القداسة - درجات المعرفة #21 | د. علي جمعة

القداسة - درجات المعرفة #21 | د. علي جمعة - التفكير المستقيم, درجات المعرفة
تحيةٌ لكم مشاهدينا الكرام، أرحب بكم في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج درجات المعرفة. اليوم نستكمل هذا الحديث الطيب مع فضيلة الدكتور، ونتناول بعض المفاهيم، وسيكون في المقدمة مفهوم القداسة. ماذا يعني هذا المفهوم أو هذا الاصطلاح من الناحية الفقهية ومن الناحية اللفظية؟ أرحب بفضيلة الإمام العالم الجليل الأستاذ الدكتور علي. جمعة: أهلاً بفضيلتك،
أهلاً وسهلاً بكم مولانا. ما المراد بمفهوم القداسة؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. القُدس هو الطُهر، والقداسة معناها الاحترام، أن نضع حوله هالة تمنعنا من التجرؤ عليه كما نتجرأ على مفردات حياتنا اليومية، ولذلك فالمسلمون عندهم لديهم قداسة للمصحف كتاب الله، لا يستطيع أحدهم أن يرميه لأخيه. يمكن أن يرمي أي كتاب أو جريدة وتكون بينهما مسافة، ولكن لا يستطيع أن يفعل ذلك بالمصحف لأنه تربى منذ صغره على احترام هذا الشيء، على أن يكون
هذا الشيء محاطاً بهالة هي القداسة، محاطاً بما يجعل الإنسان لايكسر حرمته احترامه يعني أنه لا يتعدى ولا يدخل دائرة يستطيع فيها أن يتعامل معه كما لو كان ورقاً عادياً كسائر الأوراق، فيتعامل معه كسائر الأوراق وكسائر الكتب وكسائر الأشياء. أبداً، كذلك المسلمون يقدسون مثلاً - حتى نفهم ما هي القداسة - الكعبة. القداسة لا تعني أبداً العبادة، القداسة لا تعني أبداً الشرك بالله والعياذ بالله تعالي أو أن نطلب من الكعبة شيئًا وهي جماد، ولكنها محل تنزُّلات رحمات الله وسكينته على الخلق، ولكنها مركز الكون وسرة العالم الذي هي محل نظر الله سبحانه
وتعالى، ومن أجل ذلك اعتقد المسلمون أن الله يستجيب الدعاء في هذه المنطقة أكثر من أي مكان آخر، وأن الله سبحانه وتعالى ينزِّل الرحمات والسكينة. يستجيب لعبادة عباده في دعائهم في هذا المكان أكثر من أي مكان آخر، ولذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا البيت الحرام الذي هو مكة، خاصة عندما نصل إلى مركزه وسرته الكعبة، هو أن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة في ماذا؟ في آثارها، فعندما أصلي ركعتين في هذا البلد الأمين، فإنني أكون في معية الله، في حرم الله، في بلد الله. ولذلك تعوّد المسلمون أنهم عندما يرون بيوت مكة يقولون: "اللهم إن هذا البيت
بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، فحرّم جسدي على النار، وآمِن روعتي يوم القيامة". هذه هي القداسة، أنه بمجرد دخول مكة فإنه دخل شيئاً محترماً. لا يستطيع فيه الظلم، لا يستطيع فيه أن يتتبع الصيد، لا يستطيع فيه أن يهين النبات، لا يستطيع فيه أن يؤذي الحيوان، بل إن الإنسان إنما دخل بشيء من مزيد الاحترام هذه هي القداسة. وعندما نصل إلى الكعبة ونجد أنها قد سترت بستار، نتعلق بالستار تبركاً به، نعم يضع المسلمون خدهم على حائط الكعبة رغبة في الدعاء، يلمس المسلمون الحجر
الأسود الأسعد رغبة في أن هذا وكأنه يمين الله في الأرض، كأنه يمين الله في الأرض، وأنه عنده تتحات الذنوب، أي تسقط الذنوب. إذاً فعندنا شيء من الاحترام للمصحف، وعندنا شيء من الاحترام للكعبة، وعندنا شيء كبير من الاحترام للنبي صلى عليه وسلم بحيث أننا تعودنا أن نقول سيدنا، وعندما ظهر بعض الناس يقولون محمد وليس حراماً ولا شيئاً من هذا القبيل، ولكنه قدح في شعورنا، يعني أنت ما شأنك هكذا تنادي النبي عليه السلام باسمه مجرداً من التفخيم والتعظيم، حتى نعطيه بعض حقه علينا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعبده أحد من المسلمين ضالاً
كان أو كافراً أو خارجاً عن الإسلام منتمياً تحت عباءة المسلمين ثم كفر فعبد محمداً. لا يوجد هذا لأن الله قد استجاب لدعائه حيث قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد من بعدي". فقد كان بعض المسلمين ضلوا وعبدوا الحاكم بأمر الله بعض المسلمين ضلوا وعبدوا علي بن أبي طالب كالسبئية، وبعض المسلمين ضلوا وعبدوا البهاء، وهكذا. لكن لم يضل أحد أبداً ولا مجنون، حيث حمى الله سبحانه وتعالى مقام النبي من هذا الهراء، وهو أن يعبد أحد من المسلمين أحداً سوى الله. صحيح أن الذي يعبد أحداً سوى الله كما فعل... الحاكمية أو السبئية أو البهائية خرجوا من
ملة الإسلام صحيح، لكنهم كانوا تحت عباءة الإسلام، أي أن المسلمين ليسوا معصومين. ولكن لماذا إذا كانوا قد عبدوا علياً أو عبدوا شخصاً مثل الحاكم أو عبدوه هنا وهناك، والمتألهون كُثرٌ في التاريخ، لماذا لم يعبدوا محمداً؟ حمايةً من الله وتأييداً من الله. لجناب النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نقدس سيدنا النبي ونقول عليه سيدنا، ويحدث في النفس شيء بالرغم أنه خارج الأحكام الشرعية المرعية. الذي يقول محمد بن عبد الله جائز، وأشهد أن محمداً جائز. يؤلف السيد أحمد بن الصديق "تشنيف الآذان باستحباب السيادة في الإقامة والأذان"، تشنيف الآذان وهناك الأذان. الذي هو الله أكبر الله أكبر، نقول فيها أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمداً رسول الله، ولا نقول وأشهد أن سيدنا محمد، قال ليس هناك مانع وأورد نصوص الفقهاء المتكاثرة في أننا نقول وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله، وتحدث العلماء عن تقديم الأدب على الاتباع. فأنا في التحيات أقول أشهد أن محمداً رسول الله ولا أقول سيدنا محمد. قال: يجوز اللهم صل على محمد ولا على سيدنا محمد، فهل هذا مناسب؟ قال: لأن ذلك فيه أدب. أعطِ القداسة، هذا الاحترام الذي يُعطيه المسلم لعالم الأشياء: الكعبة، المصحف، ولعالم الأشخاص: سيدنا النبي، العلماء، الأب والأم، هكذا يقبّل فوق يد أبيه وأمه. هل احتراماً أم قداسة يا مولانا؟ وهل من الممكن أن يصل الاحترام إلى مرتبة القداسة؟ فهي هي نفسها، إذ
إن بعض الناس يستعملون ألفاظ اللغة العربية في غير موضعها تخلفاً منهم. القداسة معناها الاحترام وليست شيئاً إلهياً أو خاصة بالإله، لا، إنما الله. سبحانه وتعالى أيضاً هو مقدس، ولكن كمال التقديس مثلما أن الله سبحانه وتعالى مؤمن. الله سبحانه وتعالى قوي، لكن لا تقارن قوته بقوة البشر ولا بقوة المخلوقات. قوة الله قوة أخرى ليست كقوة المخلوقات، لكنه قوي. فالله مقدس، ولكن ليست هذه القداسات، فهذه القداسات تبدأ بالاحترام، تبدأ بما يحيط به. من التبجيل والتوقير، هل نحن نهين؟ حاشانا، جل جلال الله، لا نهينه. فهو في القداسة، نعم هو
في القداسة لكن في غايتها، هو في القداسة لكن في أعلاها، هو في القداسة لكن في نطاق العبودية، أي في النطاق الذي يعبد فيه. وهنا مصطلح تقديس البشر ليس مصطلحاً خاطئاً. تقديس البشر بمعنى احترامهم يا مولانا، نعم القدس معناها هكذا. لماذا سمينا إذن أورشليم بالقدس؟ لأنها طاهرة، لأنها حرم، لأنها محترمة، لأنها تعلقت بها القلوب، لأنها محل نظر الله. الصلاة فيها بخمسمائة صلاة، لأنها... نعم. هذا حرام إذن؟ المدينة كذلك، القبر الشريف، القبر الشريف أجمع المسلمون شرقاً وغرباً أنه... أفضل بقعة في العالم حتى أفضل من العرش الذي هو المساحة التي فيها جثمان الشريف لسيد المرسلين صلى
الله عليه وسلم، هذه قداسة لكن ليست عبادة. فإذا ينبغي علينا أن نحرر هذه المصطلحات. دائماً عندنا في الإسلام موجودة القداسة لعالم الأشياء ولعالم الأشخاص، وهناك أيضاً لعالم الزمان والمكان للأحداث فعندنا. ليلة القدر معظمة ونحتفل بليلة الهجرة التي هي بداية السنة الهجرية الجديدة، ونحتفل برمضان احتفالاً كبيراً، ونحتفل بالحج والتوجه إلى بيت الله الحرام لأنه موضع المغفرة، ونحتفل بيوم عرفة احتفالاً كبيراً لأنه يوم يغفر الله فيه الذنوب، ونحتفل بالعشرة أيام الأولى من ذي الحجة التي تتوج بالعيد. نعتبر العيد وما بعده
من أيام التشريق أيام أكل وشرب وفرح وسرور وحبور، وهكذا كل هذا من نوع التقديس. انظر كيف جاء وقال لي إياك أن تصوم خمسة أيام: عيد الفطر وعيد الأضحى وثلاثة أيام التشريق. أتعرف ماذا يعني ألا أصومهم؟ لا أتجرأ أن أصومهم، فلو صمت، والصوم عبادة، لكن... لا يصلح مع هذه الأيام أن تجعل لهم حرمة. ماذا تعني حرمة؟ تعني قداسة. يعني أن آتي هكذا وأصنع لهم هالة حولهم من الاحترام والتبجيل والتوقير. فالقداسة ليست مرادفة للعبادة، ولكن القداسة مرادفة للاحترام. هل يمكن أن نقول إن العقل البشري هذا مقدس؟ العقل البشري بمعنى أن
قواعد العقل هي... مقدسة ومحترمة لكن العقل البشري بمعنى أفراده عقلي وعقلك وهكذا هذا كثير الخطأ لأنه محدود. إذاً، كلمة "العقل البشري" ماذا نعني بها؟ نعني مجموعة القواعد البدهية الأساسية التي بها تُدركون، وطبعاً هذه مقدسة ومحترمة للغاية، ولا نعني بها مخي ومخك، لا، هذا ليس مقدساً ولا محترماً ولا شيء. لأنه كثير الخطأ، حسناً، ولماذا هو خاطئ؟ لأنه محدود. في ماذا؟ في زمانه، في مكانه، في حالته، في تلقيه، في الخطوات السبع التي تحدثنا عنها وهي التلقي والفهم والحفظ والاسترجاع والربط وما
إلى ذلك. فنعم إنه محدود، نعم، ولذلك لا أستطيع أن أجعله يتعدى في نظره إلا الذي... أمامه هؤلاء في سمعه إلا في محيط معين، لا يستطيع أن يسمع دبيب النملة لأنها أقل من عشرين ذبذبة في الثانية، وأي شيء أقل من عشرين ذبذبة في الثانية وإن كان السمع الخاص بي حاداً، لا يستطيع أن يلتقطها. وهو لا يستطيع أن يسمع الانفجارات الكونية التي تفوق الألفين أو في الثانية لا تستطيع طبلة الأذن أن تبقى واقفة هكذا ولا علاقة لها بما حولها، فهذا يكون إذاً قاصر ومحدود، لكن مجموعة القواعد التي توصلنا إليها من أن الكل أكبر من الجزء، ومن أنه لا يجوز إدخال المكبر في المصغر حتى يختلف، ومن
أنه كذا وكذا الذي يقول الترمذي. عليهم هناك أربعون شيءٌ مثل ذلك. لا، هذه محترمة، هذه مقدسة لأنه لا يمكن أن نتخلى عنها. نعم، ولذلك عندما جاء بعضهم قال: إن العقل له أحكام ثلاثة: واجب الوجود الذي هو الله، ومستحيل الوجود الذي هو اجتماع النقيضين، يعني أن يكون الشيء وضده ونقيضه في نفس الوقت في... نفس المكان في نفس الزمان في نفس الشخص في نفس... مستحيل اجتماع النقيضين، لا يستطيع العقل البشري أن يتصوره. نعم، قالوا يعني لا يكون أبداً إلا واحد منهما خطأ، وقال: ممكن. حسناً، إذاً ليس مستحيلاً، ما دام ممكناً فليس مستحيلاً. المهم أن العلماء قالوا: لا.
هذا مقدس هذا لا نمسه لأننا لو مسسناه لا نستطيع أن نتناقش حول البدهيات ولا نستطيع أن نتناقش في إقامة الحجج والبراهين وحينئذ تنهار المعرفة البشرية، وأنا حينها عندما تريد أن تسألني عن هذه القصة وأجلس لأحكي لك عنها وأخبرك ماذا حدث فيها، حكاية هل يجوز وقوع. المستحيل يرى الكلام كلاماً متناقضاً يُجنن العقل السليم. أريدك أن تسألني هذا السؤال، لكن أستأذن فضيلتكم بعد الفاصل. إنني أريد ذلك، فهذا ما أريده بالفعل. شكراً جزيلاً. ابقوا معنا بعد الفاصل. أرحب بحضراتكم
مرة ثانية. مولانا، حضرتك قبل الفاصل قلت لنا أن المستحيل يمكن ألا يبقى مستحيلاً، فبالتالي ما... خصام مستحيل، فلماذا هو مستحيل؟ لا، إن الذين يقولون هكذا، نحن ضدهم. أنت كنت تقول لي القداسة، فأنا أقول لك أنه يوجد فعلاً. هل العقل البشري مقدس؟ هذا كان السؤال. ماذا تعني بالعقل البشري؟ عقلي وعقلك؟ لا، ليس مقدساً، لكن مجموعة الإدراكات والأقسام وأحكام العقل ليست مقدسة. ماذا؟ ما هي أقسام العقل أو أقسامه؟ حكم العقل لا محالة هي الوجوب، ثم الاستحالة، ثم الجواز ثالث الأقسام. فافهم منحت بالذات الأفهام. يقول الشيخ الدردير في الخريدة أن أحكام العقل ثلاثة:
واجب ومقابله مستحيل وفي النهاية جائز بينهما. ما هو الواجب؟ الله. وما هو المستحيل؟ اجتماع... النقيضان، حسناً، ما هو الجائز الممكن؟ يعني ما يمكن أن يحدث. ثمة قصة منسوبة إلى الشيخ محيي الدين بالعربية أنه - يعني - حسناً، افترض حدوث المستحيل، فقالوا له: اعقل لأن هذا لا يمكن أن يحدث. وبالإنجليزية - أنا أعلم أنك تعرف الإنجليزية جيداً، انتبه - يُقال لك "By definition"، تقول لي إن المستحيل حصل، هذا تناقض لا يصح. هل أنت منتبه؟ فنحن نسير مع
هذه المدرسة التي هي مدرسة جمهور الأشاعرة التي ترد على من أجاز عقلاً حدوث المستحيل. قلنا له: لا، هذا أصبح خلطاً في الأمور. بعض الناس عندما تثق في أشخاص تسير وراءهم، فظهر أحد من علمائنا الذين نحبهم، أو يا جماعة، محيي الدين بن عربي يقول أنه من الذي يقول هذا الكلام؟ يقول هذا الكلام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني. كان رجلاً صالحاً وعالماً شافعياً جيداً، وكان يحب محيي الدين كثيراً، فعندما وجد محيي الدين قد كتب هكذا، قال: أنا ما دام محيي الدين قد كتب لا بد أن يعني المستحيل يحدث. كان قبل ذلك شخص يُدعى الحكيم الترمذي قال لنا أن
صورة المستحيل أربعون صورة، أربعون صورة من ضمنها "حتى يلج الجمل في سم الخياط" التي تعني أن الجمل يدخل في ثقب الإبرة. الثقب بحجمه هكذا، والجمل كما هو، وأن يدخل الاثنان معاً، هذا مستحيل يُسمونها كلاماً ليس صعباً ولا شيء، لكن عندما يُركب الناس تقول لك عنه إنه صعب. انظر عندما ضربنا المثل المفهوم: هل يمكن للجمل أن يدخل في ثقب الإبرة؟ ديكارت يقول ماذا؟ يقول حتى إدخال الشيء الضخم الذي هو الجمل في المكان الضيق الذي هو ثقب الإبرة دون أن يتسع المضيق زويلة مثلاً أو يضيق الموسَّع الذي هو الجمل ويصبح كالفتيلة، فهذه التركيبة تتمثل في إدخال الموسَّع في المضيق دون أن
يضيق الموسَّع أو يتسع المضيق. هذه التركيبة قد يقول لك أحدهم: "هل تتحدث الإنجليزية أم ماذا؟" يعني قد تصعب على بعض الناس. دعك من هذه التركيبة واكتفِ بالمثل: ها هو يا سيدي، يدخلون معاً وهم على حالهم. الإجابة مستحيلة، حسناً أغمض عينيك هكذا وحاول أن تتخيلها، مستحيل. فالإمام الشعراني أخطأ في هذه المسألة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا يُبيّن لك أنه ما من أحد معصوم، نقع في الخطأ وكل شيء. وبعد ذلك قال: "لكن هذا حدث"، فقلنا له: "حدث". كيف إذن؟ سنشاهد الآن كيف حدث ذلك. قال: كان هناك شخص ذهب إلى شاطئ النيل هو وأصدقاؤه ليستحم، إذ كان الجو حارًا. فوضع ملابسه ونزل ليغطس في
الماء. عندما خرج وجد نفسه بين أناس آخرين، فقال لهم: "يا الله! أين ذهبت الملابس وأين ذهب الناس؟" فقالوا له: "لقد ظهرت". مِن أين؟ قال لهم: أين نحن؟ قالوا له: أنت في الفرات. يعني هو نزل في نيل مصر وخرج في الفرات! حسناً، سنقبل هذا. ضرب ضربة هكذا في نيل مصر، وعندما خرج، في العراق. بسيط، يعني طوى الله له المسافة. هذا يمكن أن تتخيلوه وتصنعوا منه فيلماً والشاب بطل خارق. الذي يفعل ذلك يمكن أن ينزل ويخرجوا من الناحية الأخرى، ماذا؟ الجن يفعل هكذا، هل تنتبه؟ كيف؟ حسناً، قُم. قالوا له: "الله! أنت خرجت من هنا! أنت نزلت في مصر وخرجت هنا، أنت إذاً ولي من أولياء الله الكبار
الذين طُوي لهم المكان، تعال نزوجك". فأخذوه وزوجوه، ودخل بالعروس فحملت. منها فولدت، وأصبح الولد عنده عشر سنوات. حسناً، هذه العبارة: الرجل نزل هنا سنة ستة عشر، فيكون الولد هناك أصبح في سنة كم؟ ستة وعشرين، أصبح عنده عشر سنوات. فهذا الرجل اشتاق لمصر والأصحاب، فذهب ونزل في الفرات مرة ثانية. كل هذه رواية سيدنا الشيخ الشعراوي، فخرج في النيل. وجد أصحابه ومعهم الملابس، سنة ستة عشر أيضاً، السنة التي نحن فيها. قالوا: "الله! أنتم ما زلتم جالسين؟" قال له: "ما زال ماذا؟ أنت بالكاد غبت ثلاثين ثانية وعدت!" قال لهم:
"لا، لقد حدث معي أمر، لقد ذهبت إلى العراق وتزوجت وأنجبت وفعلت..." قالوا: "الرجل يهذي." كذب! كيف أنك تتحدث معنا الآن في سنة ستة عشر وتكون قد أنجبت ولداً هو الآن في سنة ستة وعشرين؟ هذه السنوات العشر دخلت في ثلاثين ثانية؟ كيف تكون هذه السنوات العشر موسعة والثلاثون سنة مضيقة؟ يعني كما يقال: "الجمل وسم الخياط لا يمكن أن يدخلا في بعضهما". فلماذا أنت قال لهم: "هذا فقط ما حدث". قالوا له: "نحن لا نصدقك بصراحة، لعلك أُصبت بضربة على رأسك أو تخيلت أو فعلت أي شيء، وهذه الرواية كلها حدثت لك ربما بسبب نقص الأكسجين أو شيء ما. لم يكن هناك وقتها أكسجين، لا يعرفون أنك كنت ستختنق تحت
الماء، ثم خرجت وأخبرت فذهب وقال ماذا؟ قال إنه أرسل إلى الولد فأتوا به. إلى هنا فقط يا سيدي الشيخ الشعراوي، أنا لست معك. فالشعراوي والشعراني كلاهما لهما النطق نفسه، سواء كان للشيخ متولي رحمه الله أو للشيخ عبد الوهاب الذي سُمي عليه باب الشعرية. باب الشعرية هذا منسوب لعبد الوهاب. الشعراوي أو الشعراني لماذا؟ أي مثل الفرنساوي والفرنسي، هل فهمت؟ وأحياناً تصلح النسبة لاثنين، فالعقباني والعقباوي، العقباني والعقباوي، فالنون والواو يتواردان في النسبة. فهو الشيخ الشعراني أو الشعراوي، كلاهما صحيح. المهم أننا نقول له:
يا مولانا الشيخ الشعراني، نحن لسنا معك في هذا الأمر، فقد كان شيخ مشايخنا. عندما اطّلع الشيخ أحمد بن الصديق على هذا الكلام عند الشيخ الشعراني، ذهب وأمسك الورقة والقلم ليرد عليه، فهذا كلام لا يُرضي ربنا، ولا تقليده لمحيي الدين يُعفيه من المسألة. فمرض الشيخ أحمد مرضاً، فانشغل بمرضه وما إلى ذلك، وبعد سنة أو سنتين نسي الحكاية، ثم وقعت. في يديه مرة ثانية وهو يقرأ، فذهب وأمسك الورقة والقلم مرة ثانية، وبعد ذلك ذهب ليكتب كتابة ثانية، فمرض ثانية. فدعا الله سبحانه وتعالى
هكذا وقال له: "يا رب، وعزتك وجلالك، المستحيل لا يحدث حتى لو أمرضتني في كل مرة. يعني أعتبرها فتنة، أعتبرها اختبارًا. حسنًا، هل أنا الذي سأمرضك؟" عندما تأتي للرد وأمرضك عندما تأتي للرد، انتهى الأمر لعلك تصدق أن المستحيل يمكن أن يتحقق، تصدق أن المستحيل يمكن أن يتحقق. انظر إلى العقلية العلمية والعقلية الخرافية، هذه ليست عقلية علمية. إن الشيخ أحمد قال له: "بعزتك وجلالك المستحيل"، ثم جلس وبعد ذلك تركه من هذه العبارة، لكن هذا يُمنع أن نقول أن المستحيل يقع، ولذلك فالمقررات العقلية الكبرى وأقسام العقل مقدسة بمعنى أنها لا تُمس، بمعنى أنها في غاية الاحترام، إنها محاطة بهالة لا نستطيع
نقضها، وإلا نقضنا كل درجات المعرفة والهرم المعرفي الخاص بنا، وإلا لا يستطيع الإنسان أن يخاطب أخاه الإنسان ولا يستطيع أن يبلغ الدعوة. ولا يستطيع أن يتكلم بمسائل منطقية عقلية مستقرة وينقلب الحال، لكن من الممكن يا مولانا أن أفكر في القداسة بمعنى أنني أتساءل لماذا هذا مقدس ولماذا هذا غير مقدس. طبعاً لأن هناك قداسة إلهية وهناك قداسة بشرية. فعندما تأتي وتقول مثلاً أنا أقدس الدستور، حسناً، هذا تعبير لغوي مقبول، لكن تُقدس يعني تحترمه غاية الاحترام، يعني لا تخرج عنه، إنما في يوم من الأيام الدستور لن يكون مواكباً لما حوله، فهذه قداسة بشرية. يُقدس الحياة الزوجية بالنسبة للرباط المقدس يعني المُحترم، أتفهم؟ لا يُتلاعب
به، لا يُفسد في الأرض، لا يستهين به استهانة انتشار الفاحشة، أتفهم؟ لكن... ليس معنى ذلك أنه لا يوجد طلاق مثلاً إلى آخره، فانتبه دائماً إلى الفرق بين القداسة الإلهية والقداسة البشرية. كلاهما قداسة، لكن إحداهما على سبيل الدوام مثل الكعبة والمصحف والنبي وغيرها، والأخرى على سبيل المحدودية مثل بقية الأشياء. حسناً، أنا أشكر فضيلتك جزيل الشكر. للأسف وقت الحلقة قد انتهى، لكن إن شاء الله في الحلقة القادمة
سنستفيض مع فضيلتك بإذن الله في مسألة القداسة وتغير القداسة في المنظور البشري أو في الشق البشري منها. أشكر حضراتكم ونراكم في حلقة جديدة إن شاء الله. إلى اللقاء، شكراً