العقل - درجات المعرفة #2 | أ.د علي جمعة

أصحاب اللوم سائدهم بكل خير. أرحب بحضراتكم مرة أخرى مشاهدينا الكرام في ثاني حلقات برنامج درجات المعرفة. اليوم سنتحدث مع فضيلة الدكتور إن شاء الله حول العقل، هذه الميزة الربانية التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على الإنسان، وبالتالي كرمه على سائر المخلوقات. ولكن في المقابل هناك أمانة تحملها الإنسان. يجب أن يستخدم العقل في تحمل هذه الأمانة، ويكون العقل أداة أو وسيلة مساعدة له في تحمل
هذه الأمانة. اسمحوا لي أن أرحب بفضيلة الإمام العالم الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة. أهلاً بكم مولانا، أهلاً وسهلاً بكم، أهلاً وسهلاً بحضرتكم مولانا. العقل، حضرتكم أسستم له في الحلقة الماضية، ولكن الآن... سؤالٌ صريح: ما هو العقل؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. عندما نسأل ما هو العقل، فهذا يعني أننا نريد تعريفاً للعقل. والإمام الغزالي يقول إن الأمر كلما كان واضحاً جداً صَعُبَ تعريفه لأنه معروف، ولذلك نقول في تراثنا... عُرِفَ الماءُ بعد الجهد بالماء، ماذا يعني ذلك؟ هو الماء، والماء جميع الناس تعرفه. الماء يعني نعم، ولذلك يوجد عند المناطقة ما يُسمى بالتعريف اللفظي، وهو أن الماء
هو الماء، لأن جميع الناس أولاً محتاجة إليه، وثانياً تعرفه، وتعرف أشكاله المختلفة، أن هذه مياه البحار أو مياه الأنهار أو مياه ولا مياهٌ نزلت من السماء أو نبعت من الأرض إلى آخره، فكلما كان الأمر فيه وضوح كلما عسر جداً تعريفه، ولذلك نجد في تعريف العقل بعضهم يقول أنه عُرِّف بألف تعريف، ألف تعريف للعقل، ألف تعريف للعقل، وعندما تمسك هذه التعريفات كلها تجد أكثرها أو ربما كلها عبارة. عن وصف أي صفات، يقول لك مثلاً: العقل نور ألقاه
الله في القلب. هذا هو تعريف أن العقل هو نور ألقاه الله في القلب به يدرك القلب المعلومات. أيضاً ماشٍ يعنيها، أي يستمر يقول لك أشياء مثل هذا. ولكن عندما جاؤوا وربطوا العقل بالشريعة وكيف تعاملت، نحن قلنا إن العقل. مناط التكليف عقل. ما هو هذا الذي يعتبر مناط التكليف؟ يعني أن يكون الإنسان مكلفاً. فعندما نرجع إلى كتب الفقهاء الذين تدبروا وتعمقوا في المسائل، يقولون لك: تكون مكلفاً عندما تكون أولاً بالغاً، وثانياً سليم الحواس، وثالثاً سليم الدماغ، أي أن يكون دماغك سليماً.
حسناً، لنفترض أن شخصاً ولد ضريراً. لا يرى الأعمى، ولا يسمع الأصم، فسيكون أخرس لا يتكلم. اِبكِ، ففي الحالة التي مثل هذه يكون مكلفاً. قالوا: لا، هذا لا توجد فيه سلامة الحواس. وهذا قادهم إلى أن الحواس خمسة، ستضيف إلى هذه الثلاثة التي هي البصر والسمع والكلام، هناك التذوق وهناك الشم. حينما يكون شخص غير قادر لا يرى ولا يسمع ولا تصل إليه المعلومات بشكل لافت للنظر، انتبه جيداً لعبارة "لافتة للنظر" هذه. فالمكلف لا يكون مكلفاً إلا إذا كان سليم الحواس. حسناً، أنا سليم الحواس بمعنى أنني أرى وأسمع وأتذوق وأتكلم
وكل شيء، لكن عقلي ليس سليماً، فقد تعرضت لضربة على رأسي أحدثت خللاً في هل تنتبه؟ فقالوا ما معنى هذا الخلل الدماغي، وكيف يكون لديه خلل في إدراك الزمان والمكان والأشخاص والأحوال؟ انظر إلى العمق. لذلك سنعرف الآن تعريف العقل من خلال هذا التكليف، إذ أن التكليف مناطه العقل. حسناً، أي عقل هذا الذي تعلق به التكليف وبُني عليه؟ فعندما يأتي شخص... نقول له ونحن في شدة الحر فيقول أنا أشعر بالبرد، هذا بالتأكيد مختل عقلياً. ونحن في شدة البرد يقول أنا أشعر بالحر، سأموت من الحرارة. إنه لا يدرك الزمان ولا المكان، يظن
النهار ليلاً والليل نهاراً، ولا يميز الأشخاص. تجد مثلاً أحد علماء الفلسفة عندما يفتح للرجل صباحاً الذي جاء. له الصحيفة أو الذي يحضر له الحليب أو الذي يحضر له شيئاً ما، كان قديماً يوصلون هذه الأشياء فيبدأ بالحديث معه في الفلسفة، في حين أنه عندما يذهب مثلاً إلى المحاضرة لأنهم طلبوا الفلسفة، يبدأ بالحديث معهم عن أسعار الحليب وأسعار اللحم. إذاً، نحن نرى أنه يجب أن يكون سليم العقل والدماغ يعني لابد أن يكون أيضاً سليم التفكير. عندما نأتي لنرى الطفل الصغير، فهو لديه دماغ ولديه حواس، لكن الله لم يكلفه لأنه لا توجد معلومات
سابقة في دماغه. ويستمر هذا الطفل الصغير في التعلم والتعلم فترة الطفولة الإنسانية قد تمتد إلى خمسة عشر سنة قانوناً. جعلها ثمانية عشر لماذا؟ لأنه يتعلم أطول فترة طفولة. حيوان له فقريات هو الإنسان، ليس الأسد ولا النمر ولا القطة ولا الفأر ولا ما شابه ذلك. فهم يبلغون سريعاً، بعضهم في شهرين والبعض الآخر في سنتين وهكذا. لكن لأن الإنسان مكلف بمجموعة هائلة من المتطلبات والآداب، كيف يأكل وكيف يلبس يتحدث مع من هو أصغر منه كيف، ويتحدث مع من هو أكبر منه كيف، ويتحدث مع زميله كيف. آداب
كثيرة سموها الإتيكيت أو اللياقة، فمن أجل هذا يأخذ مدة طويلة في هذا المجال. إذاً أستطيع أن أقول إن سلامة الحواس وسلامة الدماغ والمعلومات السابقة من المكونات. حسناً، ما هذه الأشياء ماذا ترى بالخارج؟ ما هو الخارج؟ إنه خارج الذهن، وهو ماذا؟ إنه الشجر والبقر والحجر والقمر والأشياء التي حولنا، أي أنك ترى الواقع. فقالوا إن العقل هو المُكوَّن من هذه الأربعة: العقل هو عبارة عن دماغ فيه معلومات، وعنده سلامة حواس، وعنده
واقع معيش حوله، وبهذه الأربعة يكتمل العقل، حسناً. افترض لو تخيلنا أننا أخذنا الإنسان ووضعناه في الفراغ المطلق، وضعناه في لا شيء، لن يستطيع أن يفعل شيئاً ولن يتعلم. لكن الطفل الصغير منذ سن ثلاثة أشهر وهو يقوم بتخزين المعلومات، فيخزن وجه أمه، ويخزن أنه عندما يجوع ويشعر بشيء في بطنه، أن أمه ترضعه، ويخزن أن هذه الرضاعة هذا ومن الفم تشبعه يأخذ جالساً، ماذا يجلس هكذا؟ ولذلك اشترط الفقهاء البلوغ. لماذا البلوغ؟ ما خصوصية البلوغ؟ لأنه عند البلوغ يشعر الإنسان بالجانب أو الناحية الجنسية
التي سيترتب عليها حلال وحرام بعد ذلك، والذي سنقول له: إياك أن تزني، وإذا أحببت هذه المسألة فيجب عليك أن تتزوج، فيكون هناك بافعل ولا تفعل، افعل الزواج واترك الفاحشة. حسناً، هو لا يفهم لماذا؟ لأنه ليس لديه هذه العبارة. حسناً، إلى أن تصبح لديه، ولذلك أصبح البلوغ، قبل البلوغ بلحظة ليس مكلفاً، وبعد البلوغ وتمام المعلومات السابقة، هكذا فهم هذه النقطة، فكُلِّفَ. فيكون التكليف مناطه العقل الذي هو سلامة. الحواس، سلامة الدماغ، ثم بعد ذلك الواقع المحيط، وأن بهذه الخمسة تتكون العقلية،
وبهذه الخمسة يصبح مكلَّفاً، ومن غير هذا لا يصبح تكليف ولا يكون تكليف. أنا أقول خمسة لكنهم أربعة، هم الأربعة الذين هم سلامة الحواس وسلامة الدماغ والمعلومات السابقة والواقع المحيط. إذا سحبت واحدة من هذه الأربعة. لا يوجد تكليف مطلقاً، لا يوجد تكليف، ولا يوجد عقل أصلاً صحيح. فبهذا التفصيل هو الذي نخرج به من عند علماء المسلمين في كتبهم وفي فقههم وفي العقائد وفي التاريخ وفي غير ذلك إلى آخره، ونرسم هذا للعالمين، أي نقول لهم نحن لدينا تعريف للعقل، وهذا العقل، والشيوعيون لديهم تعريف من الألف يقول لك ما كانت الماركسية إلا
انعكاس الواقع على الدماغ. قلنا لهم: كيف يكون انعكاس الواقع على الدماغ؟ إن انعكاس الواقع على الدماغ يجعل مسألة الألوهية خارج العقل. فالله تعالى "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار"، إذًا هو ليس تحت الإدراك الحسي، وما دام ليس تحت... الإدراك الحسّي هو الذي يلزمنا، وما ليس موجوداً فلا يلزمنا. العادات التي أفهمها بالعقل هي الموجودة، وما ليس موجوداً فليس موضوعنا. الميتافيزيقيا ليس لي تدخل فيها، لكن ما لي تدخل فيه هو انعكاس الواقع على الدماغ. قلنا لهم إن الواقع لا ينعكس، بل الذي ينعكس هو الضوء، فالضوء يصطدم بالجسم. هكذا وينعكس على المرآة فصورة الضوء يضرب في الجسم فينعكس على القرنية فتعمل صورة فرؤية، لكن الواقع الذي ليس له ضوء ينعكس عليه فيحدث أنه يدخل في الدماغ. هذا الذي يدخل في الدماغ
هو صورة الواقع وليس الواقع، لأن الواقع لا ينعكس لأنه ليس صاحب أشعة. انظر، المسألة بسيطة جداً تنهي كل ما هنالك من هذا الفكر العجيب الغريب، وكل هذا مقصده إنكار الألوهية التي هي أظهر من الظهور، وأبين من البينات، وأوضح من الواضحات. فالعقل هو ذلك المكون من تلك الأربعة: سلامة الحواس، وسلامة الدماغ، والمعلومات السابقة، والواقع المحيط. هذا العقل عنده قدرة على التلقي أولاً والتي ستأتي لاحقاً. من سلامة الحواس أنني أسمع، والأمر الثاني أنني بعد تلقي
المعلومات أفهمها، وهذا الفهم يتطلب مني أموراً عدة، إذ يوجد فهم للغة وفهم للرموز وفهم لعالم الأشياء. والأمر الثالث أنني بعد الفهم أحفظ المعلومات، فلدي قدرة في عقلي، هنا يوجد مخزن يحفظ. والأمر الرابع أنني أسترجع المحفوظ، والأمر الخامس أن غريبة خِلقية في دماغي لربط المعلومات. النقطة السادسة أنني بعد أن أربط المعلومات أستنتج منها شيئاً غير مذكور صراحةً. استنتجت منها، إذن لا بد من وجود عين الاستنتاج. النقطة السابعة للأداء، أنني بعد أن أنجزت كل هذه العمليات أؤدي... فيكون
إذاً هذه سلسلة مكونة من سبعة أشياء. عندما آتي أنا إلى هذه الأشياء السبعة، كل واحدة منها لها قصة ولها علم قائم بذاته، وذلك لكي يوضح لي حقيقة المعرفة، ولكي يبين لي قواعد استقامة التفكير، لأنه يحدث الخلل أثناء التحمل، وأثناء التلقي، ويحدث الخلل أثناء الفهم، ويحدث خلل أثناء الحفظ، ويحدث خلل أثناء الاسترجاع، فأنا لست أريد أن يحدث هذا الخلل، فلا بد عليّ أن أدرس كل واحدة من هذه السبعة على حدة، وأبين كيف يدخل الخلل على الإنسان. فكل هذه الأشياء ترسم
لي النقطة الأولى في تعريف العقل. فنحن الآن، ماذا طلبتَ مني؟ تعريف العقل. هذه كلها النقطة الأولى، هذه النقطة الأولى تعريف العقل هو... سلامة الحواس وسلامة الدماغ والمعلومات السابقة والواقع المحيط، وكل واحدة من هذه الأربعة لها حكاية وقصتها. ونحن نتحدث الآن بشكل عام حول هذه الأربعة، لكن سنتحدث عن كل واحدة منها لكي نعرف ما معنى العقل. انظر إلى اهتمام المسلمين بهذه القضايا. قد يقول لك أحدهم: "أصلاً أنا لست متفقاً مع أي آية خرجت وما هو هذا العقل السفيه هذا من ألف تعريف، وما رأيك في هذا التعريف، وهكذا. فحكاية "غير مقبولة لعقلي" هذه غير مقبولة لعقلي. حسناً مولانا، أستأذن حضرتك بعد الفاصل لنتحدث عن فكرة العقل والدماغ، يعني ربي سبحانه وتعالى في إحدى الآيات
يتحدث عن أهل النار أو الكافرين. "لهم قلوب لا يفقهون بها"، حسناً، عندما يقرأ المرء هذه الآية الكريمة "قلوب يفقهون بها"، ما علاقة القلوب بالإدراك؟ وكيف يفقه الإنسان أو يفهم شيئاً أساساً؟ سيادتكم، بعد الفاصل سنتحدث عن العلاقة بين القلب والعقل، وأيهما الذي يفقه. كونوا معنا، أرحب بحضراتكم مرة أخرى. مولانا حضرتك قبل الفاصل كنا نتحدث عن أكثر من ألف تعريف للعقل، ووضعت أربعة أسس على أساسها يمكن أن نصف الإنسان بأن لديه عقلاً وأن هذا العقل يعمل، وأن هناك تكليفاً بناءً على هذا العقل. أود أن نستكمل هذه الجزئية قبل أن نخوض في مسألة القلب والعلاقة ما بين... القلب والعقل كما قلت لك أن علماء المسلمين وهم يتكلمون
كانوا يبحثون في الأشياء بما يسمى بالأسئلة الممتدة، يواصل السؤال بعد ذلك: لماذا؟ حتى يصل إلى آخر البدهيات، حتى يصل إلى المسلمات، فدائماً كانت هذه طريقة منهج تفكيرهم، فكانت الأمور واضحة جداً بالنسبة إليهم وكانت هذه. تنشأ لديهم شبكة من المعلومات والمفاتيح يستطيعون بها أن يروا الحقيقة في كل شيء. فإذا كان العقل مكوناً من هذه الأربعة، سلامة الحواس، حسناً وعندنا كم حاسة؟ عندنا خمس حواس ظاهرة. وهذه الحواس الظاهرة تحدثوا عنها وستتعجب أنهم تحدثوا عنها في كتب العقيدة، لأن نظرية المعرفة والإبستمولوجيا تحدثوا عنها في العقيدة وهم يتحدثون
عن السمع والبصر والكلام والتذوق والشم وما إلى ذلك، هذه الحواس الخمس مرتبطة ببعضها. ولذلك يقول لك شخص مصاب بالزكام أنه لا يستطيع التذوق ويشعر أن الماء طعمه مختلف، وهذا صحيح. لماذا؟ لأن الشم والذوق مترابطان تماماً. كان قديماً جداً عندنا في... مصر، كانت المرأة عندما يأتي ابنها ليتزوج، كان هناك ما يسمى "بيت العائلة" حيث يتزوج الجميع في بيت الرجل الكبير. فكانت المرأة الكبيرة، أم الأبناء الكبار الذين هم الأزواج الآن،
تجعل بنات زوجات الشباب هن اللاتي يعملن في المطبخ. كان من العيب أن تأخذ الفتاة ملعقة من المرق وتتذوقه، التي يحتاجها المرق من الشم هي ملكات، اليوم بالتذوق لا يدركون ذلك ويقولون لك هو حادق أم ليس فيه ملح، تخيل أن الشم عندما كان سليماً دون تلوث ودون ضجيج ودون أشياء أخرى، كان قادراً على شم الملح في بخار الطعام، هذه ملكات عالية. كان الإنسان يمتلكها ويكون مالكاً لها، وكان عيباً تماماً
أن يقول لك إنها تذهب لتضع لسانها في المرق. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنها ليست نظيفة جداً. فالنظيفة جداً هي التي تستطيع أن تشم الملح. كيف تشم الملح؟ هذه عملية صعبة. ولكن علي باشا إبراهيم صاحب الطب كان يعرف كثيراً من لا يستعمل فيها سماعة، بل يضع يده فيعرف ما هي العلة. أصبحت هذه اليد حساسة جداً بحيث أن اللمس يوصله إلى العلة، أو يشعره بأنه إنسان. يجلس يحدثه عن تاريخه وحياته وكذا علي باشا إبراهيم هذا، ما هي هوايته؟ كانت عجيبة جداً: السجاد. والتعمق في علم تحف السجاد التي في العالم، انظر إلى الجمال وانظر إلى الملكات،
فالإنسان قد ضيعناه، قتلنا الإنسان، الذي شكله هكذا. على كل حال أريد أن أقول لك إن هذه الحواس الخمسة يُطلق عليها الحواس الظاهرة، لأن هناك ما يُسمى بالحاسة السادسة، الحاسة السادسة هذه هي الحدس. الذي هو الشعور بأن هناك شخص هذا خطأ وهذا صحيح وهذا شيء شفافية يعطيها الله للإنسان في القلب الذي سنتحدث عنه بعد ذلك إن شاء الله. هذه الحواس إذا فقد الإنسان الثلاثة الأساسية منها التي هي البصر والسمع والكلام لم يعد مكلفاً حتى لو كان محصلاً للمعلومات، وهذه نفترض لها. حالٌ كهذه بحالها حتى لو كان محصِّلاً للمعلومات، القضية ليست قضية معلومات بقدر ما هي القدرة على
الوصول إلى حقائق الأشياء، هذا هو الذي مناط التكليف. هيلين كيلر امرأة أمريكية مشهورة اشتهرت في الخمسينيات، أُصيبت بفقدان البصر والسمع والنطق، استطاعت معلمتها عن طريق خرير... الماء في صنبور البستان أو الحديقة التي تحيط بالبيت أنها علمتها بعض المعلومات، واستمرت في تعليمها حتى تراكمت هذه المعلومات فألفت رواية. وعندما ألفت الرواية أصبحت هذه الإعاقة كمن حصّل المعلومات، ولم تمنعها عندما بدأ عقلها يعمل فيما لديها من هذه المعلومات، لكن بالرغم من هكذا إلا أنها
لم تصل إلى حقيقة هذه الألوان، فهي لا تعرف هذه الألوان. تعرف أن هناك ألواناً، وأن كل ما هو أخضر يُسمى أخضر، وشيء يُسمى أحمر، لكنها لا تعرف كيف يبدو اللون الأخضر حقيقةً. فاللون عندنا في الشريعة ليست مكلَّفة به حتى ولو بلغت إلى هذه الدرجة من حتى لو استطعت أن تتقدم وهكذا ونشجعها على هذا التقديم ونشجع أصحاب الظروف الخاصة هؤلاء أن ينتجوا وألا ينعزلوا إلى آخره، لكن التكليف عند الله، يعني الله لم يأذن لأن الدية تتحمل عبء التكليف، فهذا مثلاً نحن هنا نقول إيه؟ سلامة الحواس، وتكون سلامة الحواس هذه أما الذي جاء مثلاً الضرير، لا، إن الأنبياء منهم من كان ضريراً مثل سيدنا
يعقوب، طيب، ولم يكن في الأنبياء أصم. انظر كيف أن السمع مقدم على البصر. ولذلك عندما يتكلمون عن القاضي، قالوا إن القاضي يمكن أن يكون ضريراً ولا يضره ذلك شيئاً، لكن لابد أن يسمع جيداً، لابد أن يسمع القضية لأجل أن يشهد الشهود ولأجل البينات ولأجل غير ذلك إلى آخره، أما النظر فلا، يمكن أن يعينه أحد من أهل الثقة من حوله، فالكفيف لا يكون قاضياً ويكون نبياً أيضاً قبل ختم النبوة، لكن الأصم لا، هذا الأصم ليس مكلفاً بهذا لكنه مكلف بالصلاة، مكلف بالصيام، والأخرس، الأخرس يفهم عينيه بالإشارة المفهمة، والإشارة المفهمة تقوم مقام الكلام، وإشارته
المفهمة تقوم مقام الكلام، ولذلك فهو مكلَّف وتُقبل شهادته. عندما يأتي وهو يتواصل بلغة الإشارة التي تعلمها ويفهمها، تُقبل شهادته أمام القاضي. فالتكليف يُفقد عند فقدان أغلب الحواس التي هي الثلاثة الأساسية المذكورة، حتى لو كان يتذوق. أو حتى لو كان يلمس لمساً جيداً، لكن من الممكن فعلاً أن يلمس شخص ما ولا يعرف شيئاً، ولا يعرف أن يصف. كان لدينا رجل كهربائي في البلدة لا يشعر بالكهرباء، لا يشعر بالكهرباء، لا يشعر بالكهرباء، ليس لديه إحساس بالكهرباء، ويمسك الكهرباء هكذا ويقول: "نعم، هذه فيها كهرباء" وهكذا، ولا يشعر بحاجة إطلاقاً، يعني شيء غريب، وهذا
ناتج من اللمس، فاللمس الخاص به ليس لمساً معتاداً أو لا يوجد لمس إطلاقاً، وهكذا. فأنا أريد أن أقول لحضرتك أن الخلل عندما يصيب الحواس، فلا بد أن تكون سلامة الحواس بكيفية معينة حتى نصل بذلك إلى العقل الذي هو مناط التكليف الحواس تجدها في كل كتب المسلمين، سلامة الحواس، سلامة الحواس هذه تحتاج إلى ماذا؟ تحتاج إلى دماغ سليم، والدماغ السليم كما ذكرنا هو الذي يدرك الأشياء على ما هي عليه: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، أربعة أشياء. إذن الدماغ السليم هو الذي يدرك هكذا. حسناً، افترض أن هناك عطباً في الدماغ في الرأس ضربة في الرأس جعلته غير قادر على إدراك واحد فقط من هذه، فيصبح
غير مكلف. حكاية الجهات الأربعة هذه: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال. ولأنه هكذا، فقد الزمان أو فقد المكان أو فقد كذلك، فأقول لهم دعوه في حاله، يعني غير قادر على تمييز أين هو مثلاً. أو الزمن الذي هو فيه، صحيح، أتنتبه؟ يحدث هذا عند كبار السن جداً ومرض الزهايمر وما شابه. يعني أنا شاهدت من يصلي الظهر مثلاً خمس مرات اعتقاداً منه أن العصر قد دخل وهو لم يدخل، اعتقاداً منه أنه لم يصلِّ، فيقوم ليصلي اعتقاداً منه أنه كذا إلى آخره، فاتركوه. هذا في حالته وعندما يأتي المغرب لا يصلي اعتقاداً منه أنه صلى، قال خلاص انتهى الأمر على هذا. غير مكلف، غير مكلف، غير مكلف، لأن سلامة الحواس أصابها الخلل، نعم، والدماغ هنا
أصابه الخلل. القضية الرابعة هي قضية المعلومات السابقة، المعلومات السابقة هذه أهم شيء. فيها البلوغ ثمانية عشر سنة يكون قد اكتمل المكون المعرفي، وفي سن الخامسة عشرة يكون قد اكتمل المكون المعرفي، أي أننا الآن في جدل مجتمعي: هل نجعلها ثمانية عشر أم نعيدها إلى خمسة عشر؟ يعني هناك نقاش، لكن القضية تكمن في المعلومات السابقة: هل اكتملت المعلومات السابقة وشعر الإنسان بها لم يحدث هذا، ولذلك في بعض البلاد مثل الإسكيمو مثلاً تجد البلوغ يتأخر عندهم لشدة البرد في مناطق سيبيريا والقطب الشمالي وما شابه ذلك إلى واحد وعشرين سنة. فبالتالي يتأخر التكليف عند بعضهم بسيطة،
نعم، يعني الإمام الشرفي يقول لك خمسة عشر وانتهى الأمر، فإذا تأخر التكليف يكون كافياً عليه الثاني قال: لا، هذا اكتمال المعلومات واكتمال المعلومات تحتاج إلى أنه فعلاً يحس بهذا، فإذا لم يشعر بهذا، فإن البلوغ علامة من العلامات التي هي ركن من أركان التكليف عند الإنسان. وفي النهاية قضية الواقع المحيط، والواقع مكون من أربعة عوالم: عالم الأشياء، وعالم الأحداث، والأشخاص، والأفكار، وهذا يمكن أن... سنتوسع في الكلام فيه إن شاء الله بإذن الله، ويكون لقاء مع حضرتك في الحلقة القادمة لنستكمل هذا الحديث الطيب. أشكرك جزيل الشكر لفضيلة العالم الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة، شكراً فضيلتكم. أهلاً وسهلاً بكم، نراكم على خير، إلى اللقاء.