السيرة النبوية - الحلقة الثانية والأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار النبي المصطفى والحبيب المجتبى وسيرته العطرة نعيش هذه اللحظات، نستهدي منها المواقف والحِكَم والأحكام، فهو بابنا إلى الله عليه الصلاة والسلام. وأغلق الله الأبواب إلا باب النبي صلى الله
عليه وسلم. تعيش. في حبه وتموت في حبه وتُبعث تحت لوائه يوم القيامة وتتخلق بأخلاقه الكريمة، قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وكما رأيناه يهدي الناس في مكة ويدعوهم إلى الإسلام، ويبين للمسلم كيف يعيش في وسط غير المسلمين، وما الذي يبدأ به، وما الذي يفعله، وما الذي لا يفعله، وكيف أمر أصحابه. بأن يهاجروا هجرة آمنة إلى الحبشة، وكيف عاش الصحابة في الحبشة مع غير المسلمين الذين يحترمون الإسلام ويقدرونه ويتركون للمسلمين حريتهم في اعتقادهم، وكيف يعيش المسلمون في
هذا العصر الذي نحن فيه في بلاد غير المسلمين الذين لا يحاربون الإسلام ويعترفون به ويتركون المسلمين يدرسون دينهم لأبنائهم ويمارسون شعائرهم من صلاة وصيام ودفن للموتى وأكل للحلال دون قهر ولا تدخل، وكيف يعيش المسلمون أيضاً في بلاد الإسلام التي تعددت طوائفها وتنوعت أديانها. فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ودخلها وفيها المشركون وفيها اليهود وفيها المسلمون، وكانوا حينئذٍ قلة لا يتجاوز عددهم المائة وفي أول سنة من الهجرة. بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا المسجد
كمؤسسة ينطلق منها، فكان المسجد حينئذٍ داراً للعبادة ومدرسة للتعليم وداراً للقضاء وتهيئة للإدارة التنفيذية (الوزارة)، وكانت القبلة ولمدة ثمانية عشر شهراً متوجهة إلى بيت المقدس، حتى تحولت بعد ذلك في منتصف شعبان من السنة الثانية، أي بعد ثمانية عشر من ربيع الأول الذي شرَّف فيه النبي المدينة إلى صفر، أي اثني عشر شهراً، صفر من السنة الثانية، ثم ربيع الأول، ربيع الآخر، جمادى الأولى، جمادى الآخرة، رجب، شعبان، خمسة
عشر من شعبان. فيكون قد مضى كم؟ ستة أشهر تقريباً، والسنة تكون ثمانية عشر شهراً، فيكون في الخامس عشر من في السنة الثانية تحوّلت القبلة في منتصف شهر شعبان. "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها". النبي صلى الله عليه وسلم كتب صحيفة المدينة كما ذكرنا، فألّف بين الطوائف: اليهود والمشركين والمسلمين، وجعل عمود هذه الصحيفة الوطنية التي يقول عنها بعض الناس أنها بدعة. لا، الوطنية ليست
بدعة، ولا شيء، هذه حالة ذُكرت في وثيقة المدينة، وكلهم يدافع عن يثرب كل من جانبه وعليه نفقته، وكلهم يدافع عن يثرب كل من جانبه من المنطقة الخاصة به وعليه نفقته. يعني الفيدرالية هي هذه، هذا نوع من أنواع الفيدرالية، قسَّم المدينة أقساماً، كل قسم يدافع عن. نفسه وأيضاً يُموِّل نفسه بميزانية ذاتية، يعني عندما نريد أن نطور هذا سنعمل حكومة فيدرالية، وهذا هو ما قبل الفيدرالية، ولكن لأننا لا نقول فيدرالية وما قبل الفيدرالية وما
بعد الفيدرالية، أصبح الناس يظنون أن هذه النظم جديدة، أي ليس لها أصل. لا، سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم. جعل المشرك واليهودي والمسلم كتفاً بكتف يدافع عن يثرب، فهذه هي الوطنية. ما هي الوطنية؟ إنها هذه: يثرب هو وطننا جميعاً، ما دام قد أظلتنا سماؤه وأقلتنا أرضه، فيجب أن ندافع عنه. وأيضاً أدخل في النظام العسكري الإداري أن كل شخص يفهم منطقته ويعرف كيف يدافع عنها. فيدافع من قبله وكذلك المال والمؤن عليك. لماذا العجب؟ يعني المؤونة عليك لأنك تدافع عن وطنك. حسناً، أنا هكذا صرفت
كثيراً لأن الهجوم جاء من ناحيتي وأنتم لم تصرفوا. سنحلها لاحقاً، فمصلحة الوطن أهم وأعلى من الحساب الآن. المؤونة عليّ؟ نعم، المؤونة عليك. لماذا؟ هكذا قُدِّر لك، فالوطنية مقدمة على... مصالحك الشخصية، معنى الكلام هكذا، الكلام معناه هكذا، يعني أن الناس الذين يقدمون مصالحهم على مصالح الوطن لا ينفعوننا، والناس الذين يقدمون مصالح الوطن على مصالحهم الشخصية هم الذين ينفعوننا في أي نظام كان. لماذا؟ لأن سيدنا فعل هكذا أول ما دخل المدينة، جمع الناس. من هم هؤلاء الناس؟ ليس لكن المسلم وغير المسلم في
إنشاء المسجد وكتابة الصحيفة وآخى بين المهاجرين والأنصار. وهناك طرف رابع خفي وهم الغرباء الذين دخلوا، فآخى بين المهاجرين والأنصار. وبعد ذلك، مكة من الناحية التي نسميها الآن في أدبيات الخطر الخارجي، أصبحت مصالحها مهددة، فهؤلاء الناس ذهبوا وأصبحت لهم مدينة وأصبحت لهم بؤرة ينطلقون منها وأصبحت لهم دولة، هذه عملية خطيرة جداً، سيتركوننا وفجأة سيهاجموننا. أبو جهل يفكر هكذا، وأمية بن خلف، وكل واحد على قدر عقله. أصبحت مصالحنا مهددة، فأرسلوا
رسالتين. جماعة المشركين أهل مكة أرسلوا إلى المدينة رسالتين. نحن الآن سيدنا دخل في ربيع، الثاني، يعني لا يوجد شهر خمسة. عشرة أيام أرسلوا الرسالة الأولى لعبد الله بن أبي. كان عبد الله بن أبي سيُتوَّج، كما ذكرنا قبل ذلك، ملكاً على الأوس والخزرج، ملكاً على المدينة. وكان قد أجرى اتصالاته مع اليهود ورتب أموره. كان حاقداً على النبي لأنه جاء فأخذ منه السلطان، والنبي لا يريد أن يأخذ منه السلطان هي طبائع الأمور وجريان القدر، عبد الله
ما زال إلى الآن مشركاً. عبد الله بن أبي أسلم بعد ذلك والتف والتوى على سبيل النفاق، لكننا الآن نتحدث في ربيع الآخر بعد شهر من قدوم سيدنا، أي أنه ما زال مشركاً، إلا أن الصحيفة قد تمت والمؤاخاة قد تمت والمسجد قد والرسالتان أُرسلتا من المشركين أهل مكة، قالوا له: "أنت سيد قومك وزعيم أهلك، وقد آويت الصُّبأة" - الصُّبأة يعني الذين صبؤوا عن ديننا والشرك الذي كنا فيه ودخلوا دينًا آخر أتى به محمد اسمه الإسلام - "فآويت
الصُّبأة، وعندما آويتهم بهذا الشكل، فنحن غير راضين عن ذلك، فأخرجهم وقاتلهم، وإلا سنمنحكم مكة قوية والناس هؤلاء صامدون، فماذا كان من حال عبد
الله بن أبي؟ فجمع أصحابه ونظمهم لقتال محمد وصحبه، اجتمعوا وقال لهم: "هيا الآن جهزوا أنفسكم، سنحاصرهم في المكان الفلاني وهم يصلون، هم يفعلون، سنحيط بهم وهم يصلون، أو مثلاً يوم الجمعة حيث يجتمع الناس بكثرة، ونقضي عليهم وننتهي"، عبد الرحمن بن كعب فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فذهب إليه، ليس بمعنى أنه جهز العدة لكي يقاتلهم ويستأصلهم ويصل الدم إلى الركب،
وإنما ذهب إليه وقال له: اجتمع معهم هكذا عبد الله بن أبي ومن معه من أصحابه الذين ما زالوا مشركين، وقال لهم: غركم ما على الفور هكذا والله لا يبلغون منكم أكثر مما تريدون أن تبلغوا بأنفسكم. أتقتلون إخوانكم وأبناءكم وآباءكم لأجل قريش؟ والسلام. وإن مشي عبد الله بن
أبي هذا سياسي عظيم، يعني رجل كان سيصبح ملكًا، فاهم الأمر. فنظر في عيون الذين معه هكذا، فوجدهم أنهم اقتنعوا، يعني يفهمها وهي طائرة. ذكي أي أن كل واحد انصرف قال له: "حسناً، سألقاك غداً يا عبد الله، بدلاً من أن نذهب لقتال المسلمين، سنقابلك غداً يا عبد الله". فامتنع عبد الله بن أبي عن القتال بسبب ما رآه من أصحابه. وماذا نستفيد من هذا؟ المبادرة، فبعض الحكام للأسف يتركون الأمور. تضرب وتقلب ثم يقول لك المشكلة ستحل نفسها بنفسها، ويبقى
صامتاً فتتفاقم المشكلة ولا تحل نفسها. في حين أن سيدنا بمجرد أن سمع أنهم يُحضّرون ذهب إليهم. ما تستفيده من هذا أنك تخاطب الناس على قدر عقولهم، وعندما تذهب لتتحدث مع الشخص، ما هو مدخله؟ ما هو أسلوب مدخل، يجب أن تفهم مدخله، هؤلاء جماعة من المشركين وسيضربوننا، وبينهم وبين مكة مصالح، فيُعد ذلك من العصبية القبلية. سيضرب أباك وأمك، سيضرب أخاك وأختك، نعم، لا، هذه كبيرة عنده، هذا عار يبقى معه. هو يعرف ذلك، هكذا عرف كيف يكلمهم، عرف عقليتهم. إذن النبي أيضاً يعلمك أنك عندما تأتي. تخاطب الناس بطريقة لائقة
ولا تخاطبهم بفظاظة، بل تخاطبهم من المدخل الصحيح الذي يصل إلى قلوبهم. ولذلك كان الناس يزدادون إقبالاً عليه لأنه دائماً يراعي قلب من أمامه ويدخل منه. لا يعجزه ولا يمنعه أنك لست مثله، فهو لا يلزم الناس بأن يكونوا مثله أو أن يتبنوا منهجه ومدخله، بل لماذا [هذا] المشرب؟ من أين أدخل إليك؟ [هذا] المشرب الخاص بك. يجب أن نفهم أن سيدنا صلى الله عليه وسلم يُعلمنا الحكمة، يُعلمنا كيف نخاطب [الآخرين]. فأول شيء: لا تحقرنّ صغيرة، إن الجبال من الحصى. لا تقل هذه مسألة بسيطة [أو] هل يعرفون أن يفعلوا شيئاً يا
عمي؟ لا. ثانياً، تفاهم معه وأدخله من المدخل الخاص به، فكل شخص له مدخل خاص. عليك أن تتعلم طبائع الناس ومداخلهم حتى تصل إلى قلوبهم. فماذا فعلوا؟ ذهبوا، وكانت هذه الرسالة الأولى من مكة التي أرسلوها لعبد الله بن أبي بن سلول لكي يثيروا فتنة في المدينة، على أمل أن يصحح أهل المدينة. هذا الذي رآه المشركون خطأً وهو أن المسلمين أصبحت لهم دولة، فيقضوا على المسلمين ونتخلص منهم. هذه كانت الرسالة الأولى، كان تفكيرهم هكذا. أما الرسالة الثانية فهي موجهة للمسلمين أنفسهم:
"على فكرة، أنتم تظنون أنكم هربتم، لكن أموالكم وبقية أولادكم وعقاراتكم عندنا، وسنتصرف فيها. ثانياً، سنأتيكم فنقاتل مقاتليكم الأقوياء". الذين فيكم الذين يقاتلون سنقتلهم ونستبيح نساءكم، كل هذا ماذا يفعلون به؟ أقول سنقتلكم وسنقتلكم ونحن قادمون إليكم، على فكرة نحن في الطريق. إذن هذه يسمونها الآن الحرب النفسية. نحن نتحدث الآن في أي وقت؟ ربيع الآخر، جمادى الأولى، جمادى الآخرة على أقصى
تقدير، يعني في هذه الفترة، في هذه المشركون أرسلوا رسالتين، واحدة للمشركين وواحدة للمسلمين. الظاهر التفاهم والباطن التهديد والوعيد. عرضوا الأمر: من هو ملجؤهم؟ سيدنا، وهذا يبين أهمية القيادة وأنه يجب أن تكون لنا قيادة نرجع إليها. كنا إذا اشتد الوطيس احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم. تلقى رسالة تهديد قادمة. النبي عليه الصلاة والسلام ذكي. عَرَفَ
أن هذا تهديد له، هم يهددونه هو وليس المسلمين. لم يرضوا أن يرسلوا له حتى لا يأتيهم، فأرسلوا إلى من حوله ورسالتهم له تعني: سنقتلك، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فسيدنا صلى الله عليه وسلم عرف أنه مهدد بالقتل، فماذا نفعل؟ نتخذ الأسباب. وما الأسباب للحراسة ليلاً؟ فجلس هكذا لا يريد أن يكلف أحداً، فالناس مرهقة
ومتعبة. فقال: "اللهم اشرح صدر أحد من المسلمين أو رجل من المسلمين يبيت عندنا فيحرسنا"، لأنه هو نفسه لم ينم، فاتح عينيه ينتظر الذي سيأتي ليقتله، عليه الصلاة والسلام. فلما قال هكذا، يبدو أن الخبر قد انتشر هكذا فهو في حجرته بجوار المسجد سمع خشخشة سلاح. السلاح في ذلك الزمان كان كله حديداً في حديد، وسمع
جلبة. فكر أن هذا قد يكون هو الذي جاء ليقتله، فخرج وأخذ السيف معه. وعندما نظر، وجد سعد بن أبي وقاص. فسأله: "ما الذي أخرجك يا سعد؟" فأجاب: "وقع في قلبي عليكَ يا رسولَ الله، فجئتُ أبيتُ عندك لأحرسك صلى الله عليه وسلم، فدعا له صلى الله عليه وسلم. وكان سعد بن أبي وقاص ممن جمع رسول الله بين أبيه وأمه لفدائه. قال: "ارمِ فديتك بأبي وأمي". ما فعل أبداً مع أحدٍ إلا مع سعد هكذا، وبات سعد يحرس رسول الله. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً الفداء
هو العمل واتخاذ الأسباب. وإلى لقاء آخر، أستودعكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله