القرآن العظيم | ح 14 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومرحباً وأهلاً بكم في برنامج القرآن العظيم. في الجزء الرابع عشر من القرآن تواجهنا آية هي مفتاح، هي محور، هي مدخل كبير
للدين كله لأنها تتكلم عن حفظ الله. سبحانه وتعالى بأمره وقوته وهو على كل شيء قدير لكتابه، وهو أمر عجيب غريب ليس بيد محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحافظ على هذا الكتاب بعد ما انتقل من هذه الحياة الدنيا، ليس في يد الأمة لأن الأمة مكونة من أجيال ومن حلقات، ولو أن هذه الأجيال والحلقات بعضها حافظ فإن من بعده لا يحافظ، لكن الغريب أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تكفل بالحفظ، والحفظ باقٍ إلى يوم القيامة. ومن
هنا كانت هذه الآية تبين هذه الحقيقة من ناحية، لكنها في ذات الوقت دليل على أحقية القرآن الكريم وعلى صحة الرسالة المحمدية وعلى معجزة لهذه الديانة. تبقى معها أبد الآبدين، يقول ربنا سبحانه وتعالى في هذا الجزء في سورة الحجر: أنا بالتعظيم، أنا (نحن) نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. هذا الكلام يعني: بعضهم يقول إن محمداً كان عبقرياً،
وهو كذلك من أذكى الخلق. العبقري لا يقول مثل هذه الآية لأنه يعلم أن ذلك ليس بيده وليس. في طوقه ولا في ترتيبه ومن هنا كانت هذه الآية الكريمة دالة على نبوة النبي وعلى صدق القرآن الكريم وعلى صحة الإسلام ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ وفعلاً نُقِل إلينا القرآن ليس بقراءة واحدة بل بعشر قراءات تختلف كل قراءة عن القراءة الأخرى في سبع مواضع في التقديم. وفي التأخير وفي الزيادة
وفي النقصان وفي الزيادة والنقصان، هذه يعني زيادة الكلمة يخدعون أو يخادعون مثلاً كذبوا أو كذَّبوا مثلاً، وهكذا القراءات العشر محفوظة إلى يومنا هذا. ترى المغرب يقرؤون قراءة ورش عن نافع، وترى ليبيا يقرؤون قالون عن نافع، وترى مصر وغيرها من البلاد تقرأ قراءة حفص عن. عاصم وترى السودان وهكذا سبحان الله القرآن محفوظ بكلماته وبحروفه وبأدائه الصوتي في كل هذه القراءات، إذاً القرآن لم يُحفظ مرة واحدة ولا
مرتين ولا ثلاثة ولا أربعة، بل حُفِظ عشر مرات. "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". من عجائب القرآن أنه حفظه الكبير والصغير وحفظه العربي والأعجمي وحفظه. الأميّ والكاتب حفظوا القرآن الكريم عن ظهر قلب وهو ما لم يتيسر لنص على مر التاريخ، لم يُحفظ نص بهذه الكيفية أحد عبر التاريخ إلا القرآن الكريم. الهندوس عندهم الفيدا وهي عشرة أبواب أو عشرة
كتب أو عشرة فواصل، وكانوا قديماً نرى عائلات كل عائلة تحفظ فصلاً أو كتاباً يعني. أي إن جزءاً منه تختص هذه العائلة بحفظ هذا الجزء، وهذا قلَّ جداً حتى أنه وكأنه ليس موجوداً الآن. ولكن سبحان الله، تجد في القرآن وفي الأزهر الشريف عندما يُقيم مسابقة القرآن الكريم ألفي شخص حافظين للقرآن من أعمار مختلفة. وعندما جاء الشيخ محمود خليل الحصري جلس يقرأ أمام لجنة. للقراءة فسألوه:
ما أحكام هذا المكان؟ قال: يعني لا أعرف ماذا تقولون أو لا أعرف ماذا تريدون. قالوا: أنت قرأت قراءة صحيحة عجيبة، لم تخطئ لا في مخرج حرف ولا في كذا إلى آخره، قل لنا أحكام هذه التلاوة. قال: لا أعرف أحكام هذه التلاوة. قالوا: كيف كيف تقرأ؟ وأنت لا تعرف الأحكام، قال: هكذا علّمني شيخي. هذه الصلة بين الشيخ والتلميذ، بحيث أنه حفظ القرآن بالقراءات العشر حفظاً متقناً. وهو، هذه اللجنة تقول: كما أنزل الله القرآن جبريل لسيدنا
النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع عبد الله بن مسعود قال: هكذا. نزلت تلاوة عبد الله بن مسعود يقرؤها كما يتلقاها النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، وقال: "إذا أردتم أن تقرؤوا القرآن كما نزل فاقرؤوه بقراءة ابن أم عبد". ابن أم عبد الذي هو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، حفظ القرآن محور عظيم جداً. قد نتلو هذه الآية العالية القدر ولا نلتفت إلى هذا المحور. أصبح القرآن كما ذكرنا مراراً نبياً مقيماً لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. أصبح القرآن
حجة وهو أمر تكلم عنه علم الأصول. كيف ما الحجة؟ فالحجة في كتاب الله سبحانه وتعالى هو المصدر الرئيسي الذي تفسره السنة فالسنة تأتي في المرتبة الثانية ولكن القرآن الكريم أعجوبة غريب عجيب. القرآن الكريم من خصائصه أنه يحسن اللسان ويجعل الإنسان متمكناً من اللغة التي هي مع الفكر وجهان لعملة واحدة. محور مهم نتوقف عنده ونأخذ فاصلاً حتى نعود لنبحث عن محاور أخرى في هذا الجزء الشريف. نرجع
من الفاصل لمحور آخر في هذا الجزء وهو الترغيب والترهيب. لم يذكر الله سبحانه وتعالى عذاباً قط في القرآن إلا وقد ذكر معه الرحمة. كان العلماء يقولون في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، فهو رحمن وهو رحيم. حتى نبه محيي الدين بن العربي رحمه الله تعالى إلى شيءٌ عجيبٌ في لغة العرب وهو أن العذاب مكونٌ من هذه الحروف الثلاثة: العين والذال
والباء، وهو في دلالتها يشتق منها العذوبة، والعذوبة حلاوة الماء، ماءٌ عذبٌ يعني حلو. فكان الله سبحانه وتعالى حتى في عقوبته هو الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى. هنا في هذا المحور، محور الترغيب والترهيب، يقول ربنا. سبحانه وتعالى: "نبِّئْ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم، ونبِّئْهم عن ضيف إبراهيم". نبِّئْ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، فبدأ ببيان تلك الصفتين تطمينًا للخلق: الله غفور، الله
رحيم. ونبههم أن عذابه سبحانه وتعالى هو العذاب الأليم. الترغيب والترهيب موجود في الدين كله، الترغيب والترهيب موجود. في السنة وموجود في واقع المسلمين وموجود ليفيد الناس في التربية، هناك بعض المدارس التربوية التي ترفض هذا المعنى، ولكن تجربة السنين الطويلة في الترغيب وفي الترهيب دلت على أن ذلك هو الذي يصلح الإنسان ويجعله إنسان حضارة، ويجعله
إنساناً معمراً للأرض، مزكياً للنفس، غير متمرد ولا يقع في أمراض. الاكتئاب والإحباط والعبثية والترغيب والترهيب. نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم. لم يُذكر عذابٌ قط في القرآن إلا ومعه نوع من أنواع الغفران أو الرحمة أو المقابلة حتى يتم الأمر. هناك محور آخر، محور اجتماعي مهم واقتصادي أيضاً، وهو التنبيه على نعمة الأسرة،
على نعمة. الأزواج والأولاد والأحفاد والأسرة والعائلة في غاية الأهمية لأنها هي الوحدة الأولى للمجتمع، ولأنها هي التي تدفع إلى الانتماء، والتي تدفع إلى الإنتاج، والتي تدفع إلى المجتمع الصالح. هذا المحور، محور النعمة "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها"، يتمثل في قوله تعالى في هذا الجزء: "والله جعل لكم من أنفسكم". أزواجاً يعني ليس من أمرٍ غريبٍ من أنفسكم، وحتى
يعني يتعمق القرآن الكريم في الدلالة على واحدية الإنسانية، إن صح التعبير، نجده هناك في سورة النساء يقول: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها} ليس من غيرها {وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً}. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا، إذًا فالرجل والمرأة من نفس واحدة، ولذلك تجد في لغة العرب لا توجد كلمة "إنسانة" بل توجد
كلمة واحدة للدلالة على الذكر والأنثى: "إنسان". إنسان يُطلق على الرجل وعلى المرأة، على الذكر وعلى الأنثى لأنهما شيء واحد، فهذه... مساواة على أعلى درجات المساواة، مساواة في الدلالة ومساواة في الوجود ومساواة في الحقوق ومساواة في التكليف ومساواة في الواجبات ومساواة في الجزاء. وخلق منها زوجها، وهنا ينبه مرة أخرى: "جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة"، لأن البنين يكبرون ويتزوجون، وبعد ذلك ينجبون، فيصير هناك... بنون وحفدة صحيح.
زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. فالله سبحانه وتعالى وهبنا تلك النعمة، والنعمة تقتضي الشكر وتقتضي القيام بوظيفتها. هذه الوظيفة هي وظيفة العمران وليست وظيفة التكاثر. "ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر"، لكن هنا يذكر أن الله سبحانه. وتعالى إنها نعمة ومعنى هذا أنه يجب علي شكرها ومعنى هذا أنه يجب علي الاهتمام بوظيفتها فإذا هذا معنى النعمة "وإن تعدوا نعمة الله
لا تحصوها" فسبحانه وتعالى خلق لنا من أنفسنا أزواجاً وخلق لنا من هؤلاء من هاتيك الأزواج بنين وخلق لنا من البنين حفدة ويقول "ورزقكم من الطيبات" أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون، فيجب علينا أن نشكر نعمة الله علينا وأن نجعل الأمور في نصابها، لا تلهينا أموالنا ولا أولادنا عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.