السيرة النبوية - الحلقة السابعة عشر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم نعيش هذه اللحظات. تكلمنا عن حالته إلى أن تزوج السيدة خديجة عليها السلام، ثم أنجب منها أبناءه، وكان يقول في شأنها: "ورزقني الله منها الولد والولد". يُطلق على البنات والأولاد، وتكلمنا عن أبنائه وأحفاده وهذه السلسلة الطيبة من ذريته،
وهو الذي كان يقول فيما أخرجه الترمذي: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي"، وهناك رواية: "كتاب الله وسنتي"، ولا يتناقضان، فكتاب الله والعترة والسنة يجتمعون ولا يفترقون حتى. يوم القيامة وحب آل النبي صلى الله عليه وسلم منصوص عليه في الكتاب والسنة "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" بالنص هكذا. النبي صلى الله عليه وسلم تزوج السيدة خديجة عليها السلام وهو ابن خمس وعشرين سنة، وكانت
هي قد قاربت الأربعين، أربعين بالتقويم الهجري الذي كان أي في عام تسعة وثلاثين ميلادياً تقريباً، كانت السيدة في حوالي التاسعة والثلاثين من عمرها. نساء قريش يحضن حتى سن الستين، بينما عموم النساء في العالم ينقطع حيضهن عند الخمسين تقريباً، لكن نساء قريش كما هو منصوص عليه كن يحضن حتى سن الستين. وذلك لأن بعض الناس يتعجبون قائلين: "هل نساء قريش في هذه الفترة كلها تأخر إنجابهن، فقد أنجبت أربع بنات وثلاثة صبيان، سبعة.
الصبيان ماتوا والبنات حكينا قصتهن. حوالي اثني عشر سنة لأنها توفيت بعد الوحي، لا ليست اثني عشر سنة، بل هي من سن الخامسة والعشرين إلى الأربعين. كان سيدنا النبي يعمل بالتجارة وبعد ذلك ثلاثة. عشر سنوات هي اثنتا عشرة ماتت في عام الحزن قبل الهجرة بزمن معين من السماحة قليلاً، فتكون قد مكثت معه كم من الوقت؟ مكثت معه منذ أن كان عمره خمسة وعشرين عاماً إلى أن أصبح عمره اثنين وخمسين، فتكون قد مكثت معه سبعة وعشرين عاماً. إذن عندما توفيت كان عمرها كانت قد أنجبت سبعة أولاد خلال العشرين سنة،
أي أن المدة بين كل طفل والآخر حوالي سنتين أو ثلاث سنوات فيما بينهم. الحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج السيدة في سن الخامسة والعشرين، وحُبِّب إليه الخلاء، حُبِّب إليه الخلوة، والخلوة يتحقق فيها أربعة أشياء كما قال أهل الله، قلة الكلام من فوائد الخلوة بنفسك، مع من ستتحدث؟ هل يجب أن يبقى الإنسان صامتاً هكذا؟ لا، بل يكون هناك انشغال بالآيات وبالذكر، يكون هناك ذكر لله. قلة الكلام تعني
وجود دعاء، قلة الكلام تعني وجود تفكر، تعطي نفسك فرصة للتفكر وأنت بمفردك، إذ لا يوجد بقال ولا سوبر ماركت تجلس حتى تتصل به وتقوم بتوصيل الطلبات إلى المنازل بالديليفري. لم يكن يتزود لهذه الليالي ذوات العدد ثم ينزل فيتزود لمثلها، كم يستطيع أن يحمل من الطعام الذي يكفي أسبوعاً؟ فيمكث الأسبوع ثم ينزل ليحضر أسبوعاً آخر. فالخلوة تجعلك في قلة كلام، وقلة الكلام لها فوائد من ضمنها أنها تتيح... لك التفكر والتدبر وقلة الطعام
لأنه ليس هناك مشتتات فتكون قلة الطعام وقلة النوم، ليس هناك أحد معك فأنت مع نفسك، فالأنس يحدث لك بالله، تجد روحك مع ربنا فيحدث لك أنس بالله. هكذا يعني من يستوحش من الخلق يحدث له الأنس بالله، يأنس بالله سبحانه وتعالى، ويحدث هذا في ماذا يعني لو صعدت إلى غار حراء ستجده غاراً صغيراً هكذا ليس فيه حركة، والذي ليس فيه حركة يكون ماذا؟ ليس فيه مجهود، وحسناً، والذي ليس فيه مجهود يكون ماذا؟ يكون مرتاحاً، يكون مرتاحاً. فإذا كان هو مرتاحاً لا ينام
كثيراً، تجد روحه مستيقظة هكذا، لأن الإنسان عندما يعمل كثيراً. يتعب جسمه عندما يُجهد نفسه فيحتاج إلى النوم، لكن هنا لا يوجد مجهود كبير، لا يوجد مجهود كبير، فيكون هناك سهر، وقلة منام. ستترتب على الخلوة هذه الأمور الأربعة: قلة الطعام، وقلة الكلام، وقلة التعامل مع الناس، وقلة النوم، فتتحقق فرصة بدلاً من أن تنام ثماني ساعات. تنام أربعة ساعات، تنام ساعتين، هذه طبيعة الجسم البشري، يريد أن ينام ويغفل هكذا لكي يكمل بعد ذلك. فسيدنا النبي حدث
له هذا، وهذا هو الفرق بين من يقرأ السيرة النبوية بعجلة ومن يقرأها ليستخرج منها برنامج عمل. هناك أناس يقرؤون الحدث، يعني ذهب إلى غار حراء، وبعدها اختلف ماذا أناس تقرأ وتؤمن بالله، حسناً كيف أصبح الأمر بهذا الشكل؟ فلتعش إذن وفكر، هذا ما يجعلنا نغضب من أولئك الناس الذين ليسوا مستعدين للتفكير أو أنهم يعترضون على من يفكر. لا بأس، فكر ولكن تفكيراً مماثلاً لما نفكر به نحن، كما فكروا هم هكذا، تفكير مقيد. خيرٌ فيه منطقٌ، فيه عقلٌ، لكي تفهم، لكي
تعرف كيف تطبق. فسيدنا النبي حُبِّبَ إليه الخلاء (الخلوة). ويأتي الآن مستوى آخر، انظر المستوى الأول يقول لك: الخلوة فيها قلة كلام، ونوم، وطعام. هناك أربعة أمور. ثم يأتي مستوى آخر من التفكير يقول لك: نعم، لنفترض أنني فعلت ذلك، ماذا سيحدث؟ كيف ستتصفى النفس؟ كيف سيفكر العقل؟ وماذا ستفعل النفس؟ هل هذا الكلام يسبب راحة نفسية تتلوها سعادة، يتلوها اطمئنان في القلب، يتلوها أن يفكر الإنسان هكذا؟ حسناً، ماذا سيحدث فيه؟ تتلوها إشراقات، يتلوها انفتاح للقلب، يتلوها تغيير وجهة نظرك في الحياة، يتلوها أنك تعلم أن
هذه الحياة إلى فناء فتتذكر الموت يتلوها أنك تتذكر الموت وتتذكر القبر يتلوها أنك تتذكر الحساب. يتلوها أنك عندما تنزل من الخلوة تصبح خائفًا من الذنوب، وتصبح خائفًا من أن تؤذي أحدًا، وتصبح تحب كل الناس. ويبدأ المرء بالتفكير هكذا ويقول: ما هذا؟ هذه الخلوة لها أسرار، ويُقال في... الكتاب الذي له بعنوان "كشف الأستار عما تنتبه الخلوة من الأسرار"، يقوم شخص ويقول له: "من أين أتيت بهذا الكلام؟ من السنة؟ السنة هكذا؟ السنة تقول لي أن أفعل هكذا؟ فعلت فوجدت هذه الأمور، وجدت نفسي أكثر شفافية، أكثر مصداقية، أكثر بعداً
عن الذنوب، أكثر رحمة بالخلق، فذهبت وكتبت هكذا، النبي نهى عنها، لم يأمرنا بالصدق فحسب بل نهانا عن الكذب، وأمرنا بالرحمة ونهانا عن العنف، وأمرنا بأن نحب ونهانا عن الكره، وأمرنا بأن نعطف على الخلق. وهكذا عندما تجلس لتقرأ ستجد أن القضية كلها متصلة ببعضها، وأن هذه الأسرار ليست أسراراً ولا شيء، ولكنك لم تنتبه إليها. منها والله تعالى أعلى وأعلم. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. عندما حُبِّب الخلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدأت
هناك ما تسمى عند علماء السيرة بالإرهاصات. الإرهاصات معناها الأشياء والمقدمات والتمهيدات التي تحدث أولاً فيحدث بعدها شيء آخر، الإرهاصات. هنا يقولون إن الإرهاصات ليست التوقعات، لأنها تحدث فتدل على ما بعدها وليست مستنبطة مما قبلها. يعني التوقعات أقوم بها اليوم من أجل الغد، لكن الإرهاصات تحدث اليوم بسبب ما سيحدث غداً، أي عكس التوقعات. الإرهاصات معناها الممهدات والبشائر، فإذا حدث كذا فسيحدث
كذا. هناك إرهاصات عظيمة ومبشرات، فمن هذه الإرهاصات لها غرض آخر وهي إعداد سيدنا النبي لتلقي الوحي، فالله ما شاء أن يسمع حجراً يسلم عليه "السلام عليك يا محمد". سمع ذلك فقط، وهذا تحذير غير معتاد، إنما هو يحذره ويعده لأن النبوة قريبة جداً. سيسمع أشياء وسيوحى إليه بأشياء وستنكشف له في عملية صعبة جداً، فأصبح يقول: في مكة كان يلقي عليّ السلام. أعرف الحجر الذي هو في المكان
الفلاني هذا. وبدأ قبل الوحي بستة أشهر، كل يوم على التوالي يرى رؤيا تتحقق في اليوم التالي. ما الذي كان يراه طوال اليوم؟ يعني أنت نمت بالأمس ثم رأيت أنه سيحدث كذا وكذا يوم الجمعة، فاستيقظت أرأيت أمس في المنام أن كل شيء موجود هنا حتى مللت، يوم الجمعة، مللت السبت، رأيت في الرؤيا ما رأيت مما سيحدث يوم السبت، ترى يوم السبت ليلاً ما سيحدث يوم الأحد، وترى يوم الأحد ليلاً ما سيحدث يوم الاثنين، فلم يرَ رؤيا إلا جاءت واضحة كفلق الصبح، طلبه يسألوننا ونحن سألنا مشايخنا،
قلنا لهم: "هل كان يرى؟ ما هي الرؤى؟" يقول: "هناك خمس أو ست رؤى هكذا مثلاً". قال: "لا، انتبه، ليست رؤى هي، إنها شيء يعني رؤية محكومة بل حصلت ستة شهور، ستة شهور، ماذا أصبح هذا؟ هذا عازم يعني رب سيدنا النبي على أن..." هو يعرف أن هناك غيباً وأنه سيعرف الغيب في الغيب، وأنه سيعرف الغيب كي لا يفزع، لأنك لو رأيت الغيب ستفزع. لو شخص واحد منا يعرف متى سيموت، ستضطرب حياته كلها. حتى لو قلنا له إنك ستموت بعد تسعين سنة، ستضطرب حياته أيضاً وهو يعلم أنه سيموت فـ... بنا الآن إذا عرفت بالتفصيل ماذا سيحدث غداً، ولكن أيضاً هذا
منام وليس وحياً، أي ماذا وما معناه. لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال ماذا في هذا الجزء؟ قال: "هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". وبعد ذلك فوجئنا، هو النبي... عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام مع صاحبته أن هذه ستة أشهر التي كان يرى فيها الرؤيا ستة أشهر، وأن مدة الوحي الخاص به ثلاثة وعشرون سنة. ستة أشهر تعني نصف سنة على ثلاثة وعشرين سنة، فتصبح واحدًا على ستة وأربعين. عليه الصلاة والسلام، هذه اكتشفناها فيما بعد، فنحن كل... ما نكتشف شيئاً كلما يزداد حبنا في هذا الرجل عليه
الصلاة والسلام الكامل المكمل المجتبى المصطفى صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل. جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، قم بحساب الستة أشهر هي جزء فعلاً من نبوته صلى الله عليه وسلم، فمن غيره لا يطلع على... متى يموت وهكذا إلى آخره أو يكون الله يشرح صدره، هذا هو ما حدث. والحاصل أنه كان يذهب إلى غار حراء في الخلاء للعبادة، يتعبد هكذا إلى آخره، وفيها الأربعة التي تحدثنا عنها، والأسرار وانفتاح القلب والشفافية والمصداقية وهكذا. كان سيدنا النبي يحب دائماً، وهذا من توفيق الله له منذ أن يضرب المثال الصالح يعني
العمل قبل الكلام، فكان صادقاً، ما كذب في حياته، وكان شهماً، ما خان قط، وكان أميناً، وكان وفياً بعهوده فلا يخضع... إلى آخره، كل الصفات الحسنة حتى ائتمنه الناس. مرة بعد ذلك، أسير معكم بالتسلسل، لكنني عندما أتوقف لأمر ما أنهيه حتى النهاية. مرة أحد هو يبلغ قريشاً بالرسالة فوقف عند الصفا، يا بني عوف، يا بني هاشم، يا بني فلان، يا بني علان، جاؤوا حتى
أن الذي لم يستطع أن يأتي أرسل مرسالاً، أرسل رسولاً من عنده لكي نرى ماذا يريد، وكان من بينهم أبو لهب الذي يحاربه والذي كان يسير وراءه في كل مجلس ويقول: "لا تصدقوه فإنه كذَّاب جداً، ذهب في داهية". المهم قال: "يا قريش، إذا أخبرتكم أن وراء هذا الجبل جيشاً يأتيكم للغزو، أكنتم مصدقيَّ؟" فقالوا: "نعم، فإننا لم نجرب عليك كذباً" عليه الصلاة والسلام. فأنا أريد فقط - أيها الإخوان - الدعاء. يا خجلهم من هذا الموضع! فالقضية وهكذا الحكاية
بأن تفعل في نفسك ما أمرك الله به فقط وتترك الناس تشاهد، فانظر عندما جاء أمره للتبليغ وجد رصيداً لديه. قلقوا من تصديقه وقالوا: "ماذا يا ابن عمك؟ أنت كاذب!" فأجاب: "أنا لم أكذب ولا مرة". نعم، سنصدقك بالطبع. فقال: "أدعوكم وأنقذكم من النار، أنا أدعوكم ها أنا احذروا النار، فقال أبو لهب شتم مثله هو وزوجته. فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: اسكتوا، انتهى الأمر. فنزل قول الله تعالى: "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين". دعنا ننهي الأمر الآن. هناك قال له: "وأنذر عشيرتك الأقربين". فلما مضى هكذا
في غار حراء في الأواخر، حدثت مفاجأة. شهورٌ كثيرة مضت بهذه المسألة، أي الرؤية التي تأتي كفلق الصبح، ثم جاءه الملك الذي هو جبريل بوحي من القرآن، وكان أول ما نزل: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم"، وهو يقول له: "اقرأ"، فقال: "أنا باله وأفكر أنه يقول اقرأ، بالواقع يعني اقرأ، خذ شيئاً تقرؤه. قال له: ما أنا بقارئ. قال: اقرأ. وضغط عليه، فقال: ما أنا بقارئ. اقرأ، وضغط عليه، قال: ما أنا بقارئ. وهنا جاءه الوحي، وبدأ الوحي بعد
ذلك. نجلس حتى نعرف يعني ما أنواع الوحي التي جاءت رسول الله. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.