الفكر | رب لترضى جـ 1 | الحلقة الرابعة والعشرون | أ.د علي جمعة

الفكر | رب لترضى جـ 1 | الحلقة الرابعة والعشرون | أ.د علي جمعة - تصوف, رب لترضى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات رب لتاردى مع مجموعة الشباب الطيب الذي يسأل حول قضايا. التصوف الإسلامي ونحاول
أن نجلي بعض الحقائق. أهلاً يا شباب، أهلاً وحضرتك يا مولانا معكم. سؤال اليوم؟ نعم سيدي. طيب مع من؟ معي مع بلال. تفضل سيدي. كنت حضرتك في الحلقة الماضية على الدوام، قلت لنا من أركان الطريق الذكر والفكر، ونحن تحدثنا عن الذكر واستفضنا فيه في حلقات. في السابق، كان الحديث كثيراً عن الفكر. حضرتك، بدلاً من أن أتحدث لنا فيه، وسنكمل إن شاء الله في المرات القادمة. بسم الله الرحمن الرحيم، أهم شيء في الفكر هو أن كتاب الله المنظور وكتاب الله المسطور مصدران للمعرفة. كتاب الله المسطور - القرآن الكريم - أمرنا بتدبره: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند". غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، وكتاب الله المنظور أيضاً أمرنا بالتأمل فيه وأخذ المعرفة منه، وربنا سبحانه وتعالى يقول: "ألا
له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين". وعندما نقرأ: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق" - الذي هو الخلق - "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم". وهو الوحي "نون والقلم وما يسطرون" فالخلق والوحي تبدأ هكذا، لكن في سورة الرحمن قال: "الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علمه البيان"، بدأ بالقرآن ثم بالأكوان، وهنا بدأ بالأكوان ثم بالقرآن، يعني هي دائرة من حيث بدأت انتهيت. لماذا؟ لأنهما من عند الله، فلا تناقض أصلاً في العلم ما بين الحقائق. الكونية والحقائق الشرعية، هذه
النظرة هي نظرة أهل الله، لكن أصحابنا الآخرين يقولون: "لا، ليس لي إلا الوحي"، ولذلك يريد أن يعيش عصر النبي لا حياته، فيضيق واسعاً. ولهم في هذا شأن مضحك، لكنهم يغيرون الأمر كله عندما يصطدمون مع الحياة الجارية، فيغيرون أهل الله على ما... هم عليه لم يغيروا ولم يبدلوا، فهذا الفكر مهم جداً لأنه عندما حدث تأمل وتدبر للكائنات وللإنسان، كتبنا مراتب النفس وحاولنا أن نكون تحت السقف المعرفي
للكتاب والسنة، حتى اخترنا منها ألفاظ الكتاب والسنة، فوجدنا هذا الترقي، ووجدنا أن هناك لطائف، وهذه اللطائف تعمل عند البشر كلهم، ونحن جئنا لنسميها. ما هي هذه اللطائف الموجودة عند الهندوس والبوذيين وغيرهم؟ هي موجودة. عندما تعمل في الخلوة ستنتج هذه الخلوة لك أسراراً، ونريد أن تكون هذه الأسرار منضبطة بالكتاب والسنة. فيأتي ليضع لك قاعدة ويقول لك انتبه: لا يصل، احذر أن تشغل نفسك بالأسرار ولا بالأنوار، اعبد الرب القهار، لا تشغل. نفسك بأسرار ولا وكل من
كشف لك شيئًا من الأسرار اجعله في التعلم بالأدب مع الله، كيف تكون مؤدبًا مع الله. ولذلك الملتفت لا يصل، وقد ذهبوا ووضعوا قواعد، ومنهم الشيخ الزروق الذي وضع القواعد الزروقية، ومنهم الشيخ ابن عطاء الله الذي وضع الحكم العطائية، ومنهم في التخلية والتحلية الغزالي الذي وضع إحياء علوم. الدين ينقسم إلى قسمين: العبادات والمعاملات، وقسم المهلكات والمنجيات. القضية كلها تعتمد على الكتاب والسنة والاستفادة من التجارب البشرية. فيقول لك: اللطائف خمسة: القلب والروح والخفي والسر والأخفى. ما هذه الخمسة؟ هذه أماكن موجودة. حسناً، ماذا أفعل فيها؟ وما هي مقتضياتها؟ فيقوم بكتابة تجربته مع الله. والغريب أنك...
تجد نفس التجربة لديك، فيقول الإمام السيوطي، وهذا دليل على أنها حق. حسناً، حدثت لك وأنت ليس لديك علم بهذه المسألة، وليس لديك شيخ مرشد. فجربوا هذا فوجدوا أنه من الممكن أن عدم المعرفة هذه قد تجعلك تضطرب. إذاً إذا كان الذكر أصلاً مصمماً للاطمئنان، "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". عندما يصل الذكر إلى عدم اطمئنان القلوب، فهذا يعني أن ثمة خطأً ما. ما هو هذا الخطأ؟ إنك نظرت بعين واحدة، وأصبحت غير مصدق لهذا. إنك لم تتخذ منهاجاً نبوياً
مفتوحاً، وإنك لم تقف عند حياة النبي بل وقفت عند عصر النبي، وإنك وقفت عند النص وليس عند فهمه. أهل الله للنص لم يفرقوا بين كتاب الله المسطور والمنظور فاعتمدوا على واحد وتركوا الثاني وأنكروه ووجدوا صراعاً مقيتاً بين الكتابين وهما من عند الله وحقائقهما لا تختلف. شيء رهيب جداً لو جلسنا نتكلم فيه حتى الصباح في مفاتيح عند السالكين اعتمدوا عليها وعاشوا فيها، والسالكون هم الذين... هو الشافعي والفضيل بن عياض وعبد القادر الجيلاني والغزالي وأمثال هؤلاء عبر القرون، ولذلك حدث هنا في الطريق
إلى الله، حينما قال لك إنه يوجد خمسة لطائف فقط في الملك وهو المشاهد للحياة التي نعيشها، ويوجد ملكوت. حسناً، وما شكل هذا الملكوت؟ وما قواعده؟ وما أحواله؟ لكن الملك... والملكوت على كل حال في باب المخلوق، ثم إن هناك فوق هذا الملكوت في عالم الغيب العرش الذي تكلم عنه ربنا سبحانه وتعالى، وما عدا العرش الذي هو خارج الأكوان، والذي هو شيء عجيب غريب في هذا المجال، هو الله رب العالمين الذي يُنهى عن التفكر في ذاته. إشراك يعني أننا لن نفكر فيما فوق العرش، وهذا المُلك يكون في خمس درجات، وكذلك الملكوت في خمسة أيضاً، فتصبح الدرجات عشرة. وبدأوا يضعون: ماذا سيحدث
لك وأنت سائر هكذا في الطريق إلى الله؟ فكتبوا هذا ما الذي سيُفتح عليك من الأسرار، وما الذي ستراه من الأنوار، وزهّدوك فيها. أي اعلم أنك لن تُقبَل عند الله إلا إذا لم تجعل هذا مُرادك، فهذه أمور قد زهّدوك فيها: في الكرامات، وفي المراتب، وأمروك بعدم الالتفات إليها، حتى يكون الدين كله لله، وحتى تكون النية والقلب صافياً ومخلصاً ونقياً، وليس فيه أي شائبة، لله بالله عليك. أليس هذا هو عين التوحيد؟ أو التوحيد أن نُدخل الناس في
شبهات واضطرابات وتشويشات حول "الرحمن على العرش استوى"، كيف استوى؟ وأن له يدين، وأن كلتا يديه يمين، وأشياء يعني يشبهون الخالق بالمخلوق. هل هذا هو التوحيد؟ أم التوحيد هو إخلاص النية لله والسير مع عدم الالتفات لجميع العوارض الطارئة. هذا هو ملخص ما هنالك أن أهل السلوك وأهل الله يسيرون بالذكر والفكر ويأمرون أتباعهم بأن لا يلتفتوا ويعلمونهم ما الذي سيحدث خوفاً عليهم وليس طلباً لمثل هذه المراتب، ومن طلب هذه المراتب في ذاتها فإنه يكون ملتفتاً، والملتفت لا يصل، والمقصود الكلي هو
الله، والسعي الحثيث إنما هو إليه. وحده لا شريك له، ولذلك يجب عليك ألا تلتفت إلى كرامة، ولا تلتفت إلى رؤى، ولا تلتفت إلى خواطر، ولا تلتفت إلى واردات، ولا تلتفت إلى أسرار، ولا إلى أنوار، ولا كيف. هذه أشياء مبهرة، لو أنك تسير في الطريق وحدك لانبهرت قطعاً، ولا يعني أنه حصل لك خلل، يقول. يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن من العباد الصادقين الذين ليس لهم شيخ - والعبادة مطلوبة عند الجميع عندنا وعند المبتدعة - من يرى
عرشاً نورانياً في السماء. ماذا ستفعل الآن؟ لو كان لديك شيخ، ولو كنت متعلماً، لعرفت أن هذه كلها خيالات. عرش نوراني في السماء ظهر هكذا ويقول له أنا ربك فاسجد لي. إنه يسمع صوتاً أيضاً، فإذا سجد كفر. فإذا سجد كفر لأنه شيطان. ماذا يعني أن نوراً ظهر وعرشاً ظهر؟ ما هذا الكلام؟ أنت لو كان قلبك ليس فيه إلا الله، فلن تتأثر بهذه الشيطانيات الممكنة للشيطان. الشيطان يمكن أن يفعل هكذا كما قلنا قبل ذلك، فاعرضوا أمره على الشرع، فإن كان موافقاً
للشرع فذاك المطلوب، وإلا فهو شيطان الذي يطير في الهواء والذي يمشي على المياه والذي لا أعرف ماذا يفعل. عندما يكون لديك هذا اليقين، يكون الأمر مختلفاً. بعد الفاصل نستمر، بعد الفاصل: بسم الله الرحمن الرحيم، كنا قبل... الفاصل: وصلنا إلى كلام ابن تيمية وهو يقول أن من العباد من يظهر له نور أو عرش نوراني في السماء فيقول: "أنا ربك فاسجد لي"، فإذا سجد كفر. وبعض الناس يقول لك: افترض أنه لا يعرف، أي أنه جاهل، كيف سيكفر؟ في هذه الحالة هو يظن أن هذا هو ربنا. ما هو هذا من جهله فيوردون في هذا المقام قصة عن سيدي عبد القادر الجيلاني أيضاً هي
تحذر السالكين، وطبعاً المبتدئون يقفون عند القصة ويتقافزون، لكن لماذا؟ لأنه ليس عندهم تجريد، ليس عندهم محاولة لفهم المنهج، ليس عندهم محاولة لأخذ العبرة من القصص، فيقال إن الإمام عبد القادر الجيلاني كان في الخلوة يذكر ربنا، وبينما هو في الخلوة كذلك يذكر ربنا، قال: "فرأيت أن نوراً عجيباً قد ملأ..." عجيباً، انتبه جيداً، ليس نوراً عادياً بل نوراً عجيباً قد ملأ الخلوة حتى خفت أن أغرق فيه، يعني كأنه أمواج متلاطمة من الأنوار،
وسمعت صوتاً ما سمعت أحلى منه قبل ذلك وهو يقول. يا عبد القادر، قد أحببناك، فاقشعر جسدي وخشع قلبي وبكت عيناي وقلت: لبيك. قال: يا عبد القادر، من حبنا لك قربناك. قال: فذبت كما يذوب الملح في الماء. لست قادراً على أكثر من ذلك، ربنا يكلمه ويقول له: أحببناك وقربناك. يا عبد القادر، أحللنا لك الحرام فافعل ما شئت، فعين.
اذهب يا لعين. قال: فانطفأ النور وسمعت صوتاً ما سمعت أقبح منه وهو يقول مدبراً: علمك نجاك يا عبد القادر. هذه هي الفائدة التي يقولونها "علمك نجاك يا عبد القادر". أخرجت سبعين ولياً من ديوان الولاية. هؤلاء الأولياء ليسوا علماء، فذهبوا يا عيني منبهرين بالمخرقات التي للشيطان هذه. فوقعوا في المحظور وضلُّوا وذهبوا بعد ذلك، لأنه
سيأتي إليك في المرة القادمة ما دام أسقط عنك التكاليف. سيقول لك: "نحن أحللنا فيك، نحن فعلنا بك كذا وكذا". حسناً، إذا كنت تُسقط التكاليف، فلماذا لم تُسقطها عن النبي سيد الكائنات؟ لم تُسقط عنه التكاليف، فقال: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين". اليقين الذي هو الموت، فأنت على من تلعب أو على من تضحكون؟ علمك نجاك يا عبد القاطع، ومن هنا كان لا بد أن نتعلم هذا العلم. أركان العلم أن يكون لك شيخ، أن يكون عندك كتاب، أن تكون لك تجربة، أن يكون لك جو. هكذا تأخذ وتعطي وهكذا، فهذا الذي... نقول له: نقول يا جماعة، المشايخ يرشدون الناس إلى الأدب، ويرشدون الناس إلى كيفية عبادة الله،
ويرشدون الناس إلى تخليص القلب من العناء ومن الشرك ومن أن تجعل لله نداً وأن تنشغل عنه بالعوارض والمشاغل. فعلى ماذا تنكرون؟ ماذا تنكرون؟ فيأتي لك بحجة من هنا وحجة من هناك حتى يشوش. الأمر على نفسه ولكن ما نقوله هذا هو حقيقة التصوف، أن التصوف هو طريق إلى الله، وأن ركنه الذكر والفكر، وأنه يقوم بالتخلية فالتحلية، وبالتخلي والتحلي يحدث التجلي، وأنه يحيا حياة النبي ولا يحيي عصره، وأنه يحيا منهج النبي ولا يحيي مسائله، وأنه يتجاوز بذلك كله إلى الله، وأن الله هو المقصود
وأن الملتفة لا يصل وأن هذا هو التصوف. الإسلام وحب النبي ركن من أركان الإيمان ومن أجله نحب أهل البيت. ليس هناك علاقة إطلاقاً بين التصوف وبين التشيع. التشيع مذهب قائم بذاته بل بمروياته أيضاً، فله روايات ليست عندنا إطلاقاً ولا نعرفها. كل هذه الهيئة تضع. التصوف الإسلامي في مكان صحيح من كونه هو العلم الذي جعل محوره أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك. وعلى ذلك فالمتصوف ليس كل الأمة، بل هو صنف من الأمة. ومن هنا ترتبت الأمور إلى العوام والخواص وخواص
الخواص، ومن هنا كانت مراحل بين بداية الطريق. ونهاية الطريق مائة مرحلة التي ذُكرت في منازل السائرين. تفضل، لقد أوضحت لنا أن الطرق الصوفية هي عبادة ربنا سبحانه وتعالى بمقام الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وقد ذكرت لنا أن هذا صنف من البشر وليس كل البشر. حسناً، بالنسبة للصنف الآخر الذي... من ليس لديه ومن لا ينتمي إلى طريقة صوفية، هل هذا لا يعبد الله سبحانه وتعالى بمقام الإحسان؟ ولو وُجد هذا الصنف، يكون فقط شيئًا غير موجود عند الذي ينتمي إلى أي طريق صوفي، أم أنه يعبد ربنا سبحانه وتعالى بمقام الإحسان، وينال نفس ما عند الذي ينتمي إلى الطريق الصوفي؟ رأينا في مقام الإحسان أنه... على مرتبتين: مرتبة هي مرتبة خواص الخواص أن
يعبد الله كأنه يراه، ومرتبة أخرى ليست كذلك. فإن لم تكن تراه فهناك من يراه. وهناك أن تعبد الله على طريقة أخرى، عموم الناس يعبدون بهذه الدرجة الأقل. أما أهل التصوف فيعبدون أو يحاولون أو يريدون، ولذلك فهم يتخذون وسائل ذلك. يريد أن يخرج في كلية أن يخرج طبيباً يدخل كلية الطب، ورجل يريد أن يخرج شرعياً يذهب إلى كلية الشريعة ويتعلم من البداية هذا الكلام، لكن الثاني لا يريد خلاصاً، لا يريد هو في هذا النطاق. فالإجابة على سؤالك هي أن عموم المسلمين هم في المرحلة الثانية وليست في المرحلة الأولى إذاً. أردت أن تدخل المرحلة الأولى ثم
إنك بدلاً من دخول كلية الطب أنت تريد أن تكون طبيباً، قرأت مجلة الدكتور وحفظت مجلة طبيبك الخاص، ووالله العظيم لن تصبح طبيباً أبداً. فالذي يأخذ من نفسه هكذا من غير شيخ ومن غير كذا إلى آخره، تقول لي: طيب أليس هناك ولا واحد؟ ولا واحد أقول لك لا، وهؤلاء أفراد قليلون جداً، لكن إذا كنت تريد أن تصبح طبيباً فادخل كلية الطب مباشرة، لا تخف، ستدخل الطب وستنجح وتصبح طبيباً. يعني يا مولانا، هل يجب على المرء أن يتخصص حتى يتصوف؟ أم ماذا ينبغي للمرء أن يفعل؟ لا بد أن يكون للإنسان شيخ يرشده، وإذا لم يكن... له شيخ يعني أنه ما زال لم يدخل، فتكون هداية ربي عند فقد المربي الذي هو الصلاة على النبي صلى الله عليه
وسلم كما أوضحنا من قبل. وعلى كل حال، سنجعل كل هذا في حلقة قادمة إن شاء الله، ونبدأ الحلقة القادمة فيما عنَّ لكم من أسئلة حول ما قدمناه. إلى اللقاء. استودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. شكراً.