القرآن العظيم | ح12 | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح12 | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مرحباً بكم في برنامج القرآن العظيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لا زلنا نحاول استخراج محاور القرآن العظيم في كل يوم مع كل جزء فيه، نحن اليوم
مع الجزء الثاني عشر فيه سورة هود. وفي صورة يوسف نلحظ معنى مهماً يؤثر في حياتنا خاصة عند الأزمات وعندما يتقلب الزمان علينا، ارتفاع أسعار، هجوم وباء، نسميها البلاء والوباء والغلاء. قد يصيب ذلك الإنسان على سبيل الرحمة من عند ربنا سبحانه وتعالى، وذلك أنه أمرنا حتى نخرج من تلك الحالة الرديئة إلى الحالة المرضية بالاستغفار وأصبح.
يُعد الاستغفار محوراً مهماً في العلاقة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى. نستغفر من الذنوب والخطايا التي صدرت منا بقصد أو من غير قصد، بعلم أو من غير علم، وندعوه ونقول: يا رب اغفر لنا ما علمنا وما لم نعلم. هناك أمور تتم بالقصد وبالعلم، وهناك أمور تتم من غير قصد، فاغفر. اغفر لنا كل ذنب، جليله وكله وقليله، الكل أو الأكثر أو الأقل، اغفره لنا جميعاً هكذا، ونقنا من خطايانا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس. هذه ألفاظ سيدنا
صلى الله عليه وسلم وهو يعلمنا كيفية الاستغفار. إني أستغفر الله في اليوم مائة مرة، وهو العبد الرباني الذي وصل إلى حد الربانية. ربنا سبحانه وتعالى يقول هود ينصح قومه فكل الرسل هكذا رأينا قبل ذلك نوح وهو يقول: "وقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا". هود يقول: "ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى". قوتكم
ولا تتولوا مجرمين، يعني إذا كان الإنسان بين الشكر والكفران، فإما أن يشكر وإما أن يكفر. يكفر يعني يأبى أن يحمد، فلا يوجد حمد ولا يوجد شكر. لكنه ينصحهم بأن المدخل الصحيح - ونحن كبني آدم كلنا خطّاؤون، وخير الخطائين التوابون - هو الاستغفار، وهو محور مهم للغاية في حياتنا كلها. خاصة في أيام نفحات الله، إن لله في أيام دهركم لنفحات، فتعرضوا لنفحات الله. يعني كانت النفحة الربانية تنزل من السماء فنتعرض
لها. كنا نرى الأولاد والأطفال يتعرضون للمطر لأنه حديث عهد بربه، يعني كان الله سبحانه وتعالى أنعم لنا به الآن، فكانوا يفرحون به باعتباره طهارة وباعتباره غيثاً وباعتباره. سبب للحياة وجعلنا من الماء كل شيء حي، فكانوا يتعرضون للنفحات، كذلك نفحات يوم الجمعة، نفحات رمضان، نفحات الأيام المباركة العشر الأوائل من ذي الحجة بما فيها يوم العيد، نفحات ربانية، ليلة النصف من شعبان فيها يُفرق كل أمر حكيم، وهكذا فتعرضوا لنفحات الله، فإذا الاستغفار هو أساس في العلاقة. بين الإنسان وربه، نحن
نتكلم ولا ننسى مقاصد الخلق وهي العبادة والعمارة والتزكية. العلاقة التي بيني وبين ربي مبنية على العبادة، والتي بيني وبين الكون مبنية على العمران، والتي بيني وبين نفسي مبنية على التزكية. هذا أمر لا ننساه، "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، "إني جاعل في الأرض". خليفة "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" فهنا العلاقة التي بيني وبينك كيف أبدأ بالاستغفار. المحور الثاني الذي نراه في هذا الجزء هو الجود والكرم، نرى ربنا سبحانه وتعالى يقول: "ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا
سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ". عجل حنيذ يعني عجلاً ممتلئاً سميناً، لم يُحضِر لهم عجلاً ضعيفاً هزيلاً، بل اختار اللحم المشويّ الممتلئ، وهذا من الكرم. الكرم عطاء، والحب عطاء، إذاً المحور الذي يؤكد علينا في الكرم والذي يجعلنا على قدم إبراهيم عليه السلام محور مهم موجود في ثنايا آيات كثيرة من القرآن الكريم، العطاء والحب والصلة التي
بيننا وبين الخلق وإكرام الضيف، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالضيف وأكد الوصية مرة بعد مرة بعد مرة. كانت العرب تعتبر الكرم مسألة حياة، لأنك في ذلك الزمن تسير في صحراء جرداء، فلا بد من كريم يؤويك ويطعمك وترتاح عنده، لا بد من هذا من غير معرفة بينك وبينه. فالكرم كان جزءاً لا يتجزأ من الشخصية العربية، ولكن هناك أناس كان
الكرم عندهم شيئاً مهماً للغاية وعالياً جداً، منهم حاتم الطائي ومنهم عبد الله بن الجدعان. وعندما جاءت سفانة بنت حاتم الطائي أسيرة لرسول الله، أشار إليها سيدنا علي وقال لها: "كلميه، كلميه"، فقالت: "فرأيت رجلاً رجلاً". يسير من خلفي يأمرني أن أكلمه فقلت له: "يا رسول الله، أنا سفانة بنت حاتم". فوقف وقال لها: "حاتم طيئ؟" قالت: "نعم يا رسول الله". فقال: "إن أباك كان يحب مكارم الأخلاق" يعني كان كريماً. انظر، وهذا الكرم جعلها وهي ليست على الإسلام،
يعني يعطيها زادها وزوادها وما استطاع من. من أمر ويرسلها إلى أخيها عدي وهو ليس على الإسلام حينئذ في الشام، فأصبحنا من الفاصل في محاولة الوقوف عند محاور في هذا الجزء الثاني عشر، فنجد شعيباً عليه الصلاة والسلام يأمر بالالتزام بالشفافية وحرمة الغش
في الموازين، لأن ذلك يؤدي إلى ظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة ويؤدي إلى... قهر للنفس وخداع والنبي صلى الله عليه وسلم يقول من غشنا فليس منا، إذاً هذا محور مهم: العدل والإنصاف، والعدل والإنصاف نراه في هذا الجزء في قصة يوسف. كل سورة يوسف بعد ذلك في الحقيقة أنها مبنية على القضاء، ولذلك ألف المؤلفون فيها كيف تكون الشهادة، كيف يكون الإثبات، كيف... يكون خلق
الأدلة للوصول إلى الحق، هل يحكم القاضي بعلمه؟ هل يؤثر ذلك بالعلم، علم القاضي في ضميره؟ في الحقيقة أن صورة يوسف وجزء منها في هذا الجزء الثاني عشر يعني فيها أسس القضاء كمحور من المحاور. بدأت سورة يوسف في قضية الأسرة وعلاقة الأبناء بعضهم مع بعض وعلاقة هذا. بارتكاب بعض الجرائم لأن إخوة يوسف ارتكبوا جريمة، جريمة الخطف وجريمة
الترك في البئر، لأن ذلك تعرّضٌ للهلاك، يعني كأنه شروع في هلاكه، إلا أنهم لا يقصدون الإهلاك، ولعله أن تأخذه السيارة كما قال كبيرهم، ولكن في النهاية هي جريمة فجريمة في جريمة في وضع اجتماعي في كذا إلى آخره. الحقيقة أن صورة يوسف وبعد أن أخذته السيارة وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، ثم بعد ذلك قضية الكفالة والتربية التي لاقاها يوسف عليه السلام في بيت العزيز إلى آخره، إلا أننا مع هذه العظمة في سورة يوسف وهي سورة فريدة لأنها تتكلم
عن قصة واحدة من بدايتها إلى نهايتها ولأنها وضعت أسساً للعدالة القضائية، كيف يحكم القاضي ابتداءً وانتهاءً، وتكلمت عن مساحة كبيرة في الاجتماع البشري وفي الأسرة وفي النفوس وفي علاقة الرجل مع المرأة الأجنبية وفي وفي وفي، يعني الحقيقة صورة ثرية للغاية، بعضهم أفردها بالتأليف والإمام محمد عبده في تفسيره وقف عندها وأفاض فيها. جداً حتى أنه انتقل إلى رحمة الله تعالى ولم يُكمل هذا، ولذلك نجد تفسير المنار يقف عند
سورة يوسف. هناك محور أحب أن أذكره هنا وهو أن مصر سلّت الغذاء للعالم كله. لا أريد أن أقول استغلت استغلالاً صحيحاً، بل أريد أن أقول إذا أُديرت إدارة صحيحة، فإذا أُديرت هذه البلاد فإنها غوث العباد كما ورد في الأثر عن سيدنا نوح أنها أم البلاد وغوث العباد، فهذه منطقة وكان الله سبحانه وتعالى قد وضع فيها البركات حتى لاحظ أهلها أن كل من اعتدى عليها يرد خاسئًا، فسموها مصر المحروسة لأنها
محروسة من عند الله سبحانه وتعالى حتى من تقلبات. المجاعات والكوارث وما إلى ذلك، جاءت مجاعات كثيرة لكنها ذهبت، جاءت أوبئة كثيرة لكنها ذهبت، جاء غزاة كثيرون عبر التاريخ لكنهم ذهبوا وبقيت مصر. مصر سلة غذاء العالم، مصر هي غوث العباد وأم البلاد، الذين أخذوا منها كلمة مصر أم الدنيا. فمصر الحقيقة موجودة في سورة يوسف وحاضرة فيها بقوة ونتذكر قال. تزرعون سبع سنين دأباً
فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون إلى آخر هذه الآيات المباركات. سورة يوسف تعدت الجزء الثاني عشر إلى الجزء الثالث عشر والذي يهمنا في هذا الجزء هو تدبر تلك المحاور وما يفتح الله سبحانه وتعالى على القارئ بمحاور أخرى. محاور القرآن ونحن نسير. جزءًا جزءًا تتعاظم وتكثر، والأمل أن نجمعها جميعًا ونرتبها ترتيبًا ونضيف إليها ما لم يسعفنا الوقت في ذكره في هذه اللقاءات المباركة، وننطلق
والقرآن لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، فالحمد لله رب العالمين. إلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.