القرآن العظيم | ح 22 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات القرآن العظيم. نحن الآن في الجزء الثاني والعشرين، وفي هذا الجزء يلفت نظرك عدة محاور منها حكم التبني في الإسلام وفيها يقول ربنا سبحانه وتعالى بعد ما قص قصة زيد: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما". كان سيدنا
محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس أبا لأحد من رجال هؤلاء القوم، ولذلك ترى أنه قد وهبه الله ذكورا وإناثا ولم... لم يعش أحد من أبنائه ولم يبلغ سن البلوغ. رزقه الله بالطيب والقاسم وعبد الله، وكان يُكنى بالقاسم فيقال له يا أبا القاسم، ولعله كان أكبرهم. ورزقه الله بإبراهيم في المدينة من السيدة مارية القبطية عليها السلام، ولكن كل أولئك ماتوا صغاراً. هناك من مات في سن السنتين، وهناك من
وسبعة وثمانية وهكذا، ورزقه ببنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة عليها السلام. توفين جميعاً في حياته إلا السيدة فاطمة. دفن السيدة زينب، ودفن السيدة رقية وكانت زوجة لعثمان بن عفان، ودفن السيدة أم كلثوم وكانت زوجة لعثمان بن عفان بعد أختها. مات الجميع أمامه حتى يبين للناس كيف يتصرف. مَن فقدَ العزيز لديه كان يُمسك بالسيدة فاطمة ويقول للمشركين وهم ينظرون إليه بنظرة غبية: "ما لكم ولي؟ زهرة
أشمُّها". فهذه الكلمة كان يقولها لأولئك القساة الذين كانوا يعاملون أبناءهم بالقسوة والعلو، خاصة البنات. النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه الأقرع بن حابس فوجده يُقبِّل الحسن أو الحسين فقال... ما هذا يا محمد! والله أنا لي عشرة أولاد ما قبّلت منهم أحداً. فقال: "وما عليَّ أن نزع الله الرحمة من قلبك؟" كان يُعلِّم الناس. فما كان محمد أبا أحدٍ من الرجال، ولكن زيد بن ثابت كان عبداً عند سيدنا النبي وأعتقه، والناس من شدة رحمة سيدنا محمد
بزيد كانوا... سموه زيد بن محمد، لا يعرفونه إلا زيد بن محمد، ولذلك عندما تزوج زيد بالسيدة زينب بنت جحش، وكانت من قريش من أعالي قريش، فإنها لم تقتنع بهذا الزواج، وكان رسول الله هو الذي سعى فيه. فلما أمر رسول الله بالتفريق بينهما بعد شكوى زيد من سوء المعاملة التي يعني... يتأثر بها الرجال، فرسول الله حدث في قلبه لأن ربنا أمره بأن يتزوج زينب بنت جحش، وهنا قال: كيف يعني أتزوج زوجة شخص يُقال عنه في المجتمع وبين الناس "زيد
ابن محمد"؟ يعني أتزوج امرأة ابني؟ هذا لا يصلح. والله سبحانه وتعالى نعى عليه هذا صلى الله عليه. وآله وسلم ورقاه من حال الكمال إلى حال الربانية فيقول الله سبحانه وتعالى: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك" الذي هو الخوف من المجتمع "ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها" لكي يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم هذه هي حكمة هذه المسألة، فالتبني حرام، والنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التربية وعلى سبيل علو الشأن وعلى
سبيل النبوة لم يُبقِ الله له من ولد حتى فاطمة التي بقيت بعده وبقيت بعد ستة أشهر وقال لها وقد أسر لها شيئاً. فبكت ثم أسرَّ لها شيئاً فضحكت فقالت عائشة: "ما هذا يا فاطمة؟ لم أرَ ضحكاً قريباً من بكاءٍ أسرعَ من هذا! ماذا قال لكِ رسول الله؟" قالت: "لا أُفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم". فمات وانتقل إلى الرفيق الأعلى، فأعادت عائشة السؤال على السيدة فاطمة: "ماذا قال رسول..." قال لها: "إني مغادر، يعني أنا في مرض الموت الآن وسأغادر"، فبكيت من أجل الفراق ولأنه سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأراد أن يُسلّيني فقال: "ألا ترضين أن تكوني أقرب أهلي لحاقاً بي؟" ففرحت أنني لن أمكث في الدنيا كثيراً، وفعلاً انتقلت السيدة فاطمة. من دار الدنيا إلى دار الحق سبحانه وتعالى بعد ستة أشهر فقط من وفاة سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا أيضاً من المحاور التي تعطينا كل هذه المعاني. محور آخر وهو الصلاة على النبي، فالنبي هو بابنا إلى الله، والله يقول: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها" الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما إن
الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا. هذه الآية تأمرنا أمراً أن الله وملائكته يصلون على النبي، ثم بعد ذلك هذه كلمة مشتركة "يصلون على النبي"، ولكن الله تنزل منه الرحمات والملائكة بالدعاء والناس من المسلمين يتوسلون الله سبحانه وتعالى بأن يؤتيه سؤله يوم القيامة وسؤله هو الفردوس الأعلى الذي سقفه عرش الرحمن سبحانه وتعالى. بعد الفاصل نبحث عن تلك المحاور الجليلة في الجزء الثاني
والعشرين. رجعنا من الفاصل لنواجه محوراً آخر في الجزء الثاني والعشرين وهو قضية في غاية الأهمية اهتم بها المسلمون عبر القرون واهتم بها المسلمون المعاصرون بصفة خاصة وهي قضية الأمانة ومعنى الأمانة والتصور الكلي الذي بينه الله لنا في هذه القضية، فنجد قوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ليعذب
الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين". والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً. في هذه الآيات الكريمات في الآيتين حقيقة، لكنها عقيدة وإخبار بالغيب، لكن هدفه توضيح ذهن المسلم أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بعظمته وجلاله على صيغة الجمع "إنا عرضنا الأمانة". وهنا نقف حتى نتبين ما الأمانة،
ما الذي عرضه على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها. وأشفقن منها، قال العلماء في ملخص ما قالوا: هذا هو التكليف "افعل ولا تفعل"، الاختيار الذي يُناط به الحساب يوم القيامة. فالله سبحانه وتعالى يقول ليُقم الصلاة، ثم تركني لأرى إن كنت سأقيم الصلاة أم لا أقيمها. في اختياري، شأن السماوات والأرض والجبال والنبات والشمس والقمر مثلاً أنها تسبح تسبيح لا هذا تسبيحٌ مُقدَّرٌ،
يعني أنها ليست مخيرة في أن تسبح أو لا تسبح، بل هي تسبح، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم. فهذه السماوات والأرض تسبح، وتسبح قهراً. "ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين"، هذا بالنسبة للسماوات والأرض. "الرحمن على العرش استوى"، فهذا التسبيح عبادة وأخبر الله بها أنها فعلاً هذه السماوات والأرض والجبال "يا جبال أوبي معه وألنّا له الحديد". يسبح تسبيح حال لا تسبيح مقال، حتى قال بعض العارفين
إن جسد الإنسان نفسه كجسد وكخلايا يسبح، ولكنه لا يثاب عليه لأن الله قد خلقه هكذا، خلق الكائنات تسبح بحمده سبحانه وتعالى وأن. مِن شيءٍ يدخلُ في كلِّ الموجوداتِ وما مِن شيءٍ إلا يُسبِّحُ بحمدهِ ولكن لا تفقهونَ تسبيحَهُ. الاختيارُ هو هذهِ الأمانةُ التي عُرِضَت على السماواتِ والأرضِ والجبالِ فقالوا هذا اختبارٌ صعبٌ ولعلنا ننسى ولعلنا نُقصِّرُ ولعلَّ هِمَّتَنا لا تكفي، إنه اختبارٌ صعبٌ. فأبَيْنَ أن يَحمِلْنَها
وقُلْنَ لا نريد. الاختيار، هذا الاختيار معه تشريف وعدم اختيارهم للأمانة معه تسخير. سخر الله لنا السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والكواكب والشجر والنهر، سخره لنا لماذا؟ "ولقد كرمنا بني آدم" لأنه معه العقل، معه الاختيار، هو قادر على أن يعبد الله اختياراً في حين أن هذه الأشياء عالم الجماد والحيوان والنبات وسائر تعبد الله اضطراراً، لكن الإنسان يعبده اختياراً، ولذلك
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالذين كفروا ما هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. وهكذا حملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً، ظلم نفسه لأنه تعرض لشيء غير مضمون، وجهل ما معنى الاختيار، فأحب قضية التشريف، قضية "اسجدوا لآدم فسجدوا". إلا إبليس، يعني قضية أنه مكرم ومشرف لأن فعلاً الاختيار يجعله كذلك مكرماً ومشرفاً. يعني اختاروا العلو والشرف، لكن مع كل تشريف هناك تكليف.
الوجه الآخر للتشريف هو التكليف، ومن هنا قال بعضهم أن الأمانة هي التكليف. هو طبعاً الأمانة هي الاختيار، ثم بعد ذلك إما أن يكون هذا الاختيار. سلبياً أو يكون إيجابياً بمعنى أنه يمكن أن تختار الشر ويمكن أن تختار الخير. محور آخر أيضاً في هذا الجزء وهو سيل العرم "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم". سيل العرم هو سيل حدث في مكان، هذا اسم مكان. العرم هذا اسم مكان، يعني يمكن أن نقول سيل مكة أو سيل
جنوب الوادي يُسمى "تشكا"، وهكذا فهو اسم من الأسماء. هذا السيل كان سيلاً عجيباً لأنه دمّر حضارة بأكملها، وكان هذا عقاباً لهم. فأرسلنا عليهم سيل العرم. هذا الأمر يُعد أيضاً محوراً من أن الله سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يلتجئوا إليه وأن يتضرعوا إليه وأن يدعوه، وأن الدعاء العبادة وأن القلوب الضارعة مهمة ولكن إذا لم نفعل ذلك فإن شيئاً من العقوبة ينزل وشيئاً من العقوبة يصيب بشيء من النقص والسلب وهذا ما لا نرجوه. فاللهم يا ربنا لا
تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام عليكم. ورحمة الله وبركاته