السيرة النبوية - الحلقة الحادية والعشرون

السيرة النبوية - الحلقة الحادية والعشرون - السيرة, سيدنا محمد
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا رسولِ اللهِ وآلهِ وصحبهِ ومن والاهُ. مع أنوارِ النبيِّ المصطفى والحبيبِ المجتبى صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ، نعيشُ سويًا هذهِ اللحظاتِ في أنوارهِ الشريفةِ ومقاماتهِ المنيفةِ. وصلنا في سردِ سيرتهِ التي نتباركُ بها إلى السنةِ الخامسةِ من الهجرةِ، وذلك أننا ذكرنا... أن الدعوة في مكة ظلت نحو ثلاث عشرة سنة وهي مقسمة على ثلاثة أنحاء: ثلاثة سرية وفيها فتر الوحي،
وسبع جهرية، وثلاثة في النهاية أيضاً، فهي على ثلاثة أنحاء. وبذلك وصلنا إلى الجهر الذي حدث بإسلام حمزة وبإسلام عمر، وكلما عرف المشركون أن هذا الأمر الذي جاء به رسول الله. على صعيد الجدية خافوا فازدادت مقاومتهم فازداد تعذيبهم للمؤمنين. كانوا في البداية يترصدون ضعفاء الخلق: بلالاً وعماراً وسمية وياسراً وأمثال هؤلاء الذين كانوا تحت الرق، لكنهم انتقلوا إلى إيذاء
الناس من الطبقة المتوسطة ومن الوجهاء. واشتد الحال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بما علّمه ربه له من الوحي يعلم أن هناك ملكًا غير مسلم لكنه كان ملكًا عادلًا في الحبشة وكان اسمه أصحمة. وملك الحبشة يُسمى بالنجاشي، وملك اليمن يُسمى تُبَّع، وملك مصر يُسمى فرعون، وملك الهند يُسمى قَيْل وجمعه أقيال. فهذه الأسماء: النجاشي وتُبَّع وفرعون وقَيْل هي أسماء وظائف الملوك وليست أسماء
أشخاص. ففرعون هو لقب ملك مصر وليس اسمه. فرعون فكان النجاشي وقد أسلم بعد ذلك رحمه الله تعالى كان رجلاً عاقلاً عرف أن العدل أساس الملك وعرف أن هذه ليست من الحكم التي تلوكها الألسنة بل هي من السنن الكونية التي خلقها الله في هذا الكون فلا ملك تدوم إلا بالعدل فإذا اختل ميزان العدل اختل ميزان الملك. وهذا أمر الله في خلقه وليس مثالاً ولا موعظة ولا شيئاً يخالف الواقع أو شيئاً يُراد للناس أن يتبعوه حتى يسعدوا في الدنيا والآخرة، لا، هذا مثل الجاذبية حقيقة، ومثل أن
الشمس مشرقة وأن النار محرقة، سنن كونية. إذا هذه السنن نسيها الناس، وأن العدل هو أساس الملك. اختل ميزان المعاش والارتياش، يقولون هكذا في كتب الأقدمين. اختل ميزان المعاش والارتياش. ميزان المعاش الذي هو الأمن، والارتياش الذي هو الاقتصاد. الارتياش يعني أن تكون مريشًا أي يكون معك مال، والمعاش يعني أن تعيش آمنًا في سربك، عندك قوت يومك. أيضًا الآية: الأمن والاقتصاد. فإذا اختل العدل سقط الملك، وإذا سقط الملك... فسقط المعاش
والارتياش، قال لهؤلاء اذهبوا إلى الحبشة سنة أربعة، أي نزلت سورة الكهف وفيها إشارة إلى الهجرة حيث أن أصحاب الكهف هاجروا من أمام الطغيان والبغي والعدوان، ففيها إشارة إلى أن السابقين تخلصوا من مشكلاتهم بالهجرة، فنصحهم بالهجرة إلى أين؟ إلى بلاد العدل. حسناً، وماذا عن مصر؟ مصر تحت. حكمٌ قهريٌّ حكمُ الرومان. الظلم كان يمارسه الرومان على أنفسهم، لن يظلموا الناس فقط بل كانوا
يظلمون أنفسهم أيضاً. كانوا عندما يدخلون حرباً يقيدون جنودهم وأبناءهم بالسلاسل حتى لا يهربوا. كيف أحارب وأنا مقيد بالسلاسل؟ إنه حقاً حمق! يذهبون إلى فارس، يذهبون إلى المشركين، يذهبون إلى أي مكان، لا، يذهبون حيث يوجد العدل. فقال لهم: اذهبوا. إلى الحبشة فإن فيها ملكاً لا يُظلَم عنده أحد. أي أنه رجل واعٍ وفاهم كيف يحكم، لا يُظلَم عنده أحد، فأصبح مقياس العدل هو مقياس مُلكه. فذهبوا إليه، ذهب اثنا عشر رجلاً وكان قائدهم سيدنا عثمان بن عفان. سيدنا عثمان من
الوجهاء، ليس من العبيد، من الأغنياء وليس من الفقراء من أصحاب اليد العليا في قريش يهاجر لماذا؟ إنهم بدأوا يؤذونه وكان حينئذ قد تزوج بالسيدة الفاضلة السيدة رقية بنت سيدنا صلى الله عليه وسلم عليها السلام، فهاجرت مع زوجها. أبناء الأصول هكذا معه في السراء والضراء، أبناء الأصول. فسافرت معه ضمن اثني عشر شخصاً ذهبوا. كان هناك ثلاث نساء وأربعة رجال لا بأس عليهم. لم يحدث أي شيء في رجب من السنة الخامسة. شهر رجب هذا الذي يوافق ماذا؟ الذي
يوافق الشهر السابع، وبعده شعبان سيأتي الثامن، رمضان التاسع، شوال العاشر. احفظ الكلام: سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، وسنختم بالحادي عشر والثاني عشر ذي القعدة. وذي الحجة فهكذا سافرنا متى؟ سافرنا في شهر رجب. كان هناك ميناء، وكانت جدة لم تُبنَ بعد، تلك التي يسمونها جدة. وجدة تعني ساحل البحر، فجدة البحر أي ساحله. والساحل التابع للبحر هكذا يسمونه في اللغة العربية "سيف"، مثل كلمة "سيف" ولكن بكسر السين، ويسمونه جدة. هل أنت منتبه؟ جدة. لم تنشأ بعد،
لم تكن موجودة على بعد ستين كيلومتراً تقريباً جنوباً. كان هناك شيء اسمه الشعيب (الشعيبية). ومن الشعيبية ركب مركبين، رزقهم الله بهما، وهم قادمون مارّون. أشاروا لهم وأخذوهم معهم في المركبين. "إلى أين أنتم ذاهبون يا أبنائي؟" قالوا له: "نحن ذاهبون إلى الحبشة". "الله، هذا توفيق من الله". "نعم". في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة. طيب جميل، ركبوا المركبين وكان وراءهم قريش. اهربوا، هذا في اثني عشر شخصاً. سمعنا من أخبارنا والمباحث والمخابرات
وغيرها أنهم ذاهبون إلى الحبشة. اقبضوا عليهم بدلاً من أن يذهبوا ويصنعوا لنا مشاكل. جروا وراءهم. لم يجدوهم، الله! هذا مثل سيدنا موسى عندما نجاه ربنا هو وقومه من فرعون وشق لهم البحر، ألم يُحضر لهم أيضاً هذه الآية المراكب على قدرهم؟ وبعد الفاصل نكمل هذه الحكاية الطيبة. بسم الله الرحمن الرحيم، ركب الصحابة الكرام اثنا عشر شخصاً رجالاً ونساءً وذهبوا إلى الحبشة في سفينتين تجاريتين. رزقهم الله بها.
نزلوا الحبشة وذهبوا إلى الملك ليسلموا عليه ويقولوا له إننا هنا في بلادك. وقطعوا هذه المسافة التي تستغرق حوالي ثلاثة أو أربعة أيام. كانوا هناك، أي كانوا هناك في أي وقت؟ كانوا هناك في شهر رجب. مكثوا هناك حوالي ما يقارب أربعين أو خمسين يوماً تقريباً، ثم وقعت حادثة. حول الكعبة انتشرت هذه الحادثة بين العرب كانتشار النار في الهشيم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في الكعبة وتلا على المشركين سورة النجم: "والنجم إذا
هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"، واستمر يتلو السورة هكذا حتى أكملها، وعندما جاء. عند موطن فيها ذهب ساجداً فذهبوا ساجدين معه، لم يستطيعوا أن يتمالكوا أنفسهم، وأصبحوا ينظرون إليه هكذا وهو يقرأ، وليسوا مفكرين في شيء آخر إلا أن يستمعوا. واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، والأمر كله بيد ربنا. إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، فسجدوا سجدة. حدث للمشركين حال فسجدوا معه. وعندما سجدوا معه صلى الله
عليه وسلم، ذهب المتخبطون من الأعراب القادمون وقالوا: "أسلمت قريش! أسلمت قريش!" وهو حال حدث للمشركين. لقد وقع المشركون في حيرة وارتباك لأنهم لم يسلموا، بل حدث لهم حال واستلّذوا فعندما وجدوا... سيدنا سجد، فلم يستطيعوا منع أنفسهم وسجدوا معه، وكانوا هم يسجدون أيضاً للأصنام، فالسجود ليس غريباً عليهم. لكن عندما حدث ذلك، سجدوا مع سيدنا رسول الله. فكيف الخروج من هذه الورطة؟ نحن لم نُسلم والعرب عرفت، إلى أن وصل الخبر إلى الحبشة. وصل الخبر إلى
الحبشة أن قريشاً قد أسلمت، فهلّل. المسلمون هناك الاثنا عشر شخصًا كبّروا وهللوا وفرحوا بإسلام هؤلاء، ولم يرسلوا رسولًا إلى النبي يستأذنونه في العودة أو عدمها، بل فرحوا فرحًا شديدًا جدًا وذهبوا راكبين المراكب وعائدين. المهم، أن هؤلاء المشركين عندما غضبوا وأرادوا أن يطلقوا إشاعات مضادة، قالوا: "لا، إن محمدًا قال شيئًا آخر وألّفوا قصة اسمها الغرانيق. قصة الغرانيق "تلك هي الغرانيق العلى
وإن شفاعتهن لترتجى" يصف أصنامهم، فهو عندما مدح أصنامنا أسلمنا وسجدنا. كل هذا كذب، ولم تحدث قصة الغرانيق ولم يحدث أي شيء، واختلط الأمر حتى على الرواة. القضية أن بعضهم يقول لك إنهم سمعوا والشيطان ربما هو الذي سمعهم أن "تلك هي الغرانيق العلا". لا، قصة الغرانيق قصة باطلة، ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، وهذا تأليف من المشركين أدخل على بعض الرواة. ولذلك ابن حجر العسقلاني في فتح الباري يصحح القصة، نعم هو. يصحح السجود ويصحح دعوى المشركين بقصة الغرانيق لكنه
لا يصحح وقوع ذلك فعلاً من النبي، بل في إنكار تام. حتى أن الذي اختلط عليه الأمر في القصة قال: "ما هذا؟ الشيطان أسمعهم هكذا". الشيطان بريء من هذا الجزء، حتى الشيطان بريء، فالشيطان لا علاقة له بهذا، بل هم الذين اخترعوا هذه القصة. عندما أصبح الناس عندما سجدوا يصل الخبر إلى الحبشة وليس هناك هواتف، أنت تدرك أنهم كانوا في موقف صعب. فتصحيح ابن حجر تصحيح سليم لأنه فعلاً حدث سجود وفعلاً حدثت إشاعة بالغرانيق، لكن هذه إشاعة منهم هم. والجانب الآخر أن بعض الناس ينكر ويقول لك: "نصبوا المجانيق على قصة الغرانيق". ماذا قال لها؟ ليس معقولاً أن النبي يقول هكذا. نعم طبعاً ليس معقولاً أن النبي يقول هكذا، ولا معقول أيضاً أن
الشيطان يشوش عليهم. هل يمكن ذلك؟ نعم صحيح. فالذي قال "صحيح" هو على صواب، والذي قال أن هذه ليست (القصة) هذه باطلة أيضاً على صواب، لأن الجزء الخاص بأن الشيطان أسمعهم إياه هو الذي باطل. وننكر الجزء الذي يتعلق بأنهم سجدوا، هذا هو الصحيح ونثبته. المهم أن المشكلة التي وقعوا فيها كانت مشكلة كبيرة فاختلقوا هذه القصة، لكن قبل ذلك قال لك: اذهب وراء هؤلاء الأولاد لماذا؟ لنفعل ماذا؟ هؤلاء الأولاد سادة الدنيا، سيدنا عثمان ومن معه من مهاجري الحبشة هم سادة الدنيا. أرسلوا وراءهم من؟ ذهب عمرو بن العاص والربيع كلاهما إلى
النجاشي، فأحضرهم إذ إن العدل يقتضي ألا يستمع من طرف واحد بل يجب أن يستمع من الطرفين. فقام جعفر بن أبي طالب، وكان من بين الاثني عشر، ودافع عن سيدنا النبي وعن القرآن وعن موقفنا من سيدنا عيسى والسيدة مريم عليهما السلام. وهكذا اقتنع أصحمة الذي هو النجاشي وقال هذا والذي جاء به عيسى من مشكاة واحدة، إنها آتية من مصدر واحد. شمَّ الحلاوة، شمَّها، الحلاوة تُستشعر، هو شمَّها. قال: "اذهب سريعاً يا رجل أنت وهو واذهب". مَن؟ عمرو بن العاص والذي معه، أسلما هما الاثنان بعد ذلك عندما.
رجع الاثنا عشر، عادوا في فترة تقدر بأربعين أو خمسين يوماً، رجعوا مرة أخرى بالرغم من أنهم وجدوا هناك راحة ووجدوا غير ذلك إلى آخره، لكن بالطبع مفارقة الأوطان وخاصة بسبب الأذى تكون عزيزة على المرء قليلاً، وأرادوا العودة أيضاً من أجل سيدنا، نعم، إن القرب من سيدنا هذا أيضاً لا تنسوه. فالمهم الحاصل أنهم رجعوا فوجدوا الأمر كما هو عليه، ولم يُسلم أهل قريش ولم يحدث أي شيء، فقدر الله فيهم نافذ. فدخل كل واحد منهم ليلاً في جوار أحدهم. كان عندهم نظام يُسمى الجوار، والجوار معناه أنك في حمايتي، وما دمت في حمايتي فلا يستطيع أحد الاقتراب منك، وندخل
لنُعلم يا. جماعة، هذا في جوار فلان، وهذا في جوار علان، وهذا في جوار تركان، الاعتداء عليه يُعد اعتداءً على المُجير. بعد ذلك جعل سيدنا الجوار لأدنى المسلمين، يسعى بذمتهم أدناهم. أدنى المسلمين من؟ انظر أنت إلى أدنى شخص في المجتمع من حيث الدخل، أو العلم، أو الصحة، أو غير ذلك إلى آخره، وأجار أحدهم. إذا أجار أوباما مثلاً، خلاص يصبح أوباما مُجاراً ويدخل في أمان الله. لماذا؟ لأن حسنين أجاره. حسنين هذا من هو؟ عامل النظافة الذي يعمل لدينا هنا. ماذا أجار أوباما؟ كيف أجار أوباما؟ بالله عليك، عندما يجير عامل النظافة هذا أوباما، ألا يشعر
بالاحترام ويشعر أنه شيء مهم، ويشعر بحب الوطن، ويشعر بأننا هكذا؟ أي أنه لن يُهان، أي أنه يشعر هكذا، ولذلك هذا الجوار يجعل المرء محترماً وتجعل فيه وطنية وانتماء وأشياء جميلة كثيرة. شيء بسيط جداً، وهو لن يذهب إلى أوباما أو من أين سيأتيه أوباما، لكن القانون هكذا. القانون يؤثر في النفس والقانون يؤثر في بناء الشخصية، حسناً، يقول يا... أرضي يا أرضي ما عليكِ مثلي مثل والٍ. اللقاء الآخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.