القرآن العظيم | ح 29 | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح 29 | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلاً ومرحباً بكم في القرآن العظيم. وصلنا إلى الجزء التاسع والعشرين من مجموع أجزاء القرآن الثلاثين، في هذا الجزء تواجهنا سورة نون والقلم وما يسطرون وفيها يرشدنا الله سبحانه وتعالى لآداب يجب أن نتحلى بها، بعضها نفسي، وبعضها اجتماعي، وبعضها في مجالات
مختلفة. يقول ربنا سبحانه وتعالى: "فلا تطع المكذبين"، هذه مسألة اجتماعية تجعل الصدق قيمة عليا نراها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لمن سأله. أَيَكْذِبُ المُؤْمِنُ؟ قَالَ: لَا. بَعْدَ مَا سَأَلَهُ: أَيَزْنِي المُؤْمِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَيَسْرِقُ المُؤْمِنُ؟ قَالَ: نَعَمْ، لِأَنَّ هَذِهِ قَدْ تَدْفَعُهُ إِلَيْهَا الشَّهْوَةُ أَوِ الحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ، فَيَفْعَلُ مِثْلَ هَذِهِ المَعَاصِي. وَلَكِنْ يَكْذِبُ لِمَاذَا؟ لَيْسَ هُنَاكَ دَاعِيَةٌ مُسْتَفِزَّةٌ
دَافِعَةٌ لِلْكَذِبِ، وَلِذَلِكَ فَالكَذِبُ وَمِنْهُ التَّكْذِيبُ يُرْشِدُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ لَا نُطِيعَهُ فَلَا. لا تطع المكذبين، ودّوا لو تدهن فيدهنون. يعني ودّوا لو أنك تترك بعض الذي أوحي إليك، ودّوا لو تتنازل - بلغة العصر - تتنازل عن بعض مبادئك حتى يتنازلوا عن بعض مبادئهم. وهذا أمر في غاية السوء لأن القواعد والأخلاق مطلقة، والتنازل عنها تنازل عما ينبغي ألا نتنازل عنه، ولذلك ودّوا لو تدهن. فيدهنون
هذه صارت وكأنها وصف كمبدأ عام لحالة يجب علينا فيها ألا نفاوض على المبادئ العليا، ممنوع أن نفاوض على إذا كنا نترك العدل ونتمسك وقتياً بالظلم، إذا كنا نترك السلام لنتمسك بالحرب كوسيلة وحيدة للتفاهم، إذا ما كنا نتمسك بالصدق فنتركه إلى الكذب من أجل غرض معين، ودوا لو تدهن فيدهنون، اترك ونترك، تنازل في مقابل تنازل، ولا تطع كل حلاف مهين. أيضاً مسألة تربوية
اجتماعية ألا نحلف كثيراً فنكون حلافين. ونبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعضهم يدعو في سلعته بالحلف، فيحلف أنها أحسن سلعة، ويحلف أنها أرخص سلعة، ويحلف أنها أمتن سلعة، كثير حلف كثير. كثير وهذا الحلف يدخله في الحلاف عندما يحلف خاصة يحلف بالله ولا يكون دقيقا ولا يكون صادقا في بعض الأحيان يكون قد استهان بمقام الألوهية وبالحلف باسم الله سبحانه وتعالى فسمي مهين. مهين يعني مهان يعني هو أراد
الاستهانة فعد من أولئك الذين يهينهم الشرع الشريف. هماز مشاء بنميم وحرم. رسول الله صلى الله عليه وسلم حذّر من الغيبة والنميمة وقال: "إذا كان الأمر فيه مما ذكرته في أخيك فقد اغتبته، وإذا لم يكن فيه فقد بهتّه". يعني هناك أيضاً درجة ثانية تسمى البهتان، وهي الكذب على الناس في غيبتهم. أن تذكر ما فيه هذه غيبة ممنوعة، وأن تذكر ما ليس فيه. فهذا بهتان يرد على صاحبه هماز مشاء بالنميمة، وهي من صيغ المبالغة التي تفيد التكرار وتفيد أنه يهمز. ماذا يعني يهمز؟ يعني
يسخر بخفاء، يسخر ممن أمامه بشيء من الاستهانة. فهو هماز، ولكنه أيضاً يمشي بين الناس بالنميمة. هذه أمراض اجتماعية، ومن الأفضل أن نرفض هذه الأمراض الاجتماعية لأنها ستؤدي في النهاية. إلى بلاء مثل بلاء الشائعات مثلاً، هذه بلوى كبيرة تصيب المجتمع، ولذلك قال بعدها "مناع للخير معتد أثيم"، مناع للخير هو هذا الذي يفعله من الهمز واللمز والمشي بالنميمة في المجتمع، هو بهذا يكون قد منع
الخير. "عتل بعد ذلك زنيم"، العتل هو شديد الفجور والشديد الفحش، عتل عنيد في. الباطل في الشر والزنيم هو الدعي يعني كأنه يمدح نفسه لكنه ليس بذاك، هو كذاب، هو لا يعرف ضرر نفسه للآخرين، هو يضر الناس ويضر المجتمع، ولكنه للأسف لا يعرف مدى ما يفعله من جريمة، عتل بعد ذلك زنيم، كل هذه صفات فيها قدح وفيها سلب
لهؤلاء الناس لما يفعل. كثير من الناس هذا قد يكون ذلك لأنه عنده مال أو عنده عزوة فيقول أن كان ذا مال وبنين يعني هو صاحب مال وعنده بنين وهذا الذي عنده لا يمكنه ولا يجعله يستحل أن يكون همازًا مشاءً بنميم نقف عند قوله فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه، الهاء هنا يسمونها هاء التنبيه. "ها أمو اقرأوا كتابيه"، يعني هو فرحان بكتابه
في يوم القيامة. نأتي فنستلم بيدنا اليمنى كتابنا إن شاء الله. فأما من استلم كتابه بيده الشمال فيكون فيه من السيئات وفيه من النقص ما فيه. فأما من أوتي كتابه بيمينه، فهذه مسألة تطمئن العبد أنه... أمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ يَعْنِي مَرْضِيَّةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ
أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ كَانَتِ الْمَوْتَةُ هَذِهِ وَلَمْ نَعِشْ. بعد ذلك في يوم القيامة ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، يعني المال والسلطة لا تنفعنا في يوم القيامة. نأخذ فاصلاً ثم نعود. رجعنا من الفاصل إلى قوله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره". خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه
بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما. المقطع من سورة المعارج يبين ربنا سبحانه وتعالى صفة من صفاته أنه صاحب العروج إليه السير في السماء ليس فيه خط مستقيم ولذلك فكل الخطوط التي في السماء. متعرجة اكتشف العلماء بعضها ولم يكتشفوا سائرها، فإذا سرنا في السماء وجدنا أنفسنا في منحنى بطريقة وبطرق مختلفة، فسمي
السير في السماء بالعروج، وهذا أيضا من إعجاز القرآن باستعمال تلك الكلمة في هذا المقام "تعرج الملائكة والروح إليه"، إذاً فالروح التي تخرج من الإنسان على سبيل الوفاة تصعد إلى بارئها. إلى عالم البرزخ خمسين ألف سنة، هذه الخمسين ألف سنة أو في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما نعد نحن، لكنه يوم واحد عند الله، يعني أربعاً وعشرين ساعة. يعني كأننا لو قسمنا الخمسين ألف على أربعة وعشرين تصبح الساعة بألفين وزيادة من السنين، يعني سيدنا عيسى هذا. له ساعة كان في
الأرض منذ ساعة واحدة من ساعات الملأ الأعلى سيدنا محمد ثلاث أو أربع ساعات. شخص مات منذ مائة سنة سابقة عاش ثلاث دقائق، لأن ألفين وستين دقيقة تُعادل الدقيقة الواحدة أربعة وثلاثين سنة. وفي هذه الحالة، من عاش مائة سنة ويزيد، فإنه عاش ثلاث دقائق فقط. لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين لكن نحن يتهيأ لنا هكذا أنه يوماً أو بعض يوم أن لبثتم إلا قليلاً يعني لو كنا نعلم علماً حقيقياً لشعرنا بنسبية الزمان ولعرفنا أن مكثنا في الأرض قليل
يوم القيامة يقول لي أنت جلست ثلاث دقائق فلماذا لم تصبر وفيها يقول فصبر جميل، فالصبر منه صبر جميل فيه تسليم وتوكل على الله، وصبر ليس جميلًا وفيه تبرم وفيه اعتراض وفيه شعور بالأذى إلى آخره. خمسين ألف سنة، وهناك يقول أن يومًا عند، أن يومًا يعني في يوم عند ربك ألف سنة مما تعدون، وهنا نرى نسبية الزمان ونسبية الزمان. أشار إليها آينشتاين في نسبيته أن الزمان نسبي وهي حقيقة اكتُشفت عند الفيزيائيين، ولكن القرآن الكريم قد نطق بها هذا النطق من غير
مقارنة بين هذا الكتاب الكريم وبين الحقائق والنظريات التي تنشأ في مجال العلم التجريبي، فهذا شيء وهذا شيء، ولكن إعجاز القرآن أنه لا يخالف كل الأسقف المعرفية. التي يتوصل إليها الإنسان نسبية الزمان، يهون عليك بلاء الدنيا لأنك تحصل على مؤقت، وأنه بلاء سريع الزوال، وأنه يمكن الصبر عليه لأن المدة قليلة للغاية. هذا نراه فأماته الله مائة عام ثم بعث في قصة عزير، قال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم. نراه في هذا الذي حدث لأهل الكهف فلبثوا في كهفهم
ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعة، قل الله أعلم بما لبثوا، له غيب السماوات والأرض، فهؤلاء لبثوا ثلاث مائة سنين من الشمس التي تساوي ثلاث مائة وتسعة بالقمر، وبالرغم من ذلك فإنهم لم يدركوا هذا، بل لما سألوا كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض. يوم نسبية الزمان أمر مهم للغاية حتى في إدراك معلومات كثيرة تحصلت عندنا في قضية الفيزياء أو دراسة الطبيعة. هناك أيضاً في هذا الجزء التاسع والعشرين نرى
"يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً"، المزمل هو والمدثر أيضاً. المزمل من تزمل بالغطاء، يعني "غطوني غطوني"، يعني أحضر لي بطانية لأختبئ داخلها. من شدة البرد فكلمة "متزمل" تعني لبس غطاءً حتى يتقي البرد. فلما رجع من غار حراء إلى السيدة خديجة قال: "زمّلوني زمّلوني" أي أعطوني غطاءً أتغطى به لأنني أشعر ببرد شديد، فنزل قوله تعالى: "يا أيها المزمل". وقال: "دثروني دثروني" أيضاً، أي أعطوني ملابس ألبسها من أجل أن أتقي
الشعور بهذا البرد. فنزل "يا أيها المدثر قم الليل إلا قليلاً"، وكان قيام الليل فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقوم من الليل، ولكنه قال: "إلا أني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وهذا التدريج نصفه أو انقص منه قليلاً، وهذا القليل هو السدس. فيكون إما أن تقوم نصف الليل أو تقوم ثلث الليل لأن الثلث زائد السدس يساوي نصف النصف لو خصمنا منه سدساً، والليل يُحسب من المغرب إلى الفجر. فلو أن المغرب يؤذن
الساعة الخامسة والفجر مثلاً يؤذن الساعة الرابعة فالفرق بينهما إحدى عشرة ساعة، الإحدى عشرة ساعة هذه نقسمها نصفها. خمس ساعات ونصف، هذا هو "قم الليل إلا قليلا"، يعني الإحدى عشرة ساعة يقوم منهم عشرة، وبعد ذلك عشر ساعات. وبعد ذلك الجسم يتعب إذا فعلنا هكذا كل يوم، فقال: "نصفه"، "نصفه"، فيصبح خمس ساعات ونصف، أو انقص منه قليلاً فستنقص منه ساعتين، فيصبح ثلاث ساعات ونصف، أو زد عليه أيضاً فيصبح. ستزيد ساعتين على الخمسة والنصف فتصبح السابعة والنصف، فإما أن تقوم العاشرة وإما السابعة والنصف وإما الخامسة والنصف.
يعني أعطى خيارات كثيرة جداً في هذه العبارة، ولكن ربط القرآن بالليل فقال: "أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً". إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    القرآن العظيم | ح 29 | أ.د. علي جمعة | نور الدين والدنيا