السيرة النبوية - أنوار النبي بتاريخ 28/06/2013

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على سيدنا رسولِ اللهِ وآلِه وصحبِه ومن والاهُ. مع أنوارِ النبيِّ المصطفى والحبيبِ المجتبى صلى اللهُ عليه وسلم، نعيشُ هذه اللحظاتِ في سيرتِه الشريفةِ الكريمةِ، ومنها ما حدثَ بعد بدرٍ في السنةِ الثانيةِ من الهجرةِ، حيثُ بدأ اليهودُ وقد اغتاظوا من نصرِه. بدأ المسلمون في إحداث المكائد والفتن والمحن والإحن والاصطدام
مع المسلمين، وكان اليهود في ثلاث مناطق: منطقة داخل المدينة في قلبها وهم بنو قينقاع، وخارج المدينة بنو قريظة وبنو النضير. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم زيادة الوتيرة وعلو الصوت من بني قينقاع، ذهب إليهم في مضاربهم، أي في حيَّاهم وجمعهم، فعندما نرى صحيفة المدينة، لم يحدث ولو لمرة واحدة، ولو على سبيل الخطأ، أن خالف المسلمون حينئذٍ صحيفة المدينة. التزموا بها تماماً وكانوا يتعرضون للبلاء منهم
بين المشاكسة والمعاكسة. كانوا يعترضون طرقهم، وكانوا يأتون قائلين: "السام عليكم" (أي الهلاك عليكم)، والمسلمون صابرون ساكتون، ويذهبون إلى النبي يشتكون يا... رسول الله يفعلون بنا ويصنعون كذا، ونحن لم نعتد على هذا، الذي كان يفعل بنا كنا نضربه. فالنبي عليه الصلاة والسلام يهدئ بالهم بالصبر الجميل ويسلي قلوبهم، وهذا كثير من الناس لا يدركونه إلا أن يضعوا الروايات كلها سوياً حتى يكتشفوا أنهم اضطروهم إلى أضيق الطرق، لماذا؟ لأنهم مشاكسون وخائفون المسلم يتهور فيضرب اليهود
فيموتون وتحدث مذبحة، فقال لهم: "حسناً، لا بأس، عندما تأتون، ماذا يفعلون بكم؟ يسبقونكم، منه". يعني مثلما بالضبط عندما نهدئ الأولاد كي لا يضربوا بعضهم ويلعبوا مع بعضهم، فعندما يكونون في حارة، إما أن نمشي وإما أن نجري. اجرِ هكذا، لماذا يعترض الطريق؟ عليه كما يفعل الشباب في السيارات ويأتي ضاغطاً عليه هكذا لأنه هو الذي يمسحها. ماذا سنفعل إذن؟ إن الآخر يتعمد الإثارة لكي تتحول إلى مشاجرة. ولماذا كانوا يفعلون هكذا؟ لأنهم كانوا يثقون في أنفسهم أنهم أهل حرب وقتال وقوة وسلاح. بنو القينقاع هؤلاء كانوا يعملون صاغة، والصائغ عنده...
شيء يذوب به الذهب، فلديه فرن وحدادون. الحداد لديه سندان، ولديه كير، ولديه أدوات أخرى ومنفاخ. فأصبحوا يمتلكون السلاح، وهو سلاح محلي يُصنع، لأن السلاح يحتاج أيضاً أن تُدخله في النار لكي تصنع سيفاً، ولكي تحده وتجعل له حداً من الجهتين ومن جوانب مختلفة. فأصبح لديهم سلاح كثير من هذا أصحاب الصناعة في هذا الوضع فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يهدئ البال حتى لا يحدث ما لا يُحمد، فذهب إليهم بعد غزوة بدر ودخل عليهم بعدما اجتمعوا، وقال لهم: "استحوا الآن، إنه أمر معيب.
لا تغرنكم قوتكم، وها أنتم رأيتم ما فعل الله بالمشركين في بدر"، والمشركون بلا شك دعوه ينهي الخطبة وقالوا له: "يا محمد، لا يغرنك قوم لا يحسنون القتال، فنحن أشد بأساً. أتظن أنك تهددنا بلا سبب؟ سترى، سنصطادك واحداً تلو الآخر". هكذا كان كلامهم فقط، ولم يفعلوا شيئاً بعد. كنت حزيناً. كان بينهم رجل اسمه شاس، وهذا الشاس كان من اليهود.
وكان يُحدِثُ فتناً وكان يجعل أولاده يعملون فتناً بين الأوس والخزرج، فقال له: اذهب يا فتى أنت وهو وذكّروهم بيوم بُعاث الذي تقاتلوا فيه مرات، وبالأشعار التي تقاولت بها الأنصار لكي تُهيّجوا الأمور. فخرج إليهم رسول الله وهدّأ الحال بعدما كادت أن تحدث فتنة، وامرأة من كانت إحدى المسلمات تدخل لتشتري شيئًا من السوق عندهم، وكانت منتقبة، فقالوا لها: "اكشفي وجهك هكذا، دعينا نرى وجهك". فقالت لهم: "لا، بما أنني ألبس النقاب، لماذا تريدون أن تخلعوا عني النقاب؟" فقالوا: "حسنًا"، وذهبوا
وربطوا ذيل جلبابها في ظهرها، أي أنها كانت طويلة في ذلك الوقت. جلابيب النساء تصل إلى نصف متر وتجر خلفها، فقاموا بربطها بحيث إذا قامت المرأة تنكشف وينقطع الفستان. كان هناك رجل مسلم في السوق يرى بائعاً يهودياً يعرض هذا المشهد، وعندما قامت المرأة فانكشفت، هجم المسلم على ذلك اليهودي فقتله. وحيث إن اليهود كانوا كثيرين في السوق، فقد أمسكوا بالمسلم. وقتلوه وحدثت مشاجرة أدت
إلى قتله، فسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى الموقع الذي فيه بنو قينقاع وقد أعلنوا التمرد، أي أنهم خرجوا من الصحيفة، يعني خرجوا عن النظام، فذهب وحاصرهم خمسة عشر يوماً. ومعنى الحصار أنه لا يخرج منهم شيء ولا يدخل إليهم شيء. وأخيراً حُبسوا بالداخل، صاروا محتاجين للماء، ومحتاجين للطعام، ويريدون الذهاب إلى هنا وهناك. توقفت تجارتهم وحوصروا لمدة خمسة عشر يوماً. قالوا له: "لقد تعبنا"، وألقى الله الوهن في قلوبهم وخافوا. فقال لهم: "حسناً، سنقيم محكمة لنرى حق هؤلاء
القتلى الذين قُتلوا وما هي القصة". ومَن الذي أخطأ والذي قتل أو اشترك أو هكذا يُقتل، كل الفتنة التي حدثت في السوق هذه نقتلهم بسببها أم ماذا نفعل؟ فتدخل عبد الله بن أبي ابن سلول، عبد الله بن أبي ابن سلول كان وقتها قد أسلم منذ شهر، ثلاثين يوماً فقط، وهو رأس المنافقين في المدينة، بنو الموالي الذين يتبعونه يعني بينهم حلف في الجاهلية ومصالح، يُسيِّرون تجارته ويأخذون أموالاً ويتاجرون بها، يأخذ المال ويتاجر به في المصالح. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يرتدي جبة، فذهب عبد الله بن أبي
وأدخل يده في الجبة وأمسك به وخنق النبي عليه الصلاة والسلام وقال: "يا محمد، لماذا تتركهم؟" قال أرسلني يعني دعني أذهب. قال له: "والله لن أرسلك أبداً حتى تتركهم". لماذا؟ قال له: "أرسلني"، وهو النبي عليه الصلاة والسلام أقوى مائة مرة من عضاء (العفريت)، يعني لو دفعه سيقتله، إنما هو حليم عليه الصلاة والسلام. "أرسلني". "لا، لن أرسلك إلا عندما تتركهم". "حسناً، لا عليك يا سيدي يا الله أمسكه، أمسك عبد الله بن أبي ابن سلول واقطع عنقه. ما هو قادر على هذا، فمعه عمر ومعه حمزة
ومعه علي، ومعه على الدوام يشير فقط بعينه هكذا، كان يُؤخذ وتُقطع عنقه وينتهي الأمر، لكن كمسلم لا يقال أن محمدًا يقتل أصحابه. سنرى بعد قليل كيف كان خُلقه. النبي المصطفى والحبيب المجتبى الذي علّم العالم بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار النبي المجتبى والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقفنا عند مشهد عجيب غريب لا يتحمله
إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه يعلمنا الصبر فصبر. جميل والله المستعان، وذلك أن عبد الله بن أبي بن سلول، وكان رأس المنافقين في المدينة، أمسك بالنبي صلى الله عليه وسلم وخنقه، أدخل يده في جبة النبي وخنقه، وهكذا يعني وضع يده هكذا وهو يقول: "أرسلني"، فلا يرسله إلا أن يعطيه بني قينقاع، وكان حليفاً له عبد الله ولم إلا من نطق بالشهادة وأسلم، فقد أصبح محمياً، حتى لو فعل هذا بسيد الخلق. إنه يعلمنا أنه نعم حتى لو فعل هذا بسيد الخلق، فقال: "أرسلني فقد جعلتهم
لك". إذاً هذا موقف قوة، لأن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، والحليم هو الذي يفعل هذا ويعطي. أعطى عن قوة لأن هذا فرد واحد فكان يستطيع أن يسيطر عليه وأن يقضي عليه، لكن لا، هذا الحلم هو الذي بنى أمة الإسلام. لو كان قتل عبد الله بن أبي ابن سلول كان سيقع دم لا يندمل إلى يوم الدين، لم يكن للإسلام قوام، ولكن سجل. الإسلام لرسول الله العفو والصفح والحلم وسعة
الصدر والوقوف في المواقف الشديدة الصعبة. هذا موقف غير حكيم من عبد الله بن أبي، ولكن مع عدم حكمته إلا أنه استوعبه صلى الله عليه وسلم. إذاً إذا عملت أنت بالسياسة أو القيادة أو شؤون الناس فيجب أن تكون هكذا واسع الصدر، تعفو وتتجاوز وتترك ولا تلتفت وسِرْ في طريقك حتى تصل إلى منتهاه أو إلى غرضه، فتركهم. ترجى بنو قينقاع لعبد الله بن أبي، قال له: "حسناً، تركناهم لك"، تريدون هكذا، لن ينفع ذلك والدنيا ملتهبة، وفي كل حين يفتعلون لنا فتنة، مرة بالإيقاع
بين الأوس والخزرج، ومرة بالعدوان على النساء، ومرة السلام عليكم، وبهذه الطريقة تشتعل الأمور، فدعهم يخرجوا خارج البلد، فهاجروا. مشى بنو قينقاع، وكان فيهم سبعمائة فارس، سبعمائة من أهل الحرب. يعني إذا اعتبرنا أن هؤلاء السبعمائة يمثلون أربعين في المائة من الرجال، فعليك أن تضرب في اثنين ونصف، تحسب هكذا فيكون سبعمائة. وسبع مائة وثلاث مائة وخمسين يصبحون ألفاً وسبع مائة وخمسين رجلاً، ومثلهم من النساء يصبحون
ثلاثة آلاف وخمس مائة. هؤلاء السبع مائة يشكلون ثلاثة آلاف وخمس مائة نسمة، والأطفال عشرون في المائة، فيصبح المجموع أربعة آلاف. إذاً، كان بنو قينقاع أربعة آلاف. هل ورد أنهم كانوا أربعة آلاف؟ لا، ولكن... ورد أنهم كانوا سبعمائة محارب، فعند ضربها بالنسبة تصل إلى رقم أربعة آلاف تقريباً، فتكون السبعمائة من أصل أربعة آلاف نسمة، بما فيهم الأطفال والنساء والرجال وغير القادرين على الحرب وغيرهم. وبالتقدير أن الرجال يشكلون نصف المجتمع، والرجال والنساء معاً يشكلون النصف والنصف. يعني هذا نص وهذا نص ونضيف العشرين في المائة للأولاد، فسيصل
إلى أربعة آلاف كما شرحنا. خرجوا وذهبوا إلى مدينة في الشام يذكرونها في علم النحو اسمها أذرعات. في كتب النحو يقولون أذرعات، وهي مدينة في الشام يذكرونها في باب جمع المؤنث السالم وما شابه ذلك. وإذا عُدَّ هم الآن فيها بنو قينقاع، فهم أغضبوا النبي وفعلوا هذه الأفعال، فلم يبقَ منهم أحد. انتبه الآن، أين تتبعونهم يا أبناء نسل بني قينقاع؟ قال إن الذي كان يموت لم يكن ينجب، والذي كان منجباً لم ينجب بعد ذلك، وظلوا يموتون ويموتون حتى ذهبوا جميعاً. ليس
هناك نسل لبني قينقاع يبقى. الذي سيأتي ويقول لك الآن: "والله أنا من بني قينقاع ونريد تعويضاً"، فاليهود بارعون في المطالبة بالتعويضات، فعلوا ذلك مع ألمانيا وفعلوا ذلك مع غيرها. "نحن كنا هنا ونريد تعويضاً". نقول لهم: من هم الأبناء؟ سيخطئون ويقولون: بنو قينقاع. نقول لهم: بنو قينقاع. لا ولد له، كل بنو قينقاع هلكوا وذهبوا في أذرعات، هذه هي حقيقة الأمر. توقفنا عند هذا الحد، إذا خالف اليهود وارتكبوا الجرائم وخرجوا عن النظام فاستحقوا عقوبة قضائية، وهذا حدث
ما بين السنة الثانية. بالطبع نحن الآن نعلم أن غزوة بدر كانت في السابع عشر من رمضان، عندما رجع هذه الفتن كلها أصبحنا في الثاني من شوال، فبدأ الحصار يوم الاثنين من شوال واستمر خمسة عشر يوماً، أي حتى يوم السابع عشر من شوال. كل هذا ونحن ما زلنا في السنة الثانية من الهجرة ووصلنا فيها إلى السابع عشر من شوال. أخذت هذه المفاوضات ذهاباً وإياباً عشرة أيام، فأصبحنا سبعة عشر إلى أواخر شوال طردوا من المدينة إقرارًا للاستقرار، وكذلك نتعلم
منها جواز النفي. أما الحبس فلم يكونوا يزيدونه عن ثلاثة أيام، والحبس يكلف الآن، فالناس المحبوسون هؤلاء يكلفون الدولة ألفي جنيه كل شهر للطعام والشراب والعلاج والرياضة وغير ذلك، فالحبس مكلف، لذا كان النفي. والتغريب نوع من أنواع العقوبة، فعندما طردهم، كان ذلك عبارة عن نفي وتغريب جزاءً وفاقاً لما ارتكبوه من جريمة. فالتغريب هو نوع من أنواع العقوبة المقررة في الشرع، وهذا التغريب والنفي يحافظ أيضاً،
يعني أفضل قليلاً من الحبس، على كرامة الإنسان. فعندما ننفيه إلى مكان بعيد أو غير ذلك، إلى بالغربة نبتعد شراً عن الناس ويشعر المرء بجرمه وارتكابه، لكنه ليس مقيد الحرية، فلم نقيده في قفص مثل القرد ولا مثل الأسد ولا غير ذلك. فالتغريب عقوبة إنسانية تُشعر بالذنب، ولكنها لا تقيد الحريات إلى درجة تتنافى مع الإنسان. إلى لقاء آخر مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريفة الكريمة، ونقف عند كل موقف منها، لعل الله أن يهدينا إلى الصواب من كل باب. السلام
عليكم ورحمة الله.