القرآن العظيم | ح 23 | | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح 23 | | أ.د. علي جمعة - تفسير
اليوم مع الجزء الثالث والعشرين من القرآن العظيم نقف عند بعض المعاني، والقرآن مليء بتلك المعاني. نُدرِّب أنفسنا على أن نتدبر القرآن الكريم وأن نعرف ما نقرأ. كل يوم نقف عند قوله تعالى في سورة يس: "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون". لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في
فلك يسبحون، هذه آيات يتحدث فيها ربنا سبحانه وتعالى. على ظاهر الأمر، الشمس لها حركة تُسمى عند العلماء بالحركة الظاهرية. نراها أنها تشرق من الشرق، ثم إنها تجري في السماء أمامنا، ثم إنها تغيب في المغرب. تشرق من مكان معين لا تغيب في نفس النقطة التي أمامها بل في النقطة البعيدة في المنحنى عنها. تشرق من هنا وتغرب من هنا، وتغرب هنا فتشرق هنا. الشمس في ظاهر العين تجري لمستقر
لها، فيأتي أمام هذه الآية البديعة البدوي يرى أن هذه الآية معناها أن من قدرة الله. ومن دلائل قدرته أن الشمس تسير في قبة السماء من المشرق إلى المغرب وأن هذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله، ويؤمن بالكتاب على حد ما نسميه بسقفه المعرفي ومعلوماته. هكذا تطورت الأمور وعرفنا مزيداً عن حركة الشمس، وأن الشمس ليست لها حركة واحدة بل لها نحو أربعة عشر حركة. أربعة عشر حركة للشمس
فإنها تدور حول نفسها وتدور حول محورها وتسبح في السماء نحو نجم اسمه فيجا بسرعة اثني عشر ميلاً في الثانية وتجر خلفها توابعها من الكواكب كعطارد والزهرة والمريخ والأرض والمشتري ونحو ذلك مما تعرفونه. إذاً فالشمس تجري لمستقر لها أيضاً غير تلك الحركة الظاهرية التي افهمها البدوي، وهناك حركة أخرى في فسيح الكون تجري فيها الشمس وتنتقل من مكان إلى مكان، أمر عجيب. إذاً فهي آية واحدة، وهكذا القرآن كله آية
واحدة. تعبِّر "الشمس تجري لمستقر لها" ويفهمها عالم الفلك المتخصص الذي أفنى عمره في تحصيل تلك المعلومات وتأكد منها على غير ما يفهمها البدوي، أن الشمس ثابتة في مكانها وأن سبب جريانها الظاهر هو أن الأرض تدور حول نفسها، يأتي بعض الناس ويقفون عند مثل هذه الآية ويجرونها على حقيقتها ويصرون على أن الأرض لا تدور وأن الشمس هي التي تدور، بالرغم من أن ذلك محال من الناحية الرياضية الهندسية، فينكرون الرياضيات وينكرون الهندسة لأجل التمسك بالنص هذه أزمة واجهتها
المسيحية في أوروبا وكانت نتيجتها قاسية حيث خرج الناس من دين الله أفواجاً في عصر التنوير، لكن جاء الشيخ بخيت وألف كتاباً ممتعاً اسمه "توفيق الرحمن بين آيات القرآن وحقائق الأكوان" بيّن فيه أن العلم والدين صدرا من عند الله سبحانه وتعالى وأن لا يمكن أن يكون هناك تناقض بينهما بل كل منهما يؤكد الآخر، فهذا محور جليل يجب علينا أن نفهمه بعمق ونحن نقرأ ذلك الجزء. إذا انتقلنا إلى محور
آخر سنرى قوله تعالى: "أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب، أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب، جند ما". هنالك مهزوم من الأحزاب في هذه الآيات. نجد أن الأمر لله سبحانه وتعالى وأن الله هو المالك الحقيقي لخزائن رحمة الله في السماوات والأرض، وأنه شديد لكنه معطاء وهاب - صيغة مبالغة من الهبة وهب. ربنا سبحانه وتعالى أي أعطى بلا مقابل، فهو يرزق الجميع، يرزق
المؤمن وغير المؤمن يعتقدون في أنفسهم أن لهم حولاً وأن لهم قوة، ورأينا ما الذي فعله الله سبحانه وتعالى في قصة قارون الذي كان من قوم موسى فبغى وطغى عليهم وآتاه من الخير الأمر الكثير، وفي النهاية قال: يعني أُوتيته على علمٍ مني، والله سبحانه وتعالى في الحقيقة هو مالك خزائن السماوات والأرض. وما بينهما السماوات جمع السماء وهي سبع سماوات، والأرض هي التي عليها الحياة المكلفة سواء كان في عالم الجن
أو في عالم الإنس، فكلاهما مكلف ومأمور من الله بالعبادة، وهذا يجعل الأرض لها أهمية تخالف تلك الكواكب التي ليست عليها حياة وليس عليها تكليف. السماوات أمر فوق التصور ونلاحظ إننا مع غاية التطور والتقدم لا نستطيع إلا أن ندرك أحوال المجرة، وهذا ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتكلم عن السماوات والأرض، ويقول إن السماء الأولى - وهن سبع سماوات - كحلقة في فلاة، يعني في صحراء كبيرة بالنسبة إلى
السماء الثانية، والسماء الثانية كحلقة بالنسبة إلى السماء الثالثة وهكذا إلى سبع سماوات، والسماوات السبع كحلقة في فلاة بالنسبة للعرش. فإذا أخذت تتصور حجم ذلك العرش توقف ذهنك عن القدرة على التصور، وإن صدقت به. نأخذ فاصلاً ثم نواصل في البحث عن محاور القرآن. بسم الله الرحمن الرحيم، عدنا من ذلك الفاصل حتى نواجه هذه. الكلمة الربانية في أول سورة الصافات، وينبغي علينا أن ندرك معاني
الكلمات ومعاني التراكيب. هنا يقسم الله سبحانه وتعالى بخلق من خلقه، كأنه يأمرنا إلى أن نلتفت إليه وأن نتدبر شأنه وأن نستنبط من هذا التدبر قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه قادر قوي حكيم عليم. وهنا يقول ربنا: "والصافات صفاً". الصافات هي الطيور التي تطير بجناحيها وهي تفرد تلك الأجنحة. إن مخلوقاً يكون ماشياً على الأرض ثم يطير بجناحيه، وقدرة هذه الأجنحة على
الحركة وحمل الجسم مع قوة هذه الأجنحة. إذاً الأجنحة لا بد أن تكون قوية ولابد أن يكون هناك توازن بين الجسم وبين تلك القوة، ونجد أن الطائر مستوياتٌ في السماء، هناكَ من يعلو جداً حتى أنه يتجاوزُ السحاب، وهناكَ من يكونُ انتقالُهُ من مكانٍ إلى مكانٍ على مستوىً قريبٍ من الأرض. اجلسْ وتأملْ وفرِّقْ بين كيفية طيران النسر والشاهين والصقر
وبين غيرها من الطيور، ثم نجدُ أنَّ هناكَ طيوراً لا تستطيعُ أن تطيرَ كالبطِّ والإوزِّ والبجع. جناحان لكن ليس هناك توازن، فقدتُ شرطًا من شروط الطيران. كلمة واحدة أقسم الله بها فلفتَ أنظارنا إلى أن نتدبر بهذه الكيفية. والصافات صفًا، نقف عندها، نتدبرها، ثم نرى ما هذا الإبداع وراء هذه الحركة التي تمر علينا لإلفنا لها، متعودين عليها. الطيور بالطير وخلاص! لا، انظر،
تدبر، تعلم، استنبط. استخرج إذا هذا المحور يعلمنا أن الله سبحانه وتعالى يريد منا منهجاً علمياً نتأمل فيه ونشاهد فيه ونستنبط منه ونبني على هذا الاستنباط كيفية سلوكنا في الاجتماع البشري. ويأتي ما بعدها: "والزاجرات زجراً"، فالزاجرات كان هناك ما يسمى بزجر الطير، يعني مجموعة من الطير أمامي فأزجرها، أي أطردها وأنفّرها فتطير. والزاجرات زجراً، هناك دافع لطيران
ذلك الطير وهو الزجر، فالزجر عبارة عن حث واستفزاز ودفع وسبب للطيران. والزاجرات، فالزاجرات زجراً، فالزاجرات زجراً هذه تعني السببية. فإذا تأملنا فيها وتعمقنا سنتكلم كلاماً عجيباً في علاقة السببية بالمسبب وفيه القصور الذاتي أنه ليس هناك شيء يتم اعتباطاً من غير سبب حتى يستقر. في أذهان بعضهم أن هذا الكون العجيب المركب الذي كلما تأملناه وجدناه عميقاً ووجدنا
وراءه تلك الصفات، أنه هكذا يعمل وحده بنظرية الذاتية، لا، هناك قصور ذاتية. فالزاجرات والزاجرة هذا يشير إلى هذا المعنى المركب الحكيم الفلسفي. فالتاليات ذكراً لما رأيت الطير يطير في الهواء وعرفت سبب طيرانه وأن هناك. زجراً قد زجره من الأرض التي هي مستقر له، والتي إذا ما أراد أن يبيض وأن ينتج أولاداً فإنه لا بد أن يكون ذلك متصلاً بالأرض. يدفع هذا الناس إلى ذكر الله سبحانه وتعالى: "فاذكروني أذكركم
واشكروا لي ولا تكفرون". إن إلهكم لواحد، الذي خلق الطير هو الذي خلق السمك. في الماء هو الذي خلق الحيوان في الغابة، هو الذي خلق الإنسان وكلّفه. هناك ما يسمى بوحدة الخلق، وهذا نراه مبثوثاً في نظرية داروين. نجد أن السمكة لها زعانف، وأن الطير له جناحان، وأن القرد له ذراعان، وأن الإنسان له ذراعان. هناك وكأن هناك إله واحد وراء الكل لم يُدرك. داروين مثل هذا، فبدأ
يخترع شيئًا من عند نفسه لا علاقة له بالعلم، لأن العلم التجريبي يشترط الرؤية. فهل رأى داروين القرد وهو يتحول إلى إنسان؟ الإجابة لا. هذه نظرية يحاول بها أن يفسر شيئًا لا يعرفه ولا يدركه. إذًا، نحن في حاجة إلى التعمق فيما نقرأ، لا نقرأ هكذا. سردًا فهِمَ، ولذلك فإن الحُكمَ لواحدٍ ربِّ السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقات، وكذا إلى آخره، وربِّ المشارق. نتعلم من هذا المحور وجوب ذلك التأمل
ووجوب البناء عليه، وانتقاء ما يوافق هذه الحقائق وترك ما سواها. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.