السيرة النبوية - الحلقة الثالثة والأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نعيش هذه اللحظات، عسى أن يحف هذا المجلس الملائكة الكرام، لأن بذكره صلى الله عليه وسلم تتنزل الرحمات وتحضر الملائكة وتبزغ الأنوار، وعند ذكره صلى الله. عليه
وسلم تطمئن القلوب وتنشرح الصدور، وبالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تتسع الآفاق وتصح الأعمال وتُقبل عند الله، فإن كل عمل يُقبل ويُرد إلا الصلاة على سيدنا رسول الله فإنها في حال القبول أبداً لتعلقها بالجناب الأجل صلى الله عليه وسلم. النبي صلى الله عليه وسلم في أول سنة. منذ سنوات الهجرة بنى الدولة وأنشأ المسجد وكتب الصحيفة وآخى بين المهاجرين والأنصار، ولكنه
لم يطمئن لكيد أهل مكة وللمشركين ولليهود في الداخل. فرضت المواطنة عليه أن يقبل الجميع وأن يعاهدهم على التكاتف ففعل. بدأ صلى الله عليه وسلم في توسيع الدائرة، فهناك طريق من مكة إلى الشام يمر بالمدينة. فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في تأمين هذا الطريق حتى لا يتحول من التجارة إلى الحرب أناس قادمون من مكة للتجارة
وأناس قادمون من الشام للتجارة. الشكل هكذا لا توجد حرب، فإذا تحول هؤلاء وهؤلاء إلى الحرب فإن المدينة ستضيع وسيحدث فيها ما يسمى في العسكرية الحديثة بالكماشة. من فوق وتحت ويقضي على المدينة، وهي فكرة لم تكن بعيدة عن أذهان المشركين. بعد ذلك بسنوات اتفق المشركون مع يهود خيبر على أن يهاجم هؤلاء من فوق وهؤلاء من الأسفل، كالكسارة أو الكماشة تحطم المدينة من الشمال والجنوب، فلا يعرف أهل المدينة أيلحقون بهذا الجانب أم بذاك. فسيدنا النبي يعلمنا ماذا؟ يقول
لك التفكير الاستراتيجي. ماذا نفعل في التفكير الاستراتيجي؟ أحسنت الآن وعملت معاهدات في الدائرة الصغيرة داخل المدينة يثرب، وسِّع الدائرة، وسِّع لتصبح استراتيجياً دائماً. كلمة استراتيجي أول ما فيها أنك توسع الدائرة، وسِّع الدائرة. فعمل عدة معاهدات مع القبائل التي على الطريق إما بالمحالفة. والولاء أن تقفوا معنا، وافقت بعض الناس، ووافقت قبائل، وإما أن تقاتلوا عدواً معنا، يعني إما بالسلب أو بالإيجاب. المعاهدات التي حدثت
على الطريق، ومنها جهينة على بعد ثلاث مراحل من المدينة، وأدى ذلك إلى رسم تأمين الطريق حتى لا يتحول من طريق تجارة إلى طريق حرب واستعداء. بأهل المنطقة من المشركين ولكن في معاهدات دولية أنك لا تضربني وأنك لا يمكن أن تخل بالمعاهدات الدولية وإلا يرتد عليك بعد ذلك بالبطلان ولا يصبح هناك معنى للكلام، ولذلك الناس تتفق وتتمسك باتفاقاتها إلى أن تحقق أهدافها. إذا بدأ في الخروج عن المدينة، هذه أول شيء
نستطيع أن نقول عنه ماذا؟ المعاهدات أول شيء، المعاهدات ثاني شيء، البعثات. ما هي البعثات؟ البعثات والبعوث هي سرايا تذهب لتقوم بالاستطلاع وترى ماهية الأمر. حسناً، هذا طريق قادم من الأعلى ومن الأسفل ويمر بالمدينة، فهل توجد طرق أخرى؟ هل هناك مجال للمناورة؟ نحن لا نعلم، لذلك يجب علينا رسم كل هذه الخرائط، فبدأت ما... يُسمى في السيرة بالبعوث، والبعوث تعني مجموعة أو
كتيبة تسير لكي تستطلع الأمر وترسم لنا الأجواء وتصنع لنا شيئاً ما إلى آخره. أين نحن الآن؟ في رمضان. في الحلقة السابقة تناولنا ربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأول وجمادى الثاني، والبناء الذي ذكرناه كله، أي معارجه بشعبان، وصل الآن إلى رمضان. فأرسل أول بعثة وعليها سيدنا حمزة أسد الله وعقد له لواء فكان أول لواء في الإسلام وكان أبيض اللون. عقد له راية كانت بيضاء وكانت أول لواء عُقد لسيدنا حمزة، فذهب
إلى سيف البحر. سيف البحر يعني ماذا؟ شاطئ البحر. المدينة في الداخل وليست على البحر، ذهب إلى سيف البحر لأجل... ليرى ما هو الأمر، ليرى الطرق، ليرى الجبال، ليرى إن كان أحد سيلتف علينا من هنا، سيلتف علينا من هنا. وهذه المنطقة هي مضارب قبائل مَن؟ جهينة التي عقد معها المعاهدة. إذاً رقم اثنين: المعاهدات والبعثات أو البعوث، هذان الاثنان هما الاستراتيجية الخاصة به صلى الله عليه وسلم لحماية المدينة ضد مكر مشركي مكة. واحتمال خيانة بعض من الداخل، فذهب حمزة
إلى سيف البحر. حمزة هذا عليه السلام كان فارساً نبيلاً شديد المراس، يعني فيه عناصر القائد، لا يقبل الضيم، مستعد للشهادة، واضعاً رأسه على يده. هذا معنى الكلام إذا رجعنا إلى الزمان الماضي، تكلمنا أن سبب إسلامه أن أبا جهل ضرب النبي وشتمه. فلما جاء من... كان صائد يعمل في رحلة صيد، فقالوا له: الرجل أبو جهل هذا، جارية قالت له: الرجل هذا شتم ابن أخيك وضربه، فذهب فشجّ رأسه مباشرة، هكذا ضربه في
رأسه جرحه. حمزة جرح أبا جهل وشتم آلهته وقال له: أنت تمد يديك على محمد؟ تعال، أنت لا تعرف. أنا أسلمت، هو لم يُسلم ولا شيء. حسناً، اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقامت قريش على حمزة تمسكه وتحيط به، فقال أبو جهل: دعوه، فإنني والله قد أسأت لمحمد، يعني تكلمت كلاماً سيئاً، وتلقى الضربة والجرح
الذي في رأسه. وأسلم حمزة. بعد الفاصل نرى ما سيحدث. الذي فعله سيدنا حمزة وقد ذهب في كتيبة إلى سيف البحر، عندما تقرأها في السيرة ستجدها مكتوبة هكذا "سيف البحر" أي شاطئ البحر. لا تقرأها "سيف البحر" وتبدأ بالبحث عن معنى كلمة سيف وما القصة. لا، هي ليست سيف البحر بمعنى السلاح، بل سيف البحر بمعنى شاطئ البحر. وبالفعل ذهب واكتشف أن هناك أناساً. جاءت ومعها أبو جهل الذي ضربه وأسلم بسببه لكي تتجرأ على رسول الله، فقال له: "ما الذي
أتى بك إلى هنا؟" قال له: "نحن نبحث عن طريق آخر". قال له: "لا، أنت أتيت إلى هنا لتضربنا، أنت أتيت إلى هنا لكي تضربنا، فلا بد أن أضربك". قال له: "لا تستطيع أن تضربني". قال له: "بلى، سأضربك". واصطفى للقتال، إنه حاكمٌ، فلو كان فيها قتال لكانت أول معركة في الإسلام إلا أنها لم تحدث. الآن حدثت المعركة في رمضان التالي بعد سنة. نحن نتحدث الآن في رمضان السنة الأولى من البعثة، سيف البحر قال له: "لا تستطيع أن تضربني"، فأجاب: "بلى أستطيع أن أضربك". اصطفى للقتال، فجاء واحد من... بنو جهينة، الذي هو زعيم جهينة، وكان حليفاً لهما، كان قد عقد معاهدة مع النبي، ومعاهد أي
حاجز بينهم فمنع القتال. حمزة احترم المعاهدة، فيجب عليه أن يراعي خاطر الجهني، والآخر يحتاج إلى الجهني أيضاً من أجل الطريق، فدخل الجهني بينهما فحاشهما، أي لا تتقاتلا، ورجع سيدنا حمزة يحكي لسيدنا صلى الله. عليه وسلم ما كان من أمر أبي جهل ومن فوائد هذه البعثات أننا أصبحنا في رمضان وكان أهل المدينة أيضاً يحبون العمرة في رمضان فذهب سعد بن معاذ. حدث أن أبا جهل وسعد بن معاذ ذهب في عمرة
إلى مكة حيث كانت مكة لا تزال مشركة ولا تزال فيها أصنام وكل شيء فذهب سعد. ذهب معاذ إلى مكة معتمراً، فلما نزل أحس بأن المشركين سيصنعون مشاكل لو رأوه. كانت بينه وبين أمية بن خلف تجارة ومصالح. كانوا ينادون أمية بن خلف: "يا أبا صفوان". قال له: "يا أمية" أو "يا أبا صفوان، أريد منك أن تجد لي وقتاً مناسباً لأطوف حول". الكعبة لأجل عمرتي أطوف حول الكعبة، قالوا: حسناً،
سأجد لك وقتاً مناسباً تماماً لا يوجد فيه أحد حول الكعبة. متى يكون هذا الوقت؟ في عز الظهيرة حيث الجو حار ولا يوجد ظل ولا شيء والحرارة شديدة. في ذلك الوقت لن تجد أحداً حول الكعبة، فخرج في عز الظهيرة. هكذا وقال له هيا الآن طُفْ لأنه لا يوجد أحد. إنهم ذاهبون إلى الكعبة لكي يطوف السبعة أشواط الخاصة به، وبعد ذلك بين الصفا والمروة، وتكون قد تمت عمرته. وفي وجههم من هذا المنكد الذي يُدعى أبو جهل. قال: ما الأمر يا أبا صفوان؟ من هذا الذي
معك؟ فأجابه: هذا سعد بن معاذ. قال: آه، ذلك الذي من يثرب. أجل والله لا تصلوا إلى البيت، وهنا أعلن المشركون منع المسلمين من العبادة. والله لا تصلوا إلى البيت. أول مرة، ما هذا أبو جهل! زعيم من؟ زعيم مكة. والله لا تصلوا إلى البيت، فقد آويتم الصبية. ألستم أنتم الذين آويتم المسلمين وكذا والذين تتظاهرون بذلك؟ لن تصلوا أبداً إلى البيت. فرد... عليه سيدنا سعد بن معاذ فعلا صوته، أي أن عزة الإيمان أخذته،
فقال له: "والله يا أبا جهل، أنت - كما نقول في عاميتنا - لا تساوي بصقة، وأنت لست على قدر الكلام الذي تتفوه به. والله لو منعتني مما أريد لأمنعنك مما هو أشد عليك، سأمنعك من الطريق". الشام ما هو في المدينة سيقطع عليه طريق الشام. أنت تعتقد ماذا؟ فأول ما سمع أبو جهل هذه الكلمة تراجع، لأنها تتضمن أموالاً. يقول له: حسناً، أنت منعتني، أنا لم أخسر شيئاً، لم أخسر أموالاً، حسناً أنا سأمنعك من الشام، ما رأيك؟ قال له: لا من فضلك، والله
لولا أنك... مع أمي ابن خلف لكنت رأيت مني وجهاً. قال له: لا عليك، لا عليك، القضية ليست قضية لا أمية ولا خلف، إنها قضية مصالح. ووالله ما هو ساعدني حتى أصبح كبير المدينة حينها من الأوس والخزرج وهكذا. والله لأمنعنك مما هو أشد عليك من ذلك من طريق المدينة تخلى أبو جهل وعم سيدنا سعد بن معاذ أدى عمرته وعاد آمناً إلى المدينة. النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً بعث بعثة إلى رابغ، وعيّن عليها يعلى بن
الحارث بن المطلب. ورابغ هذه أيضاً مدينة على البحر. يعني هم يريدون أن يدرسوا هذه المنطقة، درسوها جيداً، أرسلوا واحدة واثنتين وثلاثة، وأرسل بعثة. إلى بدر لترى كيف الحال وكيف سيأتي هجومهم علينا ومن أي اتجاه. وكانت حراسة سعد بن أبي وقاص. قلنا إن سعد بن أبي وقاص جاء ليحرسه ليلة. أبداً، لقد كانت كل ليلة. ماذا فعلوا؟ حراسة ليلية، حتى نزل قوله تعالى: "والله يعصمك من الناس". فلما نزل قوله تعالى: "والله يعصمك من الناس"
أخرج رأسه من الخباء وقال: "انصرفوا فإن الله سبحانه وتعالى قد عصمني. لم أعد بحاجة إلى هذه الحراسة المتتالية والشرطة التي تحتاج إلى تنظيم: من الذي عليه الحراسة الليلة؟ هل حضر أم لم يحضر؟ هل سلاحه كامل أم لا؟ أين سيقف؟" فجعل على هذا التنظيم قيس بن سعد بن عبادة، وقيس بن سعد. كان بن عبادة من العماليق كما ذكرنا، وكان طوله مترين وثمانين، وكان إذا ركب الفرس خطت رجله في الأرض. أي أنه كان قائداً كبيراً، وقد حفظ الله نبيه وحفظ دينه وأيده
وسيؤيده إلى يوم الدين، فهو سيد الكائنات. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.