السيرة النبوية - الحلقة الخامسة والثلاثون

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم نعيش هذه اللحظات، عسى أن يرشدنا الله سبحانه وتعالى به، وأن يمنّ علينا باتباعه وبتتبع سنته وسيرته صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من اتباعه وأن يجعلنا مسلمين على الحقيقة التي أرادها من عبادته ومن عمارة الأرض ومن تزكية النفس فاللهم آمين. نحكي قصة الهجرة وذلك أنه في يوم الخميس السادس والعشرين من صفر في السنة الرابعة عشرة من النبوة
- السادس والعشرين من صفر وكان يوم خميس - اجتمع المشركون في مجلسهم أو في مجلس شعبهم لاتخاذ القرارات الملزمة بشأن النبي المصطفى بعد هذه التطورات التي حدثت من إيمان الأوس والخزرج، ومن استمرار الدعوة في الخارج، ومن هجرة الصحابة بذراريهم وأموالهم في أغلبهم إلى المدينة، مما يؤذن بأن هناك مكاناً سيتحول إلى دولة، وأن هذه الدولة مهمة للمشركين، مهمة للوثنيين في تجارتهم مع الشام وأن محمداً يمكن أن يستحوذ على قلوب العرب بل قلوب العالم،
فاجتمعوا من أجل هذا الشأن الخطير، حقد وغل من ناحية، وفي نفس الوقت مصالح ومنافع من ناحية أخرى، اجتماع طارئ حضره مندوب عن كل قبيلة أو أكثر، مندوب أو أكثر، وهم يدخلون الساعة العاشرة صباحاً، سيجتمعون وجدوا شيخاً. فخيماً مرتدياً جبة من الجوخ جميلة وشيئاً فاخراً، أراد أن يحضر معهم فقالوا: من الرجل؟ قال: أنا ناصح أمين، شيخ
من نجد. أهل نجد يقولون إن أهل نجد مشهورون بالنصح، فجاءهم إبليس في صورة شيخ النجدي من أجل أن ينصح، يعني يقولون هكذا، وبعضهم يقولون: لا، ليست نجد هذه، العراق، وبعضهم يقولون لا، هو كانت نجد بعيدة فالشيطان أتى إليهم حليق الشعر وحليق اللحية، فما سيكون نجد؟ أي شيء مناسب له؟ يعني قيل وقيل. المهم وافقوا بالإجماع أن هذا الرجل الغريب يحضر لعلهم يسمعون منه نصيحة، فقام أحدهم وقال: أنا أرى أن
ننفي محمداً. انتبه، الكلام هو عبر العصور نريد أن ننفيه، إلى أين؟ إلى جزيرة أم ننفيه إلى أي بلد غريب لنغربه فيعتزل. فقالوا: والله ما هذا برأيك، إن محمداً حلو الكلام، فإذا ما نفيتموه آمن الناس به. قال الشيخ النجدي: لا أراه رأياً، هذا الكلام خطأ. صحيح أنه حلو الكلام، لا تنفوه ولا شيء. واحدٌ اسمه أبو البختري، وهو أيضاً من المندوبين هؤلاء، وكان نائباً، فقال لهم: "أرى أن
تَحبِسوه". فقالوا له: "والله لو حبسناه لَسَمِعَ به أصحابه فجاؤوا وأخذوه عنوةً، ثم تكون علينا عند العرب". قال الشيخ النجدي (إبليس): "والله لو حبستموه فأغلقتم الباب، لوصل خبره إلى أصحابه". اعلموا أنه توجد أناس في سيخبر أتباع النبي أي احبسوه هكذا فقط، أغلقوا الباب. قبل أن أغلقت الباب، أصحابه لديهم خبر. هؤلاء أصحابه على بعد أربعمائة وثمانين كيلومتراً، ولا توجد هواتف ولا طائرات ولا سيارات ولا شيء من هذا القبيل. لا نقول حسناً افعلوها هكذا، فالخبر يكون لديهم قبل أن تغلقوا الباب. فقال أبو
جهل: "إني أرى رأياً أراكم لا تعلمونه بعد". يقول: "يا أبا جهل". قال: "أرى أن نختار من كل قبيلة فتى جلداً، ثم نترصده فنضربه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا يقدر بنو هاشم على مواجهة كل العرب، فيقبلون بالدية، فنبذلها له مائة جمل". ماذا يعني؟ أعطِه مائة جملٍ. قال الشيخ: "هذا هو رأي إبليس، هذا هو الرأي". واجتمعوا وأجمعوا على ذلك. متى
التنفيذ؟ من الممكن أن يتحدث أحدٌ بكلمة هنا وكلمة هناك، فيكون التنفيذ في نفس اليوم ليلاً، ساعة الصفر. متى ساعة الصفر؟ عند أبي جهل، يعلمها ولا يعلمها أحد، وهو الذي ينتقي هؤلاء. الفتيا وكان منهم فأوحى الله لنبيه بكل ذلك عليه الصلاة والسلام، عنده كل الآية والتسجيلات الخاصة بهذه الحكاية، فذهب بالليل إلى أبي بكر وقال له: نحن مسافرون الليلة. فقال له: توكلنا على الله. وأمره جبريل أن يبيت في غير
المبيت، في مكان آخر وليس في غرفة نومه، ينام في... مكان آخر وأن يقيم مقامه عليه. لماذا يقيم مقامه عليه؟ لأنه عندما ينظرون من ثقب الباب ويتجسسون يجدون شخصاً نائماً. تم تحديد ساعة الصفر في الساعة الثانية عشرة، الساعة الثانية عشرة ليلاً. أصبحنا في يوم الجمعة. هكذا أصبحنا في يوم الجمعة، ونحن الآن في الساعة الثانية عشرة ليلاً من يوم سيكون سبعة وعشرين سفراً. حسناً، في الساعة الثانية عشرة كان المشركون واقفين، كل واحد منهم معه عصاه ينظرون: "هل محمد نائم أم لا؟". كان نائماً بالفعل. قام سيدنا
وتوضأ وخرج، "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، وأخذ تراباً في يديه ووضعه على رأس كل منهم وهم لا يرونه، فالرواية هكذا لم تقل إن كانوا نائمين أو مستيقظين. إنها معجزة وهذه معجزة. لو كانوا نائمين فهذه معجزة، يعني جميعهم وهم ذاهبون في عملية خاصة مثل هذه ولابد أن تكون الأعصاب مشدودة واليقظة تامة ثم يناموا؟ هذه معجزة. أو كانوا مستيقظين ولم يروه بسبب الإخفاء؟ معجزة، وهذه معجزة، ولذلك سيدنا أبو الحسن الشاذلي عندما ألّف حزبه سماه حزب الإخفاء، لأن هذا حدث فيما بعد كرامةً للنبي. الذين ينكرون الكرامات وينكرون ما لا
يعرفونه من المعجزات، والذين ينكرون، حسناً، فلينكروا. "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، لكن هذه معجزة وخرج النبي من بين أيديهم فلم. يبصرونه الساعة كم؟ الحادية عشرة. بعد الفاصل نرى ما الذي حدث. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. خرج النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من وسط المشركين سالماً غانماً وذهب إلى
أبي بكر في منزله الساعة الحادية عشرة ليلاً. لم تأتِ ساعة الصفر بعد. عندما قال النبي لأبي بكر أن يجلس، كان ذلك الكلام بعد الخامس عشر من ذي الحجة. نحن الآن في السابع، وداخلون على السابع والعشرين. سافر أربعين يوماً، وأعدَّ راحلتين جيدتين، وجعلهما تأكلان نباتاً يُسمى الخبط، وهذا الخبط يتسمر في المعدة لكي... يسافرون وهم ليسوا جائعين ولا شيء، الإبل لديها عدة معدات تخزن فيها الطعام سبحان الله، لكي تصلح للمسافات الطويلة. وراحلتين
من الدرجة الأولى التي يحبها قلبك، "زلول" أي سريعة، بمعنى أنه يعرف أن الدنيا تترقب وأنه مطلوب. وجبريل قال له كل شيء، عندنا في مكة فتحة في الأعلى هكذا، ممر ما اسمه هكذا؟ سيؤدي إلى المدينة، وهكذا في الجنوب سيؤدي إلى اليمن. فعندما أراك ذاهباً هكذا، فأنت ذاهب إلى أين؟ اليمن؟ عندما أراك ذاهباً هكذا، فأنت ذاهب إلى المدينة. فالنبي عليه الصلاة والسلام هو وأبو بكر نزلا على كودة، فالذي رآهم وهم يمشون [قال]: إلى أين هم ذاهبون؟ هؤلاء ذاهبون إذا خرجوا خارج البلد حتى يكونوا على اليمن، حسناً، وربما
ذاهبون إلى مدينة ليس هناك طريق إليها. هذه المدينة أمر صعب جداً، لا يوجد طريق. الطريق الموجود على ماذا؟ على هذا، لكن الطريق الذي يخص... لا يوجد طريق أصلاً. إلى أين سيذهب؟ سيطير في الهواء! المشرك يقول لنفسه. هكذا يعني فنزلوا على ماذا؟ على كُدَا وذهبوا تجاه اليمن، مشوا مسافة اثنين ثلاثة أربعة خمسة كيلومترات هكذا. تألمت قدما النبي وبدأتا تتشققان، يعني النبي عليه الصلاة والسلام كانت يداه مثل الحرير، لم يكن معتاداً على هذا الإرهاق، وبدأت قدماه تصاب
بما يسمونه بالعربية حفاء، والحفاء هذا معناه ما هو... تألمت من أسفل أو تعبت من أسفل ووصلوا إلى جبل سور، هذا الجبل سور، عندما وصلوا إليه على بعد خمسة أو ستة كيلومترات في الليل. جبل سور هذا صعب جداً أن تتسلقه، صعب للغاية لأنه أملس والحجارة كبيرة، ليست حجارة تستطيع أن تضع قدمك عليها ثم مكان آخر وهكذا، بل لا، صعبٌ جداً. أبو بكر رجلٌ كبيرٌ في السن وظاهرٌ عليه الشيب. النبي عليه الصلاة والسلام عنده ثلاثة وخمسون سنة، فيبدو
عليه أنه في عز شبابه. سيدنا أبو بكر رجلٌ كبيرٌ هكذا، لكن في داخله خادم. سيدنا في داخله عند أبي بكر خادم، ولذلك فرح أنه سيمشي معه. في داخله سيدنا قال له: "أتسمح لي؟"، "أسمح لك! إلى أين؟"، وذهب يحمله. مَن الذي حمل الآخر؟ أبو بكر حمل سيدنا النبي لكي يريح قدميه وصعد به الجبل. ما شاء الله! كيف صعد سيدنا النبي به الجبل؟ فليستجب ربنا لنا.
الشيخ عثمان طويلة كان من أولياء الله الصالحين، الشيخ عثمان. طويلة كان خادمه يصعد به إلى الجبل كما فعل أبو بكر مع سيدنا. فقال خادمه: "والله لم أجد له ثقلاً قط في أي مرة، ربنا خففه". حسناً، إذا كان هذا في عثمان طويلة، فماذا عن سيدنا النبي؟ ماذا عن سيدنا النبي إذن؟ يكون هو الذي... كان يطير بأبي بكر نعم والله بركة وإذن من الله ومعونة مسندة. الله سبحانه وتعالى ينصر عبده. هذا الكلام يا إخواننا ليس كلاماً فارغاً، بل هو كلام شهده الناس تأييداً للمصطفى.
ماذا جعل الخادم - وهو خادم عثمان طويلة - يعرف هذه القصة؟ أبداً، لكنه رآها بعينه، وهكذا هذه الأمور. لا أنكر أن النبي عليه الصلاة والسلام صعد إلى غار ثور، هذا الغار الذي في ثور ينزل متراً ونصف إلى الأسفل، يعني فيه منخفض هكذا، هو تجويف ثم تنزل متراً ونصفاً هكذا. فنزل أبو بكر فوجد فيه ثعابين وعقارب وشقوقاً ونحو ذلك. فبدأ يسوي الأرض وينظفها ويقتل الثعابين والعقارب ويسد لأنه إذا كان فيها أشياء لا تأتي لتؤذي الرسول، وبعد ذلك قال له انزل الآن، فنزل هما
الاثنان. ووجد أبو بكر ثقبين لم يُسدّا بعد، إذ نفد القماش الذي كان يقطعه، وما زال هناك ثقبان، فوضع رجليه عليهما هكذا. تعب سيدنا النبي فنام، فوضع رأسه في حِجر سيدنا أبي بكر. أبو بكر هو في هذا الوضع شيء لا، دَعته، متعب، صغير، خاص بشيء مثل هذا، فسكت لأجل ماذا؟ صحيح، النبي صلى الله عليه وسلم لا يعامله معاملة رأساً برأس كزميل، بل يعامله معاملة العبد لسيده عليه الصلاة والسلام. دمعت عيناه ونزلت دموعه على وجه النبي، فوجد
حرارتها. الدمع عندما دافئ هكذا فالتفت وقال: "ما بالك يا أبا بكر؟" قال: "لدغتني هامة" يعني شيء يمشي هكذا، فخفت أن أوقظك فسكت. فتفل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب السم من بدنه. أخذ ريقه الشريف هكذا ووضعه عليها في المكان، وها هو قد ذهب. يقول عمر: انظر سيدنا. توفي أبو بكر بعد ذلك بكم؟ توفي بعد ذلك بثلاث عشرة سنة. يقول عمر: فانتقض عليه ذلك السم فمات لكي
يموت شهيداً. أي أن السم منع من تأثيره في الجسد ولم يقتله فوراً، وظل مكتوماً مؤجلاً محصوراً إلى أن جاء الأجل، فهاج السم مرة أخرى. حتى يموت شهيداً، ما هذا؟! ما هذا الكرم! حتى يموت شهيداً. فاللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد. نكمل بعد ذلك المسيرة الجميلة الجليلة لسيدنا ونأخذ منها العِبر. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.