ذلك في المساء بطاناً لأن الله سبحانه وتعالى
رزقها، لأن الله ما خلق خلقاً وتركه وإنما يرزقه، بما فيهم ابن آدم، وأخذ العلماء من ذلك أن شعور قلبي يتعلق فيه الإنسان بربه، وإن هناك فرقاً بين التوكل والتواكل، والفرق بينهما فعل الأسباب. فلو أنك فعلت الأسباب وتوكلت على الله فهو حق التوكل، أما إذا تركت الأسباب فهذا تواكل. ولم يخلق الله سبحانه وتعالى الدنيا إلا وخلق فيها الأسباب، حتى قالوا: الفلاح يلقي الحب ثم يدعو. يقول يا رب، فإذا لم يلقِ الفلاح البذور في حقله لا
يخرج الزرع حتى لو جلس يدعو كثيراً، ويكون هذا الإنسان مستحقاً للسخرية والضحك. كيف أنك لم تزرع ثم تريد أن تحصد؟ فمن جد وجد، ومن زرع حصد، ولكن من لم يزرع فلا شيء له. ترك الأسباب جهل ولكن... الاعتماد على الأسباب شرك بالله، هذه هي حقيقة التوكل، أنه لا بد عليك من فعل الأسباب. والنبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أُحد خالف بين درعين، وهو الذي عصمه الله من الناس ووعده أن أحداً من الخلق لا يستطيع أن يصل إليه وأن يقتله، ولكنه مع ذلك
اتخذ. السلاح المناسب للوقت المناسب خالف بين درعين وهو سيد المتوكلين، إذًا فالعمل والسعي هو الأساس الذي نستطيع أن نصف به الشعور القلبي في التعلق بالله سبحانه وتعالى بأنه من قبيل توكل أو أنه من قبيل تواكل. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير"، وكلمة "أفئدة الطير" هي كناية عن الطيبة، وكناية عن الصفاء، وكناية
عن عدم حمل الغل أو الحقد أو الحسد أو البغضاء في هذه القلوب. تلك القلوب لا تتحمل إلا أن تكون رقيقة، أن تكون فيها الحب والرحمة والعفو، وليس فيها. هذا المعنى أي كانوا متوكلين على الله وقلوبهم رقيقة، رواه مسلم. أفئدتهم كأفئدة الطير هذه التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تغدو خماصاً وتعود بطاناً. إنهم يذهبون ويجيئون ويتعاملون مع الحياة، ولكنهم يعملون ويتخذون الأسباب وقلوبهم معلقة بربهم، يرجون منه الخير كله. وعن عمر بن الخطاب رضي تعالى عنه قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول وذكر ذلك الحديث الذي ذكرنا لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا رواه الترمذي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب يعني لا يُقام لهم يوم القيامة حساب ونقاش وأخذ ورد، وكيل للسيئات والطاعات، وميزان توزن فيه أعمالهم الخيرة مع أعمالهم السيئة، ثم بعد ذلك يُفصل في أمرهم. أبداً، كل ذلك لا يمرون عليه، وإنما كأنهم قد فازوا بالتزكية، وكأنهم
قد كانوا مكتوبين عند... الله سبحانه وتعالى في ديوان أو في كتاب، وهذا الكتاب يجعلهم أول الناس ويجعلهم يدخلون الجنة من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب. فيقول: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب". هم الذين لا يسترقون، يعني إذا وقعوا في أزمة أو في مرض أو نحو ذلك جمعوا. في قلوبهم الهمة أنه لا شافي إلا الله ولا مخرج من هذه الأزمة إلا الله ولا يكون أبداً إلا الله هو الذي ينقذهم منها، لا يلتفتون
إلى شيء آخر وقلوبهم مطمئنة لهذا. نحن قلنا إنهم سوف يفعلون الأسباب، سوف يذهبون إذا كان هناك مرض إلى طبيب، وإلى عملية جراحية، وإلى وكذا ولكن قلوبهم تعرف أن كل هذه الأسباب إنما هي تحت رعاية الله، تحت إذن الله، تحت مشيئة الله، ولذلك هم لا يسترقون، لا يلتفتون إلى هذه الأسباب وإن كانوا لا يتركونها، ولا يتطيرون، لا يتشاءمون عندما يصابون بالمرض، لا يقولون الله غاضب علينا، بل يقولون إن هذا حكم الله. وأراد أن يختبرني وأنا سوف أنجح في الاختبار مع الله سبحانه وتعالى، هو بذلك يتوكل على الله وبذلك يثق في الله وبذلك يتعلق قلبه بالله، ومن تعلق
قلبه بالله أكرمه الله سبحانه وتعالى في هذا الشأن. "وعلى ربهم يتوكلون" هذه كأنها صفة لمن لا يسترقون ولا يتطيرون، يعني يعتمدون. على الله حقٌّ الاعتماد، كما أنهم لا يتشاءمون ولا يتبرمون، وفي نفس الوقت فإنهم بذلك على ربهم يتوكلون. وعن أنس رضي الله تعالى عنه في هذا الحديث السابق، الحقيقة أن بعض الناس يستكثر السبعين ألفاً، أي يقول إن هذا عدد كبير جداً. أبداً، هو في الأمة قليل، يعني الأمة الآن وانظر إلى أمة الإسلام منذ أن نشر الله الإسلام في الأرض وإلى يومنا
هذا، كم مليار وكم مليون! ولذلك سبعون ألفاً هذا رقم قليل، فهذا التوكل الصافي يبدو أنه عسير، ولذلك يحتاج إلى تعليم ويحتاج إلى تربية ويحتاج إلى مقاومة النفس، ويحتاج الإنسان دائماً أن يحاول مهما نسي من أمر وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال إذا خرج من بيته..." انظر الآن إلى الأمور القلبية وكيف ترتبط ببرامج يومية حتى لا يضيع الإنسان. إذا قال كلما خرج من بيته "بسم الله" - وهي سهلة، "بسم الله" فقط، حتى دون "الرحمن بسم الله توكلت على الله، أيضاً سهلة كلنا نحفظها: "بسم
الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله". إذاً ثلاث جمل: "بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله". يُقال له: هُديت وكُفيت وُوقيت، وتتنحى عنه الشيطان. هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، هذا هو يتحقق ذلك عندما تحافظ عليها، فقد كان عمله دائماً. لا تتركها في أي يوم أبداً. عوّد نفسك كل يوم عند خروجك من باب بيتك أن تقول: "بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله". فتقول الملائكة: "كُفيتَ وَوُقيتَ وهُديتَ". هُديتَ وكُفيتَ ووُقيتَ، ويتنحى
عنك الشيطان. فالشيطان ينتظرك لكي يجعلك تتشاجر مع أحد ويوقع البغضاء بينك وبين الناس ويفشلك في عملك ويفرح عدوك، فإذا بك تستخدم الحصن الحصين الذي يسميه الإمام ابن الجزري "الحصن الحصين". إن التوكل على الله سبحانه وتعالى أمر مهم، ولعلنا أن نتحدث عنه في حلقة قادمة. فالسلام عليكم ورحمة الله