السيرة النبوية - الحلقة التاسعة والثلاثون

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم نعيش سوياً في ذكراها، لأن ذكراها تتنزل بها الرحمات وتحف المجلس ملائكة الرحمن، ويصير مجلساً في ميزان حسناتنا يوم القيامة. بذكر الصالحين تغفر
الذنوب، فما بالكم. بسيدِ الكائناتِ صلى الله عليه وسلم مع سيرتِه الشريفةِ نَرِدُها ونشربُ منها حتى يُنوِّرَ اللهُ قلوبَنا. وصلَ النبيُ صلى الله عليه وسلم المدينةَ واختارَ مسجدَه ونزلَ عندَ دارِ أبي أيوبَ الأنصاريِّ، فأكرمَ اللهُ أبا أيوبَ إلى يومِ الناسِ هذا. والكرمُ أتى بأنه حافَظَ سبحانه وتعالى على إيمانِه، فماتَ صحابياً مسلماً. كان مقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأُذِن له أن يركب البحر، فذهب مجاهداً إلى الروم، ونصره الله سبحانه وتعالى، ومات شهيداً. هذا هو الكرم الثاني. أما الكرم الأول فهو أن الله منّ عليه بحسن الخاتمة، فمات ورسول الله عنه راضٍ. والكرم الثاني أنه مات شهيداً، ودُفِن، ومدفنه الناس وإذا ذهبت إلى هناك رأيت المسجد وقد امتلأ بالماء عن آخره، ولم تستطع أي حكومة أو دولة أن تُنفِّر الناس عنه أبدًا إلا
أبا أيوب. وعلى قبره الشريف قبة، وفي القبة فتحوا بابًا وشباكًا، فإذا أرادوا الغيث والمطر كشفوا الشباك فنزل المطر. ما هذا الكرم العظيم! ها هو، تعالَ انظر، افتح النافذة. وكان أبو أيوب يدعو وهو في قبره. هل الأرواح تدعو وهي في قبورها؟ نعم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال هكذا: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، تُعرض عليّ
أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت غير ذلك استغفرت لكم" عليه الصلاة والسلام. فما زال سيدنا أبو أيوب يدعو للأمة، فما هذا الفضل العظيم؟ نعم، لأنه كان يحب النبي وكان مؤدباً مع سيدنا صلى الله عليه وسلم. وعلى أولئك قليلي الأدب مع الله ورسوله والصحابة أن يتوبوا، فقد شغلهم الشيطان بالشك عن الأنوار والعياذ بالله تعالى، فحرموا أنفسهم وأغلقوا. على أنفسهم بابًا فتحه الله لنا. سيدنا أبو أيوب، ضيف النبي عنده عندما حلّ بالمدينة. سيمكث فيها سيدنا
بهذا الشكل عشر سنوات: ستة [أعوام] اضطرابات داخلية وخارجية، واثنان بعد صلح الحديبية حتى الفتح [فيهما] شيء من الاستقرار، واثنان دخل الناس فيهما في دين الله أفواجًا وجاءته. الوفود والقبائل من كل ناحية أسلموا ودخلوا في الإسلام. هناك ستة وستون مرّوا بثلاث مراحل. ما الذي يحدث في المدينة؟ ما يحدث في المدينة أن بها مسلمون
لكن من قبيلتين: الأوس والخزرج، ومشركون لم يسلموا بعد من تلك القبيلتين: الأوس والخزرج، ويهود. واليهود ثلاث قبائل: بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو وهؤلاء قادمون هاربين من الطغيان الروماني قديماً وسكنوا وتسمّوا بأسماء العرب واشتغلوا بالتجارة والمزارع وتربية المواشي وما إلى ذلك واغتنوا وتحالفوا، فتحالف
بنو قينقاع مع الخزرج، والاثنان الآخران تحالفا مع الأوس، وهم بنو النضير وبنو قريظة، وبدأ الثلاثة يلعبون بين القبيلتين سياسة فرّق تسد ويجعلونهم يقاتلون بعضهم بعضاً. ويحقدون على بعضهم ويثيرون الخلافات بينهم، فهذا يتهم ذاك وذاك يتهم هذا، ويوقعون بينهم لكي يظلوا دائماً في أمان، ولا يتحد أحد ضدهم ليحاسبهم ويسألهم "من أين لك هذا؟". وهكذا كان بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، لم يكونوا على إدارة
جيدة ولم يكونوا متبعين لسيدنا موسى، وهذا هو. الذي يحزننا منهم أنهم يقولون إننا يهود ولا يتبعون من اليهودية شيئاً. عندما نقول لهم إن هؤلاء الناس سيئون، يقولون أنتم بذلك أعداء السامية. لا، نحن لسنا أعداء السامية لأننا ساميون، فكيف نكون أعداء أنفسنا؟ نحن أعداء قلة الأدب والإجرام والخيانة والاحتلال وإيذاء الناس وتعذيب الخلق وانتهاك حقوق الإنسان. الذي نحن أعداؤه هو النازية الجديدة والتسلط بغير حق وقلة الديانة وقلة الحياء، هذا ما نحن ضده. هل هناك من لا يوافقنا
على ذلك؟ فهذا ما نحن ضده. هل شتمنا سيدنا موسى؟ حاشا لله، فسيدنا موسى هو نبينا. هل شتمنا سيدنا عيسى؟ كيف يمكن أن يفكر أحد بذلك؟ فسيدنا عيسى نبينا لا نعرفه، فهذا أصل ديننا هكذا، ولكن ماذا سنفعل وماذا علينا إذا لم تفهم البقر بقرة وغير فاهمة، ماذا نفعل؟ حسناً، نحن لا شيء، فصبرٌ جميل. المهم أن المدينة مثلثة فيها المسلمون وفيها المشركون وفيها اليهود بخلاف مكة، والسيطرة ليست بيد
المشركين على المسلمين كما كان في مكة. والصحابة الذين يأتون ويجلسون يزدادون باستمرار، كان عددهم حوالي مائتين أو مائتين وخمسين في مكة، وصل منهم حتى الآن حوالي خمسين شخصاً، ولا يزالون قادمين. والمدينة صغيرة والناس ليس لديها موارد، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيم الأحوال، وبعد الفاصل نرى ماذا فعل سيدنا صلى الله عليه
وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم الحالة في المدينة الاقتصادية منخفضة. المهاجرون أكثر من خمسين وصلوا وما زالوا يتوافدون. المهاجرون لم يتعودوا هذا الجو من ناحية جو فيه تمكن وحرية ومن ناحية فيه عادات وتقاليد وأسلوب حياة مختلفة عما كانوا يفعلونه في مكة. حتى الجو مختلف وعندما يشعر الإنسان أنه غريب أيضاً، هذه مشكلة أخرى. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بدعاء: "اللهم حبب
لنا المدينة كما حببت إلينا مكة". ومرض أبو بكر ومرض بلال، فدعا لهما فقام من الحمى وقال: "اللهم انقل الحمى من يثرب إلى مكان كذا" وسماه، فانتقلت الحمى، يعني خيمة هكذا كأنها من. كانت الحمى في المدينة، فدعا النبي لأن أصحابه تعبوا بشدة، وبدعاء النبي تغير حال المدينة في هذا كرماً من عند الله. وإذ به يقوم بشيء عجيب غريب، يُعد مما لو كنا نصفه بأنه إبداع في التفكير، لكنه في الحقيقة وحي
من الله وتوفيق من الله. أنشأ نظاماً أسماه المؤاخاة واجتمع بتسعين، نصفهم من الأنصار ونصفهم من المهاجرين، خمسة وأربعين، أي قريب من الخمسين الموجودين، فآخى بينهم. أنت أخو هذا، فيكون مهاجر أخو أنصاري، ومهاجر أخو أنصاري، مهاجر أخو أنصاري. ولما آخى بينهم، بقي هو وسيدنا علي، فقال: "وأنا أخو علي وعلي أخي". وهكذا تمت القسمة. هكذا كان سيدنا علي جالساً على يمينه
وما الذي بينهما، وظل هو وسيدنا علي، فكانا يعني اثنين من المهاجرين بفضل من الله ونعمته. وكانت الصحابة قد بدأت تبني بيوتها حول المسجد بحيث تطل أبوابها على المسجد، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُسد تلك الأبواب تنظيماً. إلا باب علي، إلا باب علي. فُسِدت الأبواب إلا باب علي، وسُمح للأبواب أن يبقى فيها خوخة،
هكذا يسمونها خوخة. الخوخة تعني مشربية، أي قطعة هكذا، ما هي؟ مسقط نور، شيء هكذا، يعني شيء فوق هكذا لأجل ماذا؟ شراع، يطلقون عليها شراع، خوخة. ثم أمر أن تُسد الخوخ إلا خوخة بَكَرَ يعني استثناء في الآية في الإجراءات. بوابة سيدنا علي ظلت موجودة لأنه متزوج فاطمة عليها السلام. كَمُلَ من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون. فأراد أن يزور ابنته، فالنبي
صلى الله عليه وسلم جمع التسعين. من المهاجرين والأنصار وآخى بينهم. ما هو نظام المؤاخاة هذا؟ نظام يعني شيء جميل جداً، شيء غريب جداً. يأكلون مع بعضهم، ويعيشون مع بعضهم، ويضمنون بعضهم، ويرثون بعضهم. يعني لو مات أحدهم قام الآخر بوراثته. قال: والمؤاخاة مُقَدَّمة على ذوي الأرحام، لا يوجد شيء اسمه ابنه وأبوه. وأخوة مثل نظام الميراث الذي سينزل
بعد ذلك وينسخ المؤاخاة بعد أن تستقر الأمور. حدث بعد ذلك أن الميراث نزل ونسخ هذه المسألة، لكن هذا نظام يحتاجه الوقت أن نقيم المؤاخاة وأن يكون هناك ميراث. ما معنى الميراث؟ يعني أن لي حقاً عندك وأن لك حقاً عندي. ماذا يعني هذا؟ يعني إنشاء علاقات اجتماعية قوية، ماذا يعني؟ أي أنه لا يوجد شيء آتي وأقول لك شيئاً فتقول لي: وما شأنك أنت؟ وما شأنك أنت؟ نظام العاقلة في القتل هكذا، لو قتل ابن عمي شخصاً فأنا الذي أتحمل الدية، فابن عمي جالس يلعب بالبندقية هنا وهناك، فأقول له: لا تلعب بالبندقية حتى لا تصيب أحداً. قم اليوم لأنه لا يوجد عاقل يقول لي: "ما
شأنك أنت؟" أنا أريد أن أفهم ما شأنك أنت. في تلك اللحظة لا يستطيع أن يقول لي: "ما شأنك أنت؟" لأنني أنا الذي سأتحمل المسؤولية. انظر، إذن الأشياء التي هي الأحكام تصنع روابط اجتماعية في البيت تقول له: "لا، عيب، هذا ابن عمك الكبير، والله هو الذي سيدفع لك الدية". أمه ستقول له هكذا، وأبوه سيقول له هكذا، وأخوه سيقول له هكذا، والأستاذ الذي يعلمه في المدرسة سيقول له هكذا. أما اليوم فيقول لي: "سبحان الله يا أخي! فعلاً، لماذا يتدخل في شأنك يا..." أخي إنسان حر ومسؤول عن نفسه، فتفككت الحالة الاجتماعية لديه. هناك يركز
على أننا كلنا أمة واحدة، وأننا كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وأننا كالبنيان يشد بعضه بعضاً. كان سيدنا من مميزاته، وكلها مميزات، أنه يجعل الشيء البسيط يعمل ويحقق أشياء كبيرة جداً. يقول لك توضأ، ما رأيك؟ الوضوء هذا جعلك نظيفاً وجعلك تكره النجاسة والقاذورات، شيء بسيط جداً. يقول لك صلِّ، جعلك في علاقة بينك وبين الإله وبينك وبين القضية. يقول لك تآخِ، فهذا فيه قوة، أشياء بسيطة هكذا. وهذا هو منهج
ربنا سبحانه وتعالى أو فعل ربنا في الكون. ترمي بذرة بهذا الحجم فتنبت شجرة، ويحدث اجتماع بين رجل وامرأة فيُخلق إنسان. تعال الآن لنرى ماذا يصنع الإنسان؟ يجمع أشياء كثيرة جداً ليصنع تلفازاً، ويتعب كثيراً حتى يصنع طائرة. أي عكس النظام الإلهي تماماً، فالنظام الإلهي يلقي البذرة فينشأ منها شيء معقد جداً، بينما الإنسان يصنع شيئاً [بمشقة]. معقدة جداً لكي يحدث منها شيء بسيط جداً. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.