القرآن العظيم | ح 26 | | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح 26 | | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مرحباً بكم في حلقة جديدة من القرآن العظيم. نقرأ كل يوم جزءاً من الكتاب المبين ونتدبر آياته ونستخرج بعض محاوره، فالقرآن لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد. وصلنا إلى هذا الجزء الذي يبدأ بصورة تُسمى بسورة الأحقاف، والأحقاف وادٍ ما بين أرض عُمان الحالية (سلطنة عُمان) وبين أرض المهرة،
وهو جنوب شرق الجزيرة العربية. وفي هذا المكان يُسمونه الربع الخالي لأنه خلا من مظاهر الحياة، ولأن فيه كثباناً من الرمال المتحركة. فالأحقاف جمع حِقْف، وهو الكثيب أو التل من الرمال المتحركة بحيث. أن الإنسان لا يأمن على نفسه إذا ما صار فيها في البداية وقبل نزول عقاب الله في هذا المكان كانت هذه أرض قبيلة كبيرة اسمها عاد وشداد بن عاد هو الذي بنى إرم ذات العماد التي
لم يخلق مثلها في البلاد فكلمة الأحقاف هي تدل على مكان حدث فيه أن بلّغ هود عليه السلام قومه ونصحهم بعبادة الله الواحد الأحد. صالح أُرسل إلى ثمود في شمال المملكة العربية السعودية الآن، وهود أُرسل إلى عاد في الجنوب الشرقي. هذا في الشمال الغربي وهذا في الجنوب الشرقي. وعاد وثمود من القبائل التي ذهبت وبادت ولم يعد لها نسل بعد ما أنزل الله. سبحانه وتعالى عقابه في هذا المقام. هذه
السورة نسميها من الحواميم لأنها تبدأ بقوله تعالى: "حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى"، يعني في فناء سيأتي لهذا الكون كله. "والذين كفروا عما أنذروا معرضون، قل أرأيتم ما تدعون من دون". الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماء ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين. فالله سبحانه وتعالى يرشدنا إلى المنهج السليم في التفكير. أرأيتم تعبير عربي معناه أخبروني، كلمة
كثير من الناس لا يعرفون معناها. هناك عربية لها معان لا جرم. لا جرم يعني حقاً حقاً كذا وكذا. تقول لا جرم معناها حقاً. قل أرأيتم، قل أخبروني ما تدعون من دون الله إذا كنتم تدعون من دون هذا. أين هذا؟ أين هو؟ هل تعلم له سمياً؟ يعني هل يوجد أحد يشبهه؟ هل يوجد أحد مثله؟ هل يوجد أحد ينازعه ملكه؟ أين هذا؟ ما هو؟ ما من أحدٍ فيه هذه الصفات ولا أحدٍ فيه هذه الخالقية ولا أحدٍ فيه هذه الرازقية ولا أحدٍ فيه هذا الإحياء والإماتة، كل ذلك بيد الله. قل أرأيتم ما تدعون من دون الله،
أين الذين أشركتم به؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض، أروني ماذا خلقوا من الأرض، لا شيء، والعجيب. أن الإنسان عندما يصنع شيئاً يصنعه عكس ما خلقه الله سبحانه وتعالى، يعني مثلاً الإنسان صنع التلفزيون، فإذا تدبرت وتأملت تجد تراكماً شديداً معرفياً وعلوماً كثيرة جداً إلى أن نصل إلى هذا الجهاز الذي كانت البشرية تعيش من دونه، أي أنه لا توجد ضرورة له في الحياة بعد كل هذه المعلومات وبعد كل هذه
المعادلات وبعد كل هذا المجهود نصل إلى ذلك الجهاز، لكن خلقة الله أعجب من هذا بكثير. عكس هذا، هذا عبارة عن أمر صعب ينتهي بشيء له قيمة محدودة، أما خلق الله فأنت ترمي البذرة في الأرض فإذا بها تنبت شجرة، والشجرة يخرج منها ثمرة، والثمرة تفيد في الطعام. الناس وفي شرابهم وفي تفكههم، هل هناك عناء في هذا أبداً؟ بمجرد أن تلقي هذه البذرة ثم ترعاها تجد أنها بدأت في النمو. الرجل
يتزوج المرأة فإذا بها تحمل وإذا بها بعد تسعة أشهر تلد، وهذا المولود مخلوق مركب معقد، شيء مبدع، شيء مذهل في عقله، في أجهزته، في كل مظاهره الحيوية شيء مذهل، وهذا أتى من لقاء ماتع بين رجل وامرأة. إذاً، فخلق الله يبدأ سهلاً ويخرج بقيمة عليا في النهاية، بأمر له قيمة عالية وفائدة غريبة عجيبة. وخُلِقتَ الإنسان أو طلعته تبدأ بالمركب فتخرج
شيئاً بسيطاً، عاش الناس بدونه عشرات آلاف السنين من قبل، فهذا هو الفرق فأروني. ماذا خلق الذين من دونه؟ وهذا هو الفرق بين خَلق الله وصناعة البشر التي يمكن أن نطلق عليها أنها خَلق "وأخلق لكم من الطين كهيئة الطير". بعد الفاصل نستمر في الوقوف عند محاور القرآن الكريم. رجعنا من الفاصل فوجدنا أمامنا سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم "الذين
كفروا وصدوا". عن سبيل الله أضلّ أعمالهم، وهو بدءٌ فريدٌ في القرآن الكريم. بعد ما انتهينا من سرد أدلة الألوهية وكيفية التعامل مع هذا الكون، نعى الله سبحانه وتعالى على الكافرين الذين كذبوا بالله وكذبوا برسوله. الذين كفروا هذه قضية مردودها في الآخرة، ولكن الصفة الأخرى الأخطر "وصدوا عن سبيل الله" هذا. سيعود بالضرر على المجتمع البشري، أما أنهم يكفرون أو لا يكفرون فهذا شأنهم، لكنهم كما نقول
لبعضهم: نحن تركناكم بالحرية "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها"، يعني نحن تركنا الإنسان في حريته يختار ما يشاء، فهو اختار النار، ليس لي سلطان عليه وإن. كنت لا أتمنى أن يدخل النار وليس لي قدرة على حتى إدخال النار، ليس لي ذلك لأن الله هو الذي يقلب القلوب. ولذلك قضية الكفر والإيمان هي قضية أخروية أولاً لأننا لا نعلم بما يختم الله حياة هذا الإنسان، وثانياً أن الله سبحانه وتعالى علق هذا الكفر إلى وقت الحساب.
وقت أن نرجع إلى الله فنصل إلى مرحلة اليقين ونصل إلى المحاكمة عند الملك سبحانه وتعالى ولا يظلم ربك أحداً، لكن ليست هنا في الذين كفروا بل في قوله وصدوا عن سبيل الله، يا أخي دعني أختار الجنة كما تركتك تختار النار، إذا كنت سيادتك قد اخترت النار، فاختر حرية حرية. الرأي حرية، والعقيدة حرية، وكل شيء حرية، فلماذا لا تتركني أنا أيضاً أفعل ما أشاء؟ العقلاء منهم يفعلون هذا ويتركون الناس في اعتقاداتهم، لكن هناك تعصب حتى في داخل أولئك الذين
كفروا فيصدون عن سبيل الله، فالعبرة هنا أنهم يصدون عن سبيل الله، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد. وهو الحق من ربهم كفَّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. إذاً هنا مواجهة ما بين الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وما بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات. هنا يوجد نوع من أنواع الإفساد والله لا يحب المفسدين، وهنا يوجد نوع من أنواع الإصلاح. ننتقل إلى محور آخر متعلق بالآخرة التي تتحكم. في سلوك الإنسان وهو يعيش عند اختياره للأفعال الاختيارية،
عندما يختار فعلاً من أفعال الخير أرجو ثواب الله رجاء ثوابها وتصديق موعودها، مصدقاً أن ربنا سينفذ لي وعده، مصدقاً أن ربنا سبحانه وتعالى سيعطيني ثواباً وأجراً على ما أفعله، ومصدقاً أيضاً أن الله يحاسب على المعاصي وأنه يطلب منا الاستغفار. حتى يمحوها وأنني لو لم أستغفر فإن الوضع محرج مع الله سبحانه وتعالى، فيقول: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير اسم، الماء الذي تغيرت فيه صفاته. الماء صفاته ماذا؟ الماء صفاته أنه
شفاف، الماء صفاته أنه لا رائحة له، الماء صفاته أنه لا جرم. له يعني عندما تمسكه هكذا لا يلتصق بيدك، فلو فقدنا إحدى هذه الصفات كأن يتغير رائحة الماء، فيقال عنه اسم، فالماء الاسم يعني الماء المتغير، متغير في ماذا؟ في هذه الصفات: في الشفافية أو في الرائحة أو في اللون أو في الجرم. فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من. لبن فيها أنهار، النهر الأول
مياه نراها هكذا أنها مياه، ولكن فيها أيضاً أنهار من لبن لم يتغير طعمه، فهو ليس لبناً خاثراً، فأحياناً يتخثر اللبن فيصبح طعمه مختلفاً، لكن هذا اللبن هو في الجو العام، وأنهار الجنة ليس لها مجرى، أي لا يوجد مجرى. هكذا يميناً وشمالاً يحفظ جريانها، وأخذ العلماء من هذا أنه إذا كان اللبن هكذا من غير مجرى ولا يسقط ولا ينساب، فإذاً ليس هناك جاذبية، لأن سبب عدم
قدرة الماء أن يسير أو اللبن أو العسل أو غير ذلك إلى آخره من أنواع السوائل أن تسير بلا مجرى هو... الجاذبية، فإذا كان هذا شأن أنهار الجنة فأنهار الجنة بلا جاذبية. يعني انظر وانتبه إلى أنك عندما تفهم شيئاً، افهم أنه يترتب عليه شيء آخر. يوجد لدينا نهر ماء ونهر لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر، فإذاً هذا عصير العنب الذي يسمونه الآن نبيذاً هو خمر الجنة. ولبن الجنة وماء الجنة، قال ربنا فيها: "وأتوا به
متشابهاً"، يعني أنت تظنها خمراً أم ماذا؟ لونها لون النبيذ الأحمر أو الأبيض أو غير ذلك، لكن عندما تتذوقها تجدها شيئاً آخر، لا يوجد فيها غول، أي عندما تشرب منها لن تحدث ظاهرة الإسكار، لن تسكر، لكن خمر الدنيا فيها غول، وكلمة غول. حرّفوها حتى وصلت إلى كحول، والكحول أيضاً حتى في اللغات الأجنبية اسمه كحول، "وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم، كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم".
هو دخل الجنة فوجد فيها نهر مياه ونهر لبن. ونهر عسل ونهر خمرة ولا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ومثل ذلك الذي دخل النار فلما عطش شرب فإذا به يشرب ماءً مغلياً حميماً فقطع أمعاءهم من شدة العذاب، لا يستوون، هذا جزاء وهذا عقاب، ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أُوتوا العلم ماذا قال. قال ماذا؟ مستمعون شاردو الذهن يضعون حاجزاً على التلقي، وهذا
الحاجز جعلهم كالأنعام بل هم أضل. ونجد بعد ذلك قوله تعالى: "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم". إذاً ربنا يريد أن نبذل الجهد وأن نصبر على هذا الجهد، التواصي بالحق والتواصي بالصبر على ذلك الحق، وهو أمر. مهم، إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.