السيرة النبوية - الحلقة السادسة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع أنوار النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم نعيش سوياً هذه اللحظات عسى أن ينفعنا الله به في الأقوال المستقلة والأفعال المستقلة وفي الإقامة، وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يسقينا من يده. شربة ماء لا نظمأ بعدها أبداً ثم يدخلنا الجنة بها من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب. اللهم صلِّ وسلم على سيد الكونين صلى الله عليه وسلم. وصلنا في سرد السيرة إلى السنة
العاشرة حيث منَّ الله سبحانه وتعالى على بني هاشم وبني المطلب وأخرجهم من الشِّعب وقُطِعت ومُزِّقت. الصحيفة بفعل الله أولاً وبإقرار قريش ممن شعروا بظلمهم وطغيانهم ثانياً، فإنهم لما فتحوا الكعبة وجدوها قد تآكلت ولم يبقَ فيها إلا "باسمك اللهم"، وكانت العرب تعرف هذا "باسمك اللهم". وفي صلح الحديبية سيأتينا بعد ذلك بسنين سهيل بن عمرو عندما قال رسول الله وهو يكتب المكتوب: "اكتب بسم الله". الرحمن الرحيم قال: "وما الرحمن والرحيم؟ لا نعرف إلا باسمك اللهم". قال: "امح يا علي واكتب باسمك اللهم"،
وهو الذي كانوا متعودين عليه، فكانوا دائماً يكتبون "باسمك اللهم"، وجاء الإسلام يدعو العالم إلى الرحمة، وأن النبي المرسل إنما هو نبي رحمة، "إنما أنا رحمة مهداة"، فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم". بين الرحمة والرحمة أولها رحمة وآخرها رحمة وأوسطها رحمة وبدايتها رحمة ونهايتها رحمة، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين. بسم الله الرحمن الرحيم، فوجدوا الصحيفة على هذا الحال متهرئة ممسوح منها الظلم، لا يوجد إلا باسمك اللهم والباقي كله، ماذا يعني أكلته الأرضة، فشقوها وانتهت هذه المحنة ثلاث سنين لا شيء.
أكل لا يوجد، شرب لا يوجد، ملابس الدنيا مضطربة، الأطفال يبكون، النساء تعبن، الرجال تعبوا، الأمر مخنق. ثلاث سنوات قضيناها في هذا المقام، مكثنا السنة السابعة والثامنة والتاسعة من بدء الوحي والنبوة، وها نحن الآن ندخل في السنة العاشرة، ففي المحرم نُقضت الصحيفة، الحمد لله، لكنها قد أنهكت من الصلب. أبو طالب الآن عمره ثمانون سنةً وقد تعب، يعني قضى ثمانية وسبعين وتسعة وسبعين وثمانين عاماً في الشدة،
ودخل خلاص أنهى الثمانين ودخل في الواحدة والثمانين، تعب، فبعد أن نُقضت الصحيفة، قيل بستة أشهر وقيل بتسعة، مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وحاميه ومن وقف معه عندما وقالت: يا جماعة، يبدو أن أبا طالب سيموت وهو مستلقٍ في الفراش هكذا في مرض الموت متعباً، بعدما يموت ماذا ستفعلون بمحمد؟ إذا قتلتموه أو آذيتموه، ستذمكم العرب وتقول لكم: أنتم عندما كان أبو طالب حياً لم تكونوا قادرين على الاقتراب منه، وعندما
يموت أبو طالب تفعلون ذلك بالرجل. هكذا وهذه مَعَرّة لأنه معناها أن أبا طالب كان أقوى منهم جميعاً وأنهم كانوا خائفين منه وهم لا يريدون أن يكونوا خائفين من أحد. قالوا: حسناً، بعد ذلك ماذا نفعل في هذه الورطة؟ قالوا: نذهب إلى أبي طالب ونقول له تعال وأحضر ابن أخيك لكي نتفق أن نتركه في حاله ودّوا لو تدهن فيدهنون، وذهب إليه خمسة وعشرون من وجهاء قريش، منهم أبو جهل، ومنهم الوليد بن المغيرة، ومنهم لا أعرف من، عتبة وعتيبة، يعني الوجوه المهمون، ومنهم المطعم
بن عدي، ومنهم أبو البختري، وكل هؤلاء ذهبوا، خمسة وعشرون شخصاً: "يا أبا طالب، نحن خائفون أن تموت ولا نعرف ماذا شيءٌ مع محمد والعرب تعيبنا، فقل له أن يأتي لنتفق مع بعضنا. أي كلمة سيقولها سننفذها وننتهي. قال لهم: حسناً، تجاوزتم العيب. أرسل يا ولد وأحضر محمداً. جاء سيدنا صلى الله عليه وسلم، دخل فوجدهم مجتمعين برباط. ماذا؟ كان بينهم أبو سفيان أيضاً من الخمسة والعشرين هؤلاء. نعم. ماذا تريدون؟ قالوا: والله نريد أن نكون في حالنا وأنت في حالك، لا تسبنا ولا نسبك، ولا تقول إن أصنامنا سيئة ولا نحن نقول إن إلهك سيء. كل واحد يعيش في
حياته هكذا، وافعل ما تفعله، لكن لا تقترب من مصالحنا. قالوا: حسناً، سأقول لكم شيئاً، أنا... سأقول لكم كلمة واحدة فقط لا غير، كلمة واحدة فقط، إذا قلتموها دانت لكم العرب وملكتم بها العجم. كلمة واحدة. فأبو جهل، لأنه أبو جهل، وقال له: لك مني عشرة، أنا أقول لك عشر كلمات. هو لا يعرف أن الكلمة هي التي جاؤوا من أجلها. قال له: حسناً، كلمة. قال له كلمةً سريعةً: "دعنا ننتهي". قال له: "قولوا لا إله إلا الله". فقط نقول "لا إله إلا الله"، فأخذ القوم يصفقون ويفعلون
هكذا. يعني ما هذا؟ لا حول ولا قوة! فيمَ نحن قادمون إذاً؟ وأنت هدمت لنا كل شيء بكلمة واحدة. نعم، لأن الحق واضح والباطل متلاطم، فقالوا: "يا لا تضيعوا وقت هذا الرجل، فهو لن يترك ما في ذهنه ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. ولنذهب وليحكم الله بيننا وبينه. وقاموا على هذه النية أنهم سيقولون للعرب: "لا، نحن لم نكن خائفين منه، بل نحن كذا" إلى آخره. وبعد قليل عندما خرجوا، كان أبو جهل جالساً فقال. لعمِّهِ يا عمُّ قُلْ لا إله إلا الله، فقال له أبو جهل: لا
تقُلْ، أتترك دين عبد المطلب؟ يُذكِّرونه بأبيه، فهذه كبيرة عندهم. وأصرَّ على هذا حتى قال: أموت على ملة عبد المطلب. قال ذلك ليسكتوا لأنه مريض وراقد في الفراش. عندما ذهب أبو جهل كان العباس أخوه موجوداً فجاءه. عنده فأبو طالب قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فالعباس جرى وراء النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: يا محمد لقد قال الكلمة التي أمرته بها. قال: ما سمعته، ما سمعته، يعني أمره لله، أمره لله. ولذلك أهل السنة اختلفوا هل أبو طالب أسلم. وَلا ما أسلمَ لأجل
رواية العباس هذه يا عمي أنه قال ما أمرته به، وبعد ذلك مات أبو طالب على هذه الحالة. نحن لا نعلم إن كان قد أسلم أم لا. ثم إن بعض الناس مثل الشيخ الزيني دحلان قال "أسنى المطالب في نجاة أبي طالب" وأورد فيها كل هذه لا، فقد مات النبي عليه الصلاة والسلام. وكانوا يسألونه: ماذا تنفع عمك وقد وقف معك؟ فقال: أدعو له فيكون في ضحضاح من النار، يعني عذاب خفيف هكذا. وبعد
الفاصل نحكي ما حدث في السنة العاشرة من بدء الوحي والنبوة، ففي بدايتها نُقِضت الصحيفة الظالمة الطاغية وخرج بنو هاشم. وخرج بنو المطلب من الشِّعب وانتهت المقاطعة، لكن بعد ستة أشهر من بدايتها، أي في شهر سبعة الذي هو رجب أو في رمضان على خلاف، توفي أبو طالب، وفي رمضان توفيت أم المؤمنين عليها السلام خديجة عن خمسة وستين عاماً، كانت
قد بلغت خمسة وستين عاماً، أي بعد زواج دام مع سيدنا صلى الله عليه وسلم رزقه الله سبحانه وتعالى منها الولد، وكان يقول: "آمنت بي حينما كذّبني الناس، وواستني بمالها حينما نبذني الناس، ورزقني الله منها الولد". وكانت خير زوجة، وكان يحبها ويصل من أحبته في حياتها صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها أبداً بعد ذلك لما ماتت. النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا العام بعام الحزن لأنه مات فيه أبو طالب وكان حامياً له، وماتت
فيه خديجة وهي التي ساندته بنفسها ومالها وعزها وواسته، وكانت خير زوجة حتى أنها وصلت إلى مرحلة الكمال، فقال: "كَمُلَ من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع، آسية امرأة..." فرعون ومريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد وخديجة بنت خويلد، هؤلاء الأربعة وصلوا إلى مرتبة الكمال، أي أنهم من كبار الأولياء ومن الصديقين العظام. وأمه صديقة مثل السيدة مريم، فالسيدة خديجة وصلت إلى مرتبة الصديقية. وعادةً النساء لا يصلن إلى هذه المرتبة لأن الله أعانهن
ليعملن في عمارة الدنيا بالحمل وتخرج منهن الحياة فكان الله سبحانه وتعالى يكتفي بهذا الفضل لهن، ولكن هناك من تصل من النساء إلى درجة الصديقية لكن على قلة، أقل من الرجال. كما لو أنهم ليس وراءهم شيء، لكن المرأة منشغلة مسكينة دائماً، فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، فلم يكلفها بنبوة ولا برسالة ولا. كذا إلى آخره، إنما تبلغ مرتبة الصديقية على ندرة من شدة انشغالها بعمارة الدنيا. الله سبحانه وتعالى سلّى قلب النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وسلاه بالتأييد، وسلاه باستجابة الدعاء. وبعد موت
أبي طالب بدأ المشركون في يعني طغيانهم وأذيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من كان يثير. التراب عليه ومنهم من وضع على رأسه سلا جزور وعلى ظهره الشريف كرش شاة إلى آخر ما هنالك من طغيان أحد، يعني فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يقول: "ما كرهت ما آذوني إلا بعد أبي طالب"، يعني لما مات أبو طالب ابتدؤوا يُرونه ما يكره من. عندما توفي أبو طالب في حدود شهر رجب، وقيل في رمضان، وقبل وفاة السيدة خديجة
بثلاثة أيام، هذا هو القول الثاني. أما القول الأول فيذكر أنه توفي قبلها بشهرين، أي قبلها بستين يوماً. فمن رجب إلى رمضان تُعد ستين يوماً، فيكون بينهما شهران. القول الثاني يقول لا، إنه توفي في فإذاً بانسيتُ يعني مات سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم كان في غاية الاحتياج إلى السيدة خديجة، وسيدنا جبريل قال: "بلّغ خديجة من الله السلام وأن لها بيتاً في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب"، ولذلك
عند ذكرها نقول عليها السلام لأن الله سلّم عليها، وخديجة ردت لما... أبلغها رسول الله فقالت: "عليك وعليه السلام"، فصارت سنة في المسلمين أنه إذا بلّغك أحدهم سلام أخيك أن تقول: "عليك وعليه السلام". صارت هذه كأنها سنة مأخوذة من السيدة خديجة عليها السلام. النبي عليه الصلاة والسلام سمى هذا بعام الحزن، لاقى فيه ما لاقى، وفي شوال، أي بعد موت خديجة. لم تمض عشرون يوماً حتى تزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة سودة بنت زمعة، وكان زوجها السكران بن عمرو
قد أسلم وهاجر إلى الحبشة ومات هناك. مات في الحبشة السكران بن عمرو زوج السيدة سودة، وقيل أنه لا، بل رجع معها فمات في مكة، مرض ومات بشكل سريع. مكة فيبدو أن أهل مكة لم يعلموا أنه قد توفي فيها، فقيل إنه مات في الحبشة وهي عادت وحدها. سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج، وكان هذا أول زواج له في مكة بعد وفاة خديجة، لأنه كان يحتاج إلى من يخدمه مع عبء الرسالة. شديد وكفار مكة لا يتركونه في حاله والسيدة
عليها السلام توفيت والقصة أصبحت منتهية هكذا. فتزوج في شهر شوال سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها فأصبحت من أمهات المؤمنين. وعندما كانت في المدينة رضي الله تعالى عنها تنازلت عن ليلتها لعائشة، فقد كانت تحب عائشة فتنازلت عن ليلتها. لعائشة ورضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلت في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، فكانت من كبار أمهات المؤمنين. فالنبي صلى الله عليه وسلم لما مات كما ذكرنا كان عنده تسع منهن
السيدة سودة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، فهي... من الأولين المهاجرين الذين جمعوا بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة أم سلمة أيضاً، وهي من المؤمنين الأولين في مكة، وهي أول من تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة السيدة خديجة، فكانت من كبار أمهات المؤمنين. هكذا انتهت السنة العاشرة من الوحي من بدء الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تمام الخمسين، إذا على تمام الخمسين فهذه عشر سنوات مضت
وانتهت معها المرحلة الثانية. نحن قلنا في مكة ثلاث مراحل: المرحلة الأولى السرية الثلاث سنوات، وبعدها مرحلة سبع سنوات انتهت بالعشر هذه، ثم المرحلة الثالثة حيث بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب. إلى الطائف ثم يذهب إلى العقبة الأولى فالعقبة الثانية ويحدث الإسراء في تلك الثلاثة الأخيرة. كانت الدعوة قد انتقلت من مكة إلى ما هو أوسع من مكة حتى انتهت بالهجرة الشريفة إلى المدينة المنورة المنيفة. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.