السيرة النبوية - الحلقة الأربعون

السيرة النبوية - الحلقة الأربعون - السيرة, سيدنا محمد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة نعيش هذه اللحظات. وصل النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا المدينة المنورة ووصلها يوم الجمعة بعد أن صلى في مضارب سالم بن عوف ودخل. المدينة وبنى المسجد وبنى
الصحابة بيوتهم بجوار بيوته، فكان لكل صحابي باب على المسجد. إذًا فأول ما أنشأوا الدولة بناء المؤسسات، لأن المسجد كان للصلاة وكان للتعليم وكان لقيادة الحرب فيما بعد وكان للقضاء وكان مؤسسات. فبنى مؤسسة الدولة، ولا بد في المؤسسة أن يكون لها مكان، فجاء هذا المكان بعد. ذلك أمر الصحابة الكرام بإغلاق الأبواب
إلا باب سيدنا علي، كان الباب فوقه ما يسمى بالخوخة. الخوخة هذه تعني نافذة صغيرة هكذا. فأغلق الأبواب، أصبحوا يدورون من وراء البيت ويدخلون المسجد من مدخله الطبيعي. والخوخة ترك الخوخة لكي تجلب لهم بعض الهواء، وبعد ذلك سد الخوخة إلا خوخة أبي بكر. أما سيدنا علي فلزيارة بنته، وهنا يُؤخذ أن يكون للرئيس مزية على غيره من الرعية لمصلحة الدولة. فالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه
هو الذي يقوم بالصلاة، لأنه هو الذي يقوم بالقضاء، لأنه هو الذي يقوم بالإفتاء، لأنه هو الذي يقوم بالتعليم، لأنه هو الذي يقوم بالقيادة، يعني لأنه كانت تصرفاته... متعددة كما يقول الإمام القرافي في كتابه الفروق، فلا بد أن نعطيه ميزة، نعطيه شيئًا يسهل ويوفر الأوقات. ولذلك يُؤخذ من هذا أن بيوت النبي كانت مفتوحة على المسجد حتى بيت ابنته لكي يزورها. إذًا فالقضية هنا قضية التسهيل للرئيس، فلنا أن نفعل هذا، أن نعطي الرئيس ما لا. نعطيه الأولوية وهذا ما صارت عليه نُظُم العالم كله. تجد مثلاً الرئيس وهو
ينتقل من مكان لمكان، يريدون توفير وقته فيوقفون المرور ويمشي هو. بعض الناس يعترض قائلاً: أين المساواة؟ لا، ليس مكانها هنا. والدليل أنه بعد ترك الرئاسة مباشرة سيمشي مثل الناس العادية ولن يفتح له أحد الطريق. له طريق ولا خلافه، جاءني لزيارتي أحد الرؤساء السابقين لدولة كبرى، لأنه بعد هذه الرئاسة اشتغل في ماذا؟ في العمل الخيري. فاتصلت بي السفارة وقالت: "على فكرة، هو لا يمثلنا ولا يمثل الدولة ولا أي شيء، خلاص أخذ فترته وركب
الطائرة الرئاسية وفُتح له الطريق فقط من أجل تسهيل المهمة". ليس من أجل التمييز، فبعد انتهاء السفر تتصل قائلةً لي: "ليس لنا علاقة به، إنه مواطن عادي وآراؤه لا تمثل الدولة". إذن، لماذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ هذه الميزة؟ من أجل رعاية الدولة، ومن أجل المسؤوليات التي أُلقيت عليه، وإلا فقد ساوى بين المسلمين وقال: "يسعى بذمتهم أدناهم". أدناهم وقال: "لينوا في أيدي إخوانكم"، وساوى بينهم، لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا بين أحمر وأبيض إلا بالتقوى. يبقى
إذاً مبدأ المساواة موجود، سواء كانت المساواة. قال: "النساء شقائق الرجال"، وربنا يقول: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف". تنظيم بعد ذلك "وللرجال عليهن درجة"، "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف". هذا كلام واضح في قضية المساواة البشرية، كلاهما مكلف، كلاهما مشرف، كلاهما يقوم بخصائصه ووظائفه. إذن، عندما بنى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم المسجد وذكرنا أنه آخى بين المهاجرين والأنصار في صورة عجيبة غريبة لم ترد إلى اليوم في إنشاء الدول وهي قضية المؤاخاة، وهذه المؤاخاة كانت في النموذج. الأول من
المدينة، نحن لدينا أربعة نماذج تركها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعطي المسلم كيفية العيش في العالم: نموذج مكة، ونموذج الحبشة، ونموذج المدينة أولاً، ونموذج المدينة أخيراً. في مكة، مسلمون يعيشون وسط كفار وسط مشركين يكرهون الإسلام ويحاربونه ويعذبون أهله، ولا يعرفون حقوق إنسان ولا حقوق. كان في الحبشة مسلمون يعيشون في نظام غير إسلامي، إلا أن الدولة تعرف حقوق الإنسان وترحمهم وتعينهم وتعطي جنسيتها لهم. وفي المدينة أولاً بلد إسلامي، ولكن
متعدد الديانات ومتعدد الأعراق ومتعدد المشارب، ففيهم المشركون وفيهم المسلمون وفيهم المنافقون وفيهم اليهود. في المدينة ثانياً بعد ما طُرد بنو قينقاع وبنو قريظة. وبنو النضير وبنو النضير ثم بنو قريظة في الآخر، أصبحت المدينة خالصة للمسلمين، نموذج رابع دولة إسلامية، وليس فيها أحد من الكتل غير المسلمة. فيها واحد أو اثنان أو ثلاثة لا يشكلون شيئاً. مات النبي كما في البخاري ودرعه مرهونة عند يهودي، إذاً يوجد يهودي زار النبي. صلى الله عليه وسلم غلاماً من اليهود فجاء
عند رأسه فقال له: "أسلِم". فنظر الولد إلى أبيه: "أأسلم أم لا أسلم؟" أدب قال: "أطع أبا القاسم". إنه يهودي موجود وفي قلبه أنه نبي، فلماذا لا تسلم أنت أيضاً؟ قال له: "الأفضل أن تكون فضيحة أو شيئاً ما عند قومي". فيمنعه يضحك عليه الشيطان فقال أسلم فأسلم الولد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الحمد لله الذي جعلنا سبباً لإنقاذه من النار يعني عطوف عليه يعني هو يفعل هكذا ليس تكثيراً للمسلمين بولد مريض إنما هو يريد أن يحجزه عن المحاسبة ويخلصه عند الله سبحانه وتعالى إذا
بنى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما دخل المؤسسة ثم بنى المجتمع وبدأ المهاجرون في الوفود إلى المدينة. هكذا لدينا في المدينة خمسة وأربعين مهاجراً وفيها خمسة وأربعين أنصارياً وبدأوا في الزيادة. عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه عشرون ألفاً. نحن نقارن الآن بين بداية المدينة. وبين نهايتها عشرون ألفاً صلوا عليه، وصلوا عليه فرادى، صنعوا صفاً، كل واحد يدخل لأن الصلاة هنا ليست من أجله فقط، وإنما من أجل أنفسهم ليتبركوا به، فدخلوا يصلون فرادى واحداً واحداً، ظلوا يصلون عليه يومين، فقد
انتقل إلى الرفيق الأعلى يوم الاثنين، واستمروا حتى يوم الأربعاء يصلون عليه ليلاً ونهاراً عشرون ألفاً. دخلوا صفاً يدخل هنا ويخرجون من الناحية الأخرى. إذ أول ما وصل بنى المؤسسة، ثم بدأ في بناء المجتمع، ثم بدأ في بناء الفرد. بعد الفاصل نتحدث عن كيف بدأ في بناء الفرد صلى الله عليه وآله وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. تكلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في إنشاء الدولة فبدأ في
إنشاء المؤسسة بل المؤسسات التي كانت مجتمعة في المسجد، وبدأ صلى الله عليه وسلم في إنشاء المجتمع بالمؤاخاة، أيضًا وضع الدستور فوضع وثيقة المدينة وهي أول دستور في العالم، وهذه الوثيقة تعطي الحق لمن أقام سواء كان من المشركين أو من المنافقين أو من اليهود أو من المسلمين سواء كان هذا المسلم من أصل المدينة أو كان ملحقاً بهم، سواء كان هذا الإلحاق بالهجرة أو كان بالموالاة، إذاً هناك أصناف: مشركون، وهناك منافقون، وهناك يهود،
وهناك أصل المدينة الأوس والخزرج مسلمون، وهناك مسلم مهاجر، وهناك هذه. الأصناف الخمسة ملحقة آتية من الموالاة، هذا موالٍ وهذا، ومن لحق بهم في الوثيقة كذلك. فالنبي عليه الصلاة والسلام يتحدث عن مجتمع متعدد مثل المجتمع المصري، فيه المسيحي وفيه اليهودي وفيه المسلم وما إلى ذلك. اليهود في مصر كانوا يمثلون قبل هجرة الستينيات والخمسينيات كانوا يمثلون كتلة طوال. لم يكن اليهود كثيرين أبداً، لأنهم في العالم كله لا يصلون إلى عشرين مليوناً، لكنهم كانوا موجودين وكانوا بضعة
آلاف، يعني عشرين ألفاً أو ثلاثين ألفاً أو شيء من هذا القبيل. لكن دائماً كان المسيحيون يمثلون نسبة، يقال إن نسبتهم كذا في المائة، بينما عشرون ألفاً هذه نسبة بسيطة، يعني اليهود أخذوا بعضهم ورحلوا ولم لم يبق إلا طائفة قليلة كبروا في السن ومات أغلبهم، وربما لم يبق الآن إلا ستون شخصاً وقد كبروا في السن لأنهم الذين ولدوا قبل أن يرحل أهاليهم أو قبل أن ترحل الطائفة، وهم موجودون حتى الآن، ستون أو سبعون شخصاً أو شيء من هذا القبيل. النبي عليه الصلاة والسلام وضع الوثيقة فتكون المؤسسة. المجتمع والمجتمع هذا
سنبدأ فيه بالمؤاخاة وسنبدأ فيه بالتوثيق بناءً للمجتمع والأفراد والعلاقات ما بين الأفراد. قوم يقول لهم: "والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جوعان". ما هذا؟ هذه علاقة. "والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه". احذر أن يزعل أحد جاره، فهذا ما نسميه الأمن المجتمعي، يُربي. أصبح يربي الناس على مبادئ أمد الله النبي صلى الله عليه وسلم بالأنوار، كان نوراً هكذا هو، ولذلك مرة قال: "إخواني إخواني"،
قالوا: "نحن إخوانك يا رسول الله"، قال: "أنتم أصحابي، كيف تكفرون وأنا فيكم"، إنها أمر صعب، لا يفعل ذلك إلا من أصبح أعمى القلب، لكن واحد أو اثنان. ثلاثة يحصل إنما هرقل سأل أبا سفيان في فترة الحديبية، قال له: "هل يرجع أحد منهم سخطًا على دينه؟" قال: "لا". "أيزيدون أم ينقصون؟" قال: "بل يزيدون". فهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، وهو يفهم وهو يسأل لماذا، فكانوا يزيدون ولا ينقصون، ولم يرجع أحد منهم سخطًا على
دينه. وحتى واحد ولا اثنين ولا ثلاثة رجعوا سخطه، رجعوا بسبب طعمة بن أبيرق. طعمة بن أبيرق هذا هو الذي نزل فيه قوله تعالى: "ولا تكن للخائنين خصيما". سرق من رجل يهودي درعاً وشوال دقيق، وأثناء سيره كان الدقيق يتساقط إلى بيته، فذهب ووضعه عند أحد زملائه حتى يتهموه، وبعد ذلك ذهبوا. يبحثون عن هذه الحكاية، قالوا هذا الذي انتهى هنا. قال: فتِّشوني، ليس عندي الدرع. وجدوا أيضاً أن السلسلة مستمرة. بعدما دخل الدار خرج منها وذهب إلى أخينا هذا، الصحابي
الثاني. حسناً، أنت الآن ارتكبت مصيبة، وجاء أهله قائلين: يا رسول الله، أتأخذ هذا الرجل بدلاً من اليهودي؟ والله ما شأني بذلك. وما شأن يهودي ومسيحي؟ أين العدل؟ "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى". هل هذا الشاب سرق أم لم يسرق؟ إن سرق، فهو متهم فيها. اليهودي متهم فيها، أنه هو الذي سرق. لا يصح ألا يكون عدلاً، ألا يكون حقاً. الله يغضب، فاتقوا دعوة المظلوم. فإنها ليس بينها وبين الله حجاب، يعلمهم ويقول لهم: "دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله ولو من كافر".
ما علاقة الكفر بالعدل؟ الكافر حسابه مع ربنا يوم القيامة، أما العدل فهو أساس الملك. ابن أبيريق هو الذي هرب وارتد، وهذا هو السبب، أي أنه من سخطه. انظر إلى الدقة. حادثة هرقل، كان هناك عالم قال له: سخط على دينه، أما ارتد لأنه أحب امرأة، أو ارتد لأنه سرق ويريد أن يهرب، أو ارتد لأنه لم يدخل الإسلام أصلاً وكان منافقاً، أو هذا موجود، إنما ارتد سخطاً على دينه. قال: ما هذا الدين؟ هذا دين يأمرنا بالنجاسة. ويأمرنا بالظلم؟ لا، هذا لم يحدث! إنه يأمرنا بالطهارة ويأمرنا بالعدل ويأمرنا بالرفق ويأمرنا بالرحمة ويأمرنا بالتسامح وبصلة الرحم. دينٌ
جميل ليس فيه شيء غير جميل. هذا ما حدث: فبنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وبنى الاجتماع عن طريق المؤاخاة، وبنى الاجتماع عن طريق الفرد، وبنى الاجتماع عن طريق الوثيقة. إذاً عندما يلتفت إلى الداخل، تكون أول مهمة يقوم بها مؤسس الدولة هي البدء ببناء الداخل ولا يلتفت إلى الخارج، لأنه إذا صَلُحَ الداخل وقوي سيصلح الخارج، وسيعرف بعد ذلك كيف يتفاهم ويتعامل مع الآخرين. فلا يشغل نفسه بالخارج الآن. حسناً، الخارج لا يتركه، أو يتصدى له على قدر المستطاع، ولذلك حدثت.
مناوشات قبل بدر معدودة في الغزوات والسرايا وغيرها، لكن معركة بدر جاءت في السنة الثانية. إذن، السنة الأولى هذه مضت في ماذا؟ كلها مضت في تأسيس الدولة في الداخل. عندما أسس الدولة في الداخل بقوة، انتبه أن عدد الصحابة الذين قدموا من مكة كانوا مئتين وواحداً، خمسة وأربعون منهم هاجروا. قبله وحوالي مائة وخمسين هاجروا بعده تقريباً، وبقي عدد قليل في مكة، مائتا شخص. عندما توفي صلى الله عليه وسلم كان عدد الصحابة مائة وأربعة
عشر ألف صحابي. مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً فجمع كم؟ مائتين. ومكث عشر سنوات في المدينة فجمع كم؟ مائة وأربعة عشر ألفاً، وهذا هو. من أنه أسس الدولة تأسيساً جيداً، العنصر الأخير هو المال، فلما أتى المال أنشأ الدولة. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.