القرآن العظيم | ح10 | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح10 | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مرحباً بكم في حلقة جديدة من القرآن العظيم. في هذه الحلقة نسعى للبحث عن المحاور التي قام عليها هذا الجزء من القرآن الكريم، وأول ما يواجهنا هو أن الله سبحانه وتعالى يحب المؤمن القوي. أكثر مما يحب المؤمن الضعيف،
فأمرنا سبحانه وتعالى بالقوة: قوة الإنسان، وقوة المجموع، وقوة الدولة. فيقول ربنا سبحانه وتعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم والله يعلمهم". أمرنا بإعداد القوة، والقوة تختلف أدواتها من زمان إلى زمان. ومن مكانٍ إلى مكان في القديم كان السلاح التقليدي كالسيف والدرع والخوذة وسرج الفرس إلى آخره هو نوع من أنواع استعداد القوة والإعداد لها، ولكن
القوة أصبحت في عصرنا في قدرة الجيش على الدفاع عن الأوطان وعن المال وعن الأعراض وعن الأنفس وعن هذه القضايا الكبرى التي ذكرناها في المقاصد. الشرعية لكل دين حفظ النفس والعقل والدين وكرامة الإنسان والمال. كيف نُعِدُّ هذه القوة؟ هذا أمر يحتاج إلى وسائل متعددة، فلا بد إذاً من تلك الوسائل لأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد. فإذا كان الله سبحانه وتعالى أمرنا هذا الأمر الواجب التنفيذ بالقوة، فلا بد علينا أن ننشئ من الشركات المساهمة. كثيرة هي
الأموال التي إذا تحوّلت إلى الربح، أنواع كثيرة من الشركات والصناعات الثقيلة. حتى نصل إلى صناعة هذه القوة، فلا بد علينا أن نسعى بطريقة حثيثة سريعة إلى إعداد القوة. والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، فقال هنا وربطها بالاستطاعة، أي في حدود استطاعتنا. القوة ليست فائدتها فقط الدفاع عن الأوطان والدفاع عن الحوزة والدفاع عن الشعب والناس، بل إن وجودها في حد ذاته يصد
العدوان، فالعدو عندما يفكر أن يعتدي عليك وهو يعلم قدرتك على الرد وأنك تمتلك القوة، يخاف. فيكون الإعداد للقوة داعياً إلى السلام، إذاً فهذا أمر مهم للغاية، إعداد القوة لأن القوة. تدافع والقوة أيضاً وفي نفس الوقت تمنع الآخرين من العدوان، وإذا فكر أحدهم فإنه يفكر ألف مرة ثم بعد ذلك يقرر بعدم العدوان لأنه يعرف النتيجة وأن الصدام والخصام ليس له حد، ولذلك بعدها قال "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله"، إذن قد
أمرنا بإعداد القوة لكن هذه القوة وإن كانت قوة غاشمة -غاشمة تعني شديدة- فإنها في نفس الوقت رادع للآخرين وللعدوان. هذا محور من المحاور المهمة في الحقيقة. المحور الثاني نراه في قوله تعالى وهو يؤلف القلوب بين المتشابهين فيقول: "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ". بينهم أنه عزيز حكيم، إذا فهو عزيز قادر على هذا لكنه حكيم
أيضاً، حيث أنه اطَّلع على قلوب العباد وعرف السر وأخفى، ثم بعد ذلك جمعهم على هدف واحد وألَّف بين قلوبهم فكانوا فريقاً واحداً. وفي الحقيقة لو أنفقت ما في الأرض جميعاً من أجل أن تؤلف بين اثنين ما... استطعت لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا لنفسه، ومن هنا تأتي أهمية التقوى، لأن الجميع إذا كانوا على قلب رجل واحد فإن الله يجمع بينهم، ومن هنا ينفذون قوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، ومن هنا تتم الوحدة التي هي أساس القوة التي
أمر بها الله: "وأعدوا لهم". ما استطعتم من قوة ومن رباط قيل فكلها منوطة بأمر واحد وفي النهاية نرى طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم أنها هي المنجى وأنها هي الأساس. ربنا سبحانه وتعالى ينبهنا إلى أمر ثالث كمحور من المحاور العظيمة وهو ما نسميه بوظيفة المسجد. مصدر ميمي بمعنى أنه صالح. للزمان والمكان والحدث، فكلمة "مسجد" قد تكون نفس السجود، وقد تكون مكان السجود، وقد تكون زمان
السجود. ولذلك يُطلق على الجامع أنه مسجد لأنه مكان السجود. وهنا ربنا سبحانه وتعالى ينبهنا إلى أن المبنى الذي يُسجد فيه له وظيفة خاصة في هذا الشأن، فيقول: "إنما يعمر مساجد الله من آمن". بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين. خمسة أشياء ربنا سبحانه وتعالى نبهنا عليها في هذا
المحور. المسجد له وظيفة، هذه الوظيفة أولها للعبادة وثانيها للعلم وثالثها للتقوى ورابعها للتكافل الاجتماعي وخامسها وسادسها وسابعها له وظائف ينبغي علينا أن ننفذها لأنها مؤسسة نَنطلِقُ منها إلى خيرِ المجتمع. بعدَ الفاصلِ نُفصِّلُ هذا تفصيلاً، انتظروني. رجعنا إلى هذا المَحورِ المُهِمِّ وهو وظيفةُ المسجد: "إنما يعمرُ مساجدَ اللهِ مَن
آمنَ باللهِ واليومِ الآخر". إذاً وظيفةُ المسجدِ أولاً: الإيمانُ باللهِ والإيمانُ باليومِ الآخر. الإيمانُ باللهِ يدفعُنا إلى مشاعرِ الحبِّ والرحمةِ، ويدفعُنا الإيمانُ. باليوم الآخر إلى انضباط السلوك ثم يقول وإقامة الصلاة الذي يتردد ويعمر المسجد هو من يقيم الصلاة. عبادة قاصرة هي عبادة بينك وبين ربك، فهي من العبادات القاصرة لكنها في غاية الأهمية لأنها تجعل الإنسان على صلة مع ربه. وصلاة المسلمين عجيبة ليس مثلها في العالمين صلاة لأنها مفروضة. على
كل أحدٍ، على الشاب والشيخ والرجل والمرأة والكبير والصغير وهكذا، ومفروضة خمس مرات في اليوم، ولذلك قال: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، إذاً فالذي يحافظ على صلاته دخل في دائرة الخاشعين. يوصف ربنا سبحانه وتعالى بأنه خاشع، هو لا بد أن يعتقد في نفسه أنه خاشع لأن الله. وصفه بذلك إذا إقامة الصلاة مسألة قاصرة بيني وبين الله، ولكن الله يحب الفائدة المتعدية للآخرين، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، فقال وآت الزكاة. فإقامة الصلاة التي هي ناتجة من الإيمان بالله واليوم الآخر وإن كانت في غاية الأهمية وفي ذروة السنام
وهي عمود الدين وهي أساس الدين إلا أنه لا بد عليهم من إيتاء الزكاة وأن لا يبخلوا بحق الله سبحانه وتعالى الذي يصل إلى الفقراء مما رزقهم الله سبحانه، وقال: "وآتوا الزكاة". وهنا إذا آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة وفعل هذا الفعل اللازم والمتعدي ولم يخش إلا الله، لا يخشى في الأمر بالمعروف والنهي عن إذاً فنحن نتحدث عن محور وظيفة المسجد. وظيفة المسجد عبادة، ووظيفة المسجد عطاء، ووظيفة المسجد له دور اجتماعي. وظيفة المسجد، كما
كان في عهد رسول الله، كان مكاناً للعلم، وقال: "إنما بُعثتُ مُعلِّماً" فكان يجلس مع صحابته يُعلِّمهم. ولذلك نرى مسجداً كبيراً مثل مسجد السلطان حسن فيه أربع مدارس. أربع مدارس لأن المدرسة هنا يعني متصلة بالعلم والعلم متصل بالبرنامج اليومي الذي ركبت فيه الصلاة، فالصلاة لا بد أن تكون مع العلم، فأنشئت المساجد وأنشئت بداخلها المدارس، كذلك الأزهر، كنت ترى هذا الأزهر الجامع نفسه متصلاً بالعلم، يتعلمون ويعبدون الله
سبحانه وتعالى، محور في غاية الأهمية ذلك المحور الذي... يتحدث عن وظيفة المسجد وأن هذا المسجد هو مكان للعبادة، مكان للعلم، مكان للتكافل الاجتماعي، تنطلق منه المصالحة بين الناس، تنطلق منه الخدمة الاجتماعية، له دور في حماية البيئة وفي تنظيم الأمر على مراد الله سبحانه وتعالى. هناك أيضاً محور آخر فرضه الله سبحانه وتعالى في هذا الشأن وهو وجوب. أداء الزكاة، زكاة المال لا بد من أدائها وعدم التراخي فيها، ويتراخى كثير من الناس في أداء زكاة المال. فيقول:
"الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم..." "بشرهم" كلمة تقال في الخير، "فبشرهم بعذاب أليم". "فبشرهم" هذه الكلمة التي تقال في الخير تتناسب مع حالتهم النفسية من... حب جمع المال يريد أن يكنز الذهب ويكنز الفضة ويكون له ملك، وحينئذ فهو يريد البشرى، يريد السعادة. فتأتي كلمة "فبشرهم" حتى تلفت انتباهه، "ها بشرتني بماذا؟ هل لي الدنيا والآخرة أم لي الدنيا فقط؟" "فبشرهم"... وتأتي
صدمة السياق "بعذاب أليم". فالبشرى تكون بالعذاب الأليم، والنتيجة أنه اكتنز الذهب والفضة الذهب والفضة هو ما نسميه في لغتنا العامية "تحت البلاطة"، وهو تعطيل لوسيط التبادل بين الناس، وتعطيل للاستثمار، فهو تعطيل وتقليل للإنتاج. وهو يسعى دون أن يشعر لزيادة الأسعار، لأن الإنتاج مع قلته لا يكفي الطلب، فترتفع الأسعار، فيتميز الغني عن الفقير، ونبدأ في صراع كنا قادرين على أن نتجاوزه. فنهانا الله عن أن نكنز الذهب والفضة
وفرض عليها الزكاة حتى لا تتركوا أموالكم تأكلها الزكاة. فأنا لو وضعت أربعين جنيهاً ذهباً، والنصاب يبدأ من عشرة وقليل، عشرة وكسر، لأنه خمسة وثمانون جراماً من الذهب، وجنيه الذهب ثمانية جرامات، فإذاً عشرة جرامات تعادل عشرة جنيهات وخمسة جرامات، لو أنني أملك فليبقَ هذه الأربعين حتى نخرج ربع العشر منها، فإذا مضت مدة سأجد أن هذه الأربعين قد ضاعت وأكلتها الصدقة، فلا بد من استثمارها. فهي آية عظيمة تأمر بالزكاة من ناحية، وتأمر بعدم الكنز من ناحية أخرى، وهو
الأهم. كم الأموال التي مع الناس ضخم وكبير، فإذا ذهبت هذه الأموال لتدوير الإنتاج لحدث الإنتاج الوفير، والإنتاج الوفير يؤدي إلى ثبات الأسعار ويؤدي إلى عدم الاستيراد من الخارج ويؤدي إلى كفاية الخلق لاحتياجاتهم خاصة الأساسية من الأكل والشرب واللبس والمسكن والانتقال وهكذا. كل ذلك في عدم الكنز. عدم الكنز معناه عدم حرمان المجتمع من وسيط التبادل، فينشأ عن هذا الحرمان مصائب منها... قلة
الإنتاج ومنها زيادة الأسعار ومنها عدم الكفاية والاحتياج لأن نلجأ إلى الغير من أجل تكملة الاحتياجات، كل هذا موجود في قضية الكنز، فهي آية عظيمة نقف عندها كمحور من المحاور التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها لسعادة الدارين، ولاستقرار المجتمعات. هذه آية كأنها أساس لقضايا الاقتصاد، فيجب علينا أن نتأمل فيها وأن نتدبر فيها أثناء تلاوتنا وأثناء سماعنا لهذا الجزء العاشر من القرآن الكريم. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.