السيرة النبوية - الحلقة الثالثة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، كنا قد وصلنا إلى أوائل السنة السادسة وبعض الأحداث التي وقعت فيها، ومنها إسلام سيدنا حمزة الذي أسلم عندما رجع من القنص (رحلة الصيد)، ذكرنا أن هناك أمَةً لعبد الله بن جدعان، وكان بيت ابن جدعان خلف الصفا، والصفا الذي يذهب إليه المرء للعمرة أو الحج
يعرفه. كانت خلفه تطل على الكعبة، فرأت أبا جهل وهو ممسكٌ بحجرٍ ضرب به رأس النبي صلى الله عليه وسلم فأدماه. كان أبو جهل قليل الأدب، طويل اللسان، فاحشاً فسب النبي صلى الله عليه وسلم أمام قريش والنبي لا يرد عليه. كانت الجاهلية تسبك حتى تسبه، فيسبك حتى تسبه، كانت هكذا. يقول شاعرهم: "فنجهل فوق جهل الجاهلين" يعني
هم يجهلون علينا ونحن نجهل عليهم، وتستمر هذه المسابة وقلة الأدب والفاحشة هكذا، ولذلك سيدنا صلى الله عليه وسلم. مما علّمنا من الأدب قال: "لا ينبغي لأحدكم أن يسب أباه وأمه". فقالوا: "هل يسب أحدنا أباه وأمه يا رسول الله؟" قال: "نعم، يسب أحدكم أبا الرجل فيسب الرجل أباه وأمه". فكنت بهذا الشكل قد - يعني - كنت سبباً في هذا الرد، وكان سيدنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا قال له بعدم الإساءة، يعني: وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ لكنه صلى الله عليه وسلم لا يرد
الإساءة بالإساءة. فقد سبَّ رجلٌ أبا بكر في حضرة النبي، والنبي ساكت وأبو بكر ساكت. فلما تمادى في السب ولم يقف، لم تكن له نقطة يقف عندها، فرد عليه أبو بكر. بكلمة فقام النبي وانصرف أبو بكر الذكي الشفاف الصادق، قام خلف النبي وقال: "يا رسول الله، ألم ترَ أنه يسبني؟" قال: "لقد كان هناك ملك يرد عنك، فلما رددت قام الملك فقمت"، يعلمنا طول البال وهدوء البال عليه الصلاة والسلام. النبي
صلى الله عليه وسلم سبه أبو جهل وضربه ورأت. الأمة أمة عبد الله بن جدعان، وعبد الله مات في الجاهلية غير مسلم، فلما جاء حمزة تعرضت له الأمة وقالت: "فعل أبو جهل بابن أخيك كذا وكذا وكذا". فغضب حمزة. أبو جهل بن هشام هذا من بني مخزوم، وسيدنا حمزة من بني هاشم، فذهب فلحق به عند الكعبة، فأول ما... رآه فقال له: "أتسب وتضرب بالحجر ابن أخي وأنا على دينه يا فاسق!" وضربه بالقوس
فشجَّ رأسه وأدماه كما أُدمي سيدنا النبي. فقام بنو مخزوم يدافعون عن أبي جهل، وقام بنو هاشم يدافعون عن حمزة. فقال أبو جهل: "دعوه، فإنني والله قد سببته سباً عظيماً، أنا الذي أخطأت والله يجزي". هذا على لسانه قهراً لأنه قليل الأدب وفاحش، إنما الله سبحانه وتعالى كان يفعل في أبي جهل هذه أفاعيل عجيبة الشكل. مرة في السنة السادسة هكذا أسلم حمزة، ولاقى المسلمون فيها إيذاءً شديداً، ولاقى سيدنا النبي إيذاءً شديداً عليه الصلاة
والسلام، منها أنه كان ساجداً فقال خبيث قريش إن بنو فلان ذبحوا اليوم شاةً فأتونا بكرشها، الكرش الذي يسميه المصريون "الكرش" وهو في اللغة العربية الفصحى "كرش" ووسخها وقذرها، فألقوه على محمد وهو ساجد. فذهب عقبة بن أبي معيط وأتى بهذه الأوساخ والقاذورات والكرش ووضعها على ظهر محمد صلى الله عليه وسلم. من كان معهم في ذلك الوقت يروي عبد الله بن مسعود من
الأوائل وكان مع سيدنا النبي في الكعبة خلف النبي. قال عبد الله: "وكنا قلة وكانوا كثرة، وكنا ضعفاء وكانوا أقوياء، فلم نستطع أن نفعل شيئاً، ولم يقدروا على منعه من أن يضع هذه الأشياء، ولم يقدروا على إزالتها". لتعرف مدى الجبروت الذي كانوا يعيشون فيه جاءت ابنته فاطمة، وهم يقولون ماذا مع بعضهم؟ قالوا إنه يتطهر لصلاته، فافعلوا فيه هذا حتى نعلم كيف يتطهر، يعني سخرية واستهزاء وأذية متناهية. فجاءت فاطمة عليها السلام، وكانت ابنته صغيرة هكذا، فصرخت
في وجوههم وأزالت القاذورات من على ظهر أبيها وطهرته بالماء وهو ما زال يصلي، ما زال في فلما فعلت هذا أتم صلاته ثم أقبل يدعو عليهم. قال ابن مسعود: فوالله ما دعا على أحد منهم، دعا على سبعة حفظ ابن مسعود ستة ونسي السابع. قال: فوالله ما دعا على أحد منهم إلا رأيت مصرعه في بدر، يعني ماتوا كلهم على الكفر ممن آذوه من هؤلاء، منهم أبو... جهلٌ ومنهم عتبة بن ربيعة، هذا عتبة بن ربيعة كان من
أغنياء قريش، وكان له حدائق وبساتين ومزارع وشجر ونخل وفاكهة في الطائف. وكان من أولاده الوليد بن عتبة بن ربيعة، ومن أولاده أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة. منَّ الله على أبي حذيفة فأسلم والوليد. الذي هو الكبير الذي كانوا ينادونه به يقولون له يا أبا الوليد لم يكن كذلك، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام دعا عليه الوليد بن عتبة وعتبة بن ربيعة الاثنين وأبو جهل وغيرهم إلى آخره وعقبة بن أبي معيط هذا
وستة، يعني بذكر الصالحين تتنزل الرحمات، لن نذكرهم. لكنَّ سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام دعا عليهم، وهم أيضاً كانوا بعد أن ضربوا عماراً وضربوا بلالاً وضربوا الناس كلها. أبو حذيفة هذا الذي كان ابنه غنياً، أصبح أبوه غنياً، قد تقشف ولبس الصوف والفرو وأسلم مع النبي وترك
مال أبيه، والله أعلم. بسم الله الرحمن. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في السنة السادسة اشتدت حركة قريش، السنة السادسة من الوحي، من بدء الوحي، اشتدت حركة قريش في الإيذاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأتباعه. وفي هذه السنة أسلم حمزة وأسلم عمر، وبدأ ينزلان سوياً قبل ذلك في مكة وفي السنة السادسة ذهبوا إلى أبي طالب يطلبون منه
أن يكف شر ابن أخيه عنهم وأنه يذكر آلهتهم بسوء "ودوا لو تدهن فيدهنون" أسكت ونسكت. هم لم يكونوا يعنون أسكت عن سب آلهتنا ونحن نسكت، فنزل قوله تعالى: "ودوا لو تدهن فيدهنون" في السنة السادسة. ذهبوا إلى أبي طالب وقالوا له ذلك فردهم بخير وقال لهم إن شاء الله سأكلمه وحاضر وطيب، وطيَّب خاطرهم بكلام. فلما عرض الأمر عليه قال: "والله يا عمي، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتى أهلك
دونه". قال: "يا ابن..." أخي فامضِ على ما أنت عليه، ويبدو أن أبا طالب كان مقتنعًا في قلبه من الداخل لما رآه من بَحِيرَا الراهب، ولما سمعه من أبيه عبد المطلب في شأن هذا المولود، ولما تناقلته العرب بشأن من اسمه محمد، يبدو أنه كان يشعر في داخله بالإيمان وأن هذا الرجل صادق في هذه السنة عتبة بن ربيعة، هذا ابنه مسلم أبو حذيفة، وابنه الثاني غير مسلم الذي هو الوليد. عتبة
بن ربيعة كان جالساً وقال لهم: "يا جماعة، دعوني أذهب وأتحدث وأتفاهم مع محمد، دعونا ننهي هذه القصة. نحن والله متضايقون، وليعبد الرجل ما يعبده"، كان يعني عنده شيء. من الآن الحرية هكذا، فدعنا نتفق. فذهب وقال له: "يا ابن أخي، أنت فينا كما علمت من سادة الناس، يعني من أعلاهم وأوجههم"، وهكذا إلى آخره. "وتؤذينا بسب آبائنا وآلهتنا". وجلس يتكلم معه في هذا الشأن ويقول له: "أنت تعلم أنني من الأغنياء، فإذا أردت مالاً جمعنا لك
مالاً". حتى تكون أغنانا وأكثرنا مالاً، وإذا أردت جاهاً فإننا لا نقضي أمراً ولا مشورة إلا بعد الرجوع إليك، وإن أردت بهذا الأمر مُلكاً ألبسناك تاج المُلك وجعلناك ملكاً علينا نعتز بك وسط العرب. هم طبعاً العرب يعرفون المُلك في الحيرة وفي غسان، ويعرفون هذه الطريقة الملكية وكيف يكون الملك في... أبها وفي كذا إلى آخره قال: يا أبا الوليد، ها هو الوليد ظهر، ها هو الوليد بن عتبة، وما هو إلا أن عتبة يكون أبا الوليد. قال له: يا أبا الوليد، انتهيت؟ قال: نعم،
فقرأ عليه سورة فصلت. قرأ عليه من سورة فصلت ثلاث عشرة آية. فعاد عتبة بن ربيعة واللهِ إنَّ أبا الوليد رجع بالوجه غير الذي ذهب به، رجع بوجه غير الذي ذهب به. هو ذهب وفي وجهه أنه سيُقنع محمداً، لكنه رجع كما نقول في العامية مُطأطئ الرأس، ناظراً إلى الأرض، شارداً. قال لهم: انظروا، لقد سمعتُ كلاماً ليس من كلام البشر، وإنني أرى... هذا الأمر فأطيعوني ولو مرة واحدة، دعوه وشأنه،
فإن غلبته العرب فقد كفتكم، وإن لم تغلبه فلكم العزة به. اتركوه، لا، أحسن، هذا الكلام كلام آخر، هذا كلام له سحر وليس كهانة ولا شعراً ولا شيئاً آخر إلى آخره. قالوا له: أسحرك محمد يا أبا الوليد؟ قال: لهم هذا رأيي وافعلوا ما شئتم، وقام واعتزلهم الوليد بن المغيرة أبو سيدنا خالد. كان عنده إحدى عشرة ولداً. الوليد بن المغيرة هذا، فالوليد بن المغيرة المخزومي هو
عم أبي جهل. الوليد بن المغيرة كان عنده إحدى عشرة ولداً، تسعة منهم ماتوا واثنان أسلما. تسعة ماتوا في حياته واثنان أسلما خالد بن الوليد والوليد بن الوليد، وكان أحدهما سيف الله المسلول الذي هو سيدنا خالد بن الوليد. قال لهم: "دعوني أذهب إلى محمد، لعلي أنجح فيما فشل فيه عتبة بن الربيعة". فذهب إلى سيدنا وتكلم معه بنحو ما تكلم عتبة، ولم يأتِ بشيء جديد. فقال له: "انتهيت؟"، فأجابه: "نعم". قال له وقرأ عليه أيضاً شيئاً
من القرآن يمكن أن يكون سورة الرحمن. الرجل قال له: طيب، لكن خلاص السلام عليكم، ومشى ذاهباً إلى المشركين. قال لهم: سمعت كلاماً والله ما سمعت مثله قط، فإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وما هو بقول قالوا له: "ما الأمر يا وليد؟ يعني نحن نذهب بك وبعد ذلك تفعل فينا هكذا؟" فقال أبو جهل: "يا جماعة دعوني أذهب". قالوا
له: "لا، ما معنى تذهب؟ أصبح كل من يذهب يرجع بهذا الشكل؟" قالوا: "حسناً، ماذا سنفعل في هذا الوليد؟ الوليد أصبح غاضباً منا الآن". الوليد لو أسلم أسلمت وراءه قريش. الوليد ابن المغيرة أسلم، فقال: "دعوني أذهب لعمي". وما هو؟ ما هو؟ الوليد بن المغيرة كان عم أبي جهل، فذهب إليه وظل يجعله ثائراً على بني هاشم حتى ظلا على كفرهما. وعاد الوليد مرة أخرى، وآذى النبي كثيراً في العام السادس. وإلى لقاء آخر. نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته