الزهد | مع حديث رسول الله | برنامج مجالس الطيبين موسم 2010 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات مجالس الطيبين مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا ذكرنا... في حلقة سابقة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم علمنا الزهد في هذه الحياة الدنيا وتوظيف هذا الزهد للآخرة وتوظيف ذلك الزهد بأن نجعل الدنيا في أيدينا وليست في قلوبنا لعبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس. أيضاً أخذنا معنى الزهد بأنه ليس هو الفقر فإن الزاهد يزهد من وجود. فلا بد أولاً أن تكون الدنيا معه، أما الذي ليس معه شيء ففيما يزهد هو أصلاً؟ ليس معه شيء. ولذلك هناك قصة يرويها أهل التربية الإسلامية أن رجلاً ذهب يعتزل الناس
معتقداً أن العزلة وترك الحياة الدنيا وعمارة الأرض ستمكنه من الخلو بنفسه وذكر الله والتدبر والتأمل، ويكف شره. عن الناس ويكف عن نفسه شر الناس، فذهب إلى مكان بعيد في الصحراء أو بجوار نهر معزول، وجلس يعبد الله سبحانه وتعالى كشأن العُبّاد في العصور الأولى التي كانت قبل الإسلام. وكان هناك أحد التلاميذ له يتردد عليه ويخدمه إذا كانت هناك خدمة يقوم بها، فقال له في مرة... أنت تنزل المدينة؟ قال: نعم. قال:
هذا عنوان أخي في الله، كنا سويًا في طلب العلم وكنا سويًا في الحياة الدنيا إلى أن اعتزلت أنا هنا في ذلك الشعب من شعب الجبال. فاذهب إليه وسلم عليه وقل له أن أخاك فلانًا يرسل إليك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويطلب منك الدعاء. قالَ حاضِرٌ، فلمّا نَزَلَ المدينةَ، وهذه القصة تُبيّنُ معنى الزهد الحقيقي وأنه أمرٌ متعلقٌ بالقلب والسلوك وليس متعلقاً بالرسوم والشعائر. نَزَلَ الطالبُ المدينةَ وذهبَ إلى العنوان المقصود، ففوجئ بأنه أمام قصرٍ منيفٍ وله
حدائقُ غنّاءُ، ويدلُّ على أنّ هذا الرجل إمّا أن يكون مَلِكاً وإمّا أن يكون ثريّاً وإمّا أن يكون وجيهاً يعني في شيء ما عجيب، فسأل عنه فقيل له إنه في عمل وسيأتي بعد قليل. فلما جاء الرجل، جاء وهو يركب فرساً وحوله الحشم والخدم وبهيئة عجيبة غريبة. دخل وأُتِيَ بالرجل. "نعم، أيها الضيف العزيز، تفضل تفضل". قال: "أنا أتيتك من أخيك فلان الذي هو معتزل في..." المنطقة الفلانية في الجبل أو في الوادي أو على ضفة النهر، ويرسل
إليك السلام ويخصك بتحية والإكرام. قال: بلغه مني السلام. فرد عليه: السلام عليك وعليه السلام، وقل له يا فلان أما أنا فأطلب منك أن تُخرج الدنيا من قلبك. فاغتاظ الطالب - أي التلميذ هذا - واغتاظ قائلاً: أي في شعاب الجبال موجودة في قلبه وهذا الرجل الذي في القصر المنيف وراكبٌ وحوله الحشم والخدم وما إلى ذلك، يعني أين العيب؟ أين الدنيا وأين الآخرة؟ فذهب على عادته فقال له شيخه: "هل وصلت الرسالة؟" قال: "نعم، ولكنني لست مسروراً،
أنا متضايق". قال: "لماذا؟" قال: "قال لي أن أخبرك برسالة، لن أقولها لك، قال له: لا، قل. قال له: يقول لي أما أن لك أن تخرج الدنيا من قلبك. فبكى بكاءً وقال: صدق. قال له: أين صدق؟ أين؟ قال له: والله يا بني، وأنا أصيد السمكة أكون خائفاً إن كانت السمكة ستخرج أم لا تخرج، متعلق بها. عندما أنام أكون هل يأتي ثعبان يلدغني أو عقرب يلدغني ولا لا تأتي؟ عندما أجوع أكون خائفاً من أن تتأخر عليّ بالمؤونة أو بالطعام،
فالدنيا في قلبه. إذاً وجود الدنيا في القلب ليس بقلة الحيلة ولا بقلتها في اليد، هذا أمر قلبي. عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى. الله عليه وسلم يقول: "لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحَةٌ" الناس المجاهدة هي التي تحمي وتدفع الأذى، خير من الدنيا وما فيها. نعم، لسنا نعتزل ولسنا نترك الدنيا، لا، بل نحن نعمل. رواه البخاري ومسلم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه بمنكبه وضع
يده على كتفه هكذا عبد الله بن عمر يعني ما زال شاباً في أيام بدر كان عمره خمسة عشر سنة. غزوة بدر كانت في السنة الثانية للهجرة. سيدنا رسول الله لو كان وضع يده على منكبه هكذا أيضاً يعني بعد سبع سنوات فسيكون عمره اثنين وعشرين سنة في أخذ بيده وقال له: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" رواه البخاري. له عدة روايات منها هذا الحديث: "كن في الدنيا كأنك غريب
أو عابر سبيل". يعني تعامل مع الدنيا على أنك غريب فيها وأنك ضيف فيها. الذي يتعامل معها بهذا الشأن عينه دائماً. على الآخرة، وهذه العين التي على الآخرة تتحكم في سلوكه، فلا يظلم أحداً، ولا يأخذ رشوة، ولا يسرق، ولا يغتصب أرضاً ولا عِرضاً. إذاً دائماً التعلق بالآخرة يمنع الإنسان ويحميه من كل هذه المصائب. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل. فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني
الله وأحبني الناس. يعني يريد الحسنيين: أن يحبه الله وأن يحبه الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس". إذا زهدت في الدنيا فقد عرفت حقيقتها، فإن... الله يحبك وأيضاً لا تنظر إلى الناس ولا إلى ما في أيدي الناس، ازهد فيه، حينئذٍ سترى الناس يحبونك. إذا طلبت منهم شيئاً لا يحبونك حينئذٍ، ولكن إذا تركت ما في أيديهم ولم تطلبه وطلبت من الله
سبحانه وتعالى ولم تطلب منهم شيئاً، لم تطلب منهم دنيا، فإنهم يحبونك. ازهد. في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس، رواه ابن ماجة. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، لا يريد أن يسأل أحداً شيئاً"، والهمُّ الذي له هو كانت الاخرة همه من كانت جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، تجده غير محتار ولا مشتت، فالله قد
جمع له شمله هكذا، يعرف ما يفعل، وأتته الدنيا وهي راغمة، فالدنيا هي التي أصبحت تجري وراءه. إنه يقول لك: أنت والدنيا تجريان، لكن من الذي في المقدمة ومن الذي في المؤخرة؟ إذا كانت... الدنيا أمامك وأنت تجري وراءها لن تدركها، فلا فائدة من أن تظل متعباً. إذا توقفت عن الجري خلفها وجريت هي وراءك، ستجد الدنيا هي التي تسعى إليك. هي التي تجري، وتأتيه الدنيا رغماً عنه. كلمة "راغمة" معناها رغم أنف فلان، والرغام هو التراب، فإرغام الأنف يعني وضع أنفه في التراب. كأنها منقادة لك، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له. رواه
الترمذي. اللهم أخرج الدنيا من قلوبنا واجعلها في أيدينا، ومكّنا منها، ثم ارزقنا حسن التصرف فيها. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.