الدروس الشاذلية | حـ 35 | أ.د علي جمعة

الدروس الشاذلية | حـ 35 | أ.د علي جمعة - الصديقية الشاذلية, تصوف
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ندعو الله سبحانه وتعالى ببركة سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصرف عنا السوء، ونعوذ به جل جلاله من الوباء والبلاء والغلاء، وأن يحفظ هذه البلاد والعباد. بحفظه المتين، فاللهم
يا ربنا اصرف عنا السوء بما شئت وإن شئت وكيف شئت، اللهم آمين. يسأل كثير من الناس، خاصة ممن طلبوا الطريق إلى الله، هل لقاء الشيخ يُعتبر إذناً له في كل ما يفعل؟ يعني هناك أقوام يكون عندهم مسألة أو موقف أو مشكلة فيأتون ويحكونها
للشيخ. ويعتبر أن حكايته للشيخ إذنٌ له أن يفعل ما يشاء لأنه التقى الشيخ ولأنه حدثه بها فسكت الشيخ أو استمع لها. هل هذا يُعد إذناً للمريد أو لطالب العلم بأن يفعل ما يشاء تحت عنوان "لقد أذن لي الشيخ"؟ الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وضع قاعدة بعد تتبع موارد... الشرع وأدلته ذكر فيها أنه لا يُنسب لساكت
قول، يعني إذا سكت الشيخ فلا يُنسب له القول بالإذن. الإذن يكون بأن يأذن إذناً صريحاً واضحاً: "افعل هذا". وعندما يأذن لا يكون هذا حكماً عاماً، بل هو حكم للسائل فقط. وهذا ما أخذ به القضاء عندما وضعوا قواعد العدالة، فجعلوا حكم والقاضي يشبه المربي ويشبه الشيخة ويشبه الحاكمة، جعلوا حكم القاضي
مختصاً بشخص من صدر له الحكم، ولذلك إذا أخذت حكماً من القاضي لا يجوز لمن كان مثلك في كل الأمور أن يقيس عليه وأن يقول: ما دام القاضي حكم للسيد حسن، إذاً فنفس الحكم يطبق على السيد حسين. أبداً لا. بد لحسين أن يذهب إلى القاضي فيحكم له أو لا يحكم، ومن هنا أتت القاعدة الأصولية الشهيرة عند العلماء، ما هي الشهيرة أي المعروفة عند الناس، أنه لا قياس
في الأشخاص، أي لا يمكن أن نقيس شخصاً على شخص، لأن هناك متغيرات ترجع إلى الزمان والمكان والأشخاص والأحوال قد من شخصٍ إلى آخر، فالشخص بذاته بمقاصده ومصالحه ومآلاته لا يتفق تماماً مع أحد سواه، ولذلك فالحكم شخصي، أي لا يتعدى إلى شخص آخر. فهذا يقع فيه كثير من طلبة العلم، أنه يقيس على الأشخاص. وفي تراثنا قالوا في هذا الجانب، وفهمها
كثير منهم على غير وجهها: أول من قاس. إبليس أول من قاس، فبعضهم يأتي بها لإنكار دليل القياس في الأصول، وهذا خطأ لأنهم يعنون بهذه العبارة أن أول من وقع في خطأ القياس هو إبليس. القياس في الأشخاص وليس مطلق القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت المجتهد، ليس هذا وإنما... معناه أن أول من قاس إبليس، فقضية القياس في الأشخاص هذه ممنوعة، إذ لا قياس في
الأشخاص. وعليه فسكوت الشيخ لا يُنسب إليه حكماً أصلاً، وإذا حكم فحكمه شخصي يجب على كل مريد أو طالب علم أو منتمٍ أو متبع أن يعيد السؤال، فيقول لهذا نعم ولهذا لا. والمتتبع لتلك في سنة سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم يجد ما ذكرناه واضحاً جلياً، وعليه حمل الأصوليون الجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، لأنه مرة لهذا قال نعم ومرة لهذا قال لا، فقالوا لا بد
من الجمع بينهما من هذا الجانب، أن لكل واحد منهما ما يصلح به شأنه، ويذكرون في هذا المقام رواية عن سيدنا عبد الله بن عباس حبر الأمة أن رجلاً قد أتاه وقال له: من قتل مؤمناً متعمداً أله توبة؟ قال: من ذا الذي يمنع التوبة؟ له توبة. فجاءه آخر وقال له: من قتل مؤمناً متعمداً أله توبة؟ قال: لا، ليس له توبة، بل هو خالد في... النار أبداً فسأله تلاميذه: "جاءك رجل في الصباح ففتحت
له باب الرحمة، وجاءك رجل بعد ذلك فأغلقت أمامه أبواب الرحمة". قال: "هذا رجل قد قَتَلَ ويريد التوبة، وهذا رجل يريد أن يقتل، فمنعتُ هذا وفتحتُ لهذا الباب أن يعود، كحديث من قتل تسعة وتسعين نفساً ثم ذهب إلى عابد جاهل". فقال أله توبة؟ قال: لا، (لقاتل) تسعة وتسعين نفساً لا توبة له، فقتله فأكمل به المائة. ها يكون عدم التوبة هنا. فتح باب الشرع وذهب إلى عالِم فقال له: ألي توبة؟ قال: نعم،
من ذا الذي يمنع التوبة؟ ولكني أراك بأرض قوم سوء الذين جعلوك تقتل مائة شخص من غير ولم يضربوا ولم يأخذوا على يدك، هؤلاء قوم سوء، فاذهب إلى قرية كذا فيها قوم يعبدون الله. وقصة أنه ذهب فمات في الطريق، فاختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب واختصموا في ذلك، فسألوا الله سبحانه وتعالى. فقيس ما بين القرية التي خرج منها وبين مكان موته والقرية التي كان يذهب كثيرة
غير موثقة تقول إن الله سبحانه وتعالى أمر تلك البلاد أو الجثمان بالبعد عن هذه البلاد الضالة والقرب من هذه البلاد الصالحة، وأنهم وجدوا صدره مائلاً إلى القرية الصالحة. المهم أدخلوه الجنة والحمد لله، ولكن كل هذا يؤكد أنه لا قياس في الأشخاص، وعليه ينبغي علينا أن نراعي هذا. لما يترتب على عدمه من أمور كثيرة تسبب البلبلة من ناحية وتسبب سوء العواقب من ناحية أخرى. يسألون: نرى
الشيخ في المنام، فهل يكون ذلك أمراً منه لنا بما نراه؟ نصّ العلماء من أهل الله من الصوفية والفقهاء وغيرهم أن النائم لا يملك حال نفسه، ولذلك فالمنام ليس حجة في ذاته وعلى هذا اتفقت جماهير الأمة أن المنام لا يُؤخذ به حجة وكذلك الخواطر والإلهام، وشذ عن ذلك أبو إسحاق الإسفراييني الأستاذ من الشافعية وقال إن المنام يُعد
حجة، ويبدو والله أعلم أنه كان يقصد أنه يصلح للاتباع، وهذا ما لم ينازع فيه أحد لأن عبد الله بن زيد عندما رأى الأذان في المنام وأتى يقص ذلك على سيدنا صلى الله عليه وسلم فإنه أقره وقال علّمه بلالاً فإنه أندى منك صوتاً، فعلمه بلال وكان بلال رخيم الصوت، صوته حلو هكذا والحنجرة الخاصة به ندية. سيدنا بلال، ويبدو أن هذا أحدث شيئاً في قلب عبد الله، يعني أنا الذي
رأيت وبعدين بلال هو الذي يؤذن فأمره أن يقيم وعلمه الإقامة، فأذّن بلال وأقام عبد الله، في حين أن أصل الحكم أن من أذّن هو يقيم، لأن أحد الأعراب من صداء جاء فأذّن، فقال: إن أخا صداء قد أذّن، ومن أذّن فهو يقيم، لكن تسلية لقلب عبد الله ولأنه رأى المنام. الذي أعدّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة ودليلاً، فالمنام يصلح أن نأخذ منه شيئاً، ولكن ليس هو دليلاً في ذاته، يعني ليس بمجرد هذا المنام نأخذ منه ونستند إليه. فالأمر
هنا ما دام الشيخ أتاك في المنام، أو أحد الصالحين أتاك في المنام وأمرك بذكر أو أمرك بتلاوة. أو أمرك بفعل خير فإن كان كذلك فعليك أن تفعل هذا يوماً واحداً أو مرةً واحدةً، يعني قال لك قُل "لا إله إلا الله" ألف مرة، حاضر، تقوم بقول "لا إله إلا الله" ألف مرة وانتهى الأمر، لا تكررها، لكن لو جاء وقال لك كل يوم اقرأ كذا وكذا تُعرَض على الشيخ، والشيخ كما يوجهك بنور بصيرة أعطاها الله له وبتجربة وعلم عاشه، قم أنت بمطاوعة الشيخ واتباع كلامه في اليقظة المضبوطة، لا في المنام
غير المضبوط، سواء الشيخ أو أحد الصالحين. فإن رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد رأيت حقاً، إلا أن المحفوظة هي الصورة. صورةُ سيدِنا لا يتمثَّلُ بها الشيطانُ، فإنَّ الشيطانَ لا يتمثَّلُ بي. مَن رآني في المنامِ رآني، وليس سَمِعَني كما يقولُ الإمامُ النوويُّ، وكما يُشيرُ إلى ذلك ابنُ حجر العسقلانيُّ أنَّ الأمرَ في التشبُّهِ في الرؤيةِ المناميةِ هو الحقُّ وهو رسولُ اللهِ، ولكن يُمكنُ للشيطانِ أن يُلقيَ كلاماً وصوتاً عندَ رؤيتِكَ. لرسول الله، ولذلك إذا رأيت شيئاً عجيباً في
أمثال ذلك فلا تحتج به أنك رأيت رسول الله فقال لك إنك أنت أكبر ولي في الدنيا وأنك أنت ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، يعني لا مثيل لك، وتوكل على الله، وهكذا، اترك هذه الطريقة لأنها أضلت كثيراً من الخلق. تذهب إلى شيخك لتحكي له، وهو يقول لك ما الحكاية. فيجب علينا أن نلتفت إلى هذه المعاني، فالمحفوظ في صورة سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم هو الصورة وليس الكلام. فإن رأيت الكلام معتاداً فلا بأس، ولا تعرض على الشيخ، وإن رأيت الكلام عجيباً غريباً يُحِل حراماً أو يوجهك توجيهاً نوع من أنواع الفخر فلا تفعل هذا واعرض على شيخك.
وما نقوله في المنام نقوله في سائر الإشراقات. نعم من عند الله كنعمة الصحة والعلم والغنى والجاه والحسب والنسب، نعمة "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها". فالإشراقات ليست وظيفتها أن نتكبر بها، وليست وظيفتها أن نعتمد عليها، وليست وظيفتها... أن نخالف بها شرع الله، الإشراقات كالواردات بعد الذكر، كالخواطر الطيبة التي تلقى عند الإنسان، كالإشارات. أسير وأنا أفكر في مسألة فأسمع أحدهم يقول لزميله
وأنا لا أعرفهم: "توكل على الله"، قوم يسمونها الإشارات. ذاهب ليخطب فتاة وبعد ذلك يسمع: "لا يوجد أبدع من هذا، لا يوجد أحسن من هذا". قم فهذه إشارات بشرى جميلة، لكن لا نبني عليها عملنا. لا يأتي أحد ويقول لي: "إنني سمعت بأذني وأنا أمشي أنه يقول لي لا يوجد أفضل من هذا"، ثم بعد قليل وجدت اثنين يقولان: "توكل على الله"، وبعد ذلك سمعت شخصاً يقول لي: "لن تجد غير هذا، لن تجد". أفضل من ذلك، وعندما تزوجتها اتضح أنها شريرة، فماذا أفعل؟ لقد وقعت في مأزق
بنفسك لأنك اعتمدت على الإشارات. مجرد بشرى، مجرد بشرى فقط. وبعد ذلك، هي شريرة وأنت يعني كنت صالحاً معها الصلاح التام؟ وبعد ذلك يعني اتضح أنها شريرة؟ قد يكون هذا صحيحاً، وقد تكون أنت من نعتمد عليه إنما هو بشرى، تعني شيئاً يشرح الصدر. لماذا نعتمد عليه؟ لا تسأل عن أصلها، تكلم معها، افهم منها، اشعر بالراحة نحوها، متمسكاً بدينها وأخلاقها. هكذا هو الأساس. ليس الأساس أنك سمعت شخصاً في الطريق يقول: "توكل على الله، لن
تجد أفضل من هذا". ماذا تريد أنت؟ فيصبح الخطوة الثانية: أولاً يتخيل، ثانياً يعتقد أنها حقيقة، ثالثاً يبني
عليها الأفعال والتصرفات. هذا ليس سديداً، هذا وهم تسبب في كثير جداً من المشكلات التي لو تراكمت فلا حل لها، ويسبب كثيراً من الأمراض النفسية. هذا خطير جداً، فعندما تتخيل شيئاً لا تظنه، لا تبني عليه، اعتبره من هذا القبيل من قبيل البشرى، من قبيل أنه نعمة من نعم الله يطمئن قلبك ويرحمك. عندما يأتي للإنسان رزق من المال، هذه
نعمة، ولكن المصيبة أن تستعمل هذا المال في الحرام، فتكون قد استعملت المال في غير ما هو له. هذا المال معدٌّ للقيام بمقتضيات الحياة، معدٌّ للإنفاق على الأهل. لعمارة الدنيا ولإخراج الزكاة والصدقات وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. إذاً هذا المال نعمة، لكن يمكن أن يُستعمل في الصواب ويمكن أن يُستعمل في المصائب، والفرق بين الصواب والمصائب فرق كبير. فيجب
علينا في كل نِعَم الله، التي منها الإشراقات والتي منها الواردات والمنام والخواطر وكل ما نراه من المشاهدات والمسموعات، نجعلها للخير ولا نجعلها للشر أيضاً. كثير من المريدين افتقد قضية التوثيق التي منَّ الله بها على أمة سيدنا النبي. ربنا منَّ علينا أننا أهل علم وأننا
نوثق علمنا، ولذلك ألهم المسلمين بالسند، فتجد للمسلمين أسانيد لكل حرف من القرآن الكريم متصل إلى سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم. تجد الأحاديث كل حديث له سند نعرف من أين أتينا بهذا الحديث جيلاً بعد جيل وطبقةً بعد طبقة وقرناً بعد قرن حتى نصل إلى المنتهى، حتى إن المسلمين لما وثقوا الكتابة والسنة وثقوا الكتب، يعني نحن معنا أسانيد للإمام النووي وللإمام
الخوارزمي الذي عمل مسانيد أبي حنيفة وللإمام البخاري حتى الكتب. التي ألفوها وسموها الدفاتر. أي الكتب، إتحاف الأكابر بأسانيد الدفاتر. حسناً، هذا ليس قرآناً ولا سنة، فهل كلام النووي قرآن أو سنة؟ لا، إنه يستنبط من القرآن والسنة. حتى هذا تم الإسناد له. إذاً، يعلموننا التوثيق. يعني التوثيق (الدوكيومنتيشن). هذا التوثيق
مهم للغاية، ولكننا نرى كثيراً من العباد يهتم بالتوثيق ويصدق كل ما سمع، وأخرج مسلم في مقدمة صحيحه حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع"، وفي رواية: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"، يعني إذا افتقدت التوثيق فأنت في نظره صلى الله عليه وسلم آثماً أو كذاباً. ولذلك لا ينبغي لنا أن نصدق كل ما نسمع بل لا بد من التوثيق. فالغيبة والنميمة
والوقيعة بين الناس كل ذلك منشؤه عدم التوثيق. لا بد من التوثيق لأنه جزء لا يتجزأ من المكون العقلي للمسلم، وبدونه نتحول إلى ما يسمى بعقلية الخرافة. والإسلام والمسلمون بنوا حضارتهم على الكتاب والسنة. الموثقين فبنوا حضارتهم على عقلية علمية رصينة ولم يبنوا حضارتهم على الخرافة. اللهم صل أفضل صلاة على أسعد مخلوقاتك سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم، على آله وصحبه وسلم يا ولي كراماتك كلما بشر.