القرآن العظيم | ح13 | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح13 | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من برنامج القرآن العظيم. نحن الآن في الجزء الثالث عشر، في هذا الجزء عدة. محاور لافتة للنظر نحب أن نبدأ بما
نسميه بالعفو عند المقدرة، والعفو عند المقدرة خلق نحتاجه في عصرنا هذا لأن الناس دائماً يطالبون بحقوقهم بطريقة تخرجهم عن النظام الأخلاقي، وفي بعض الأحيان يطالبون بما ليس من حقهم أصلاً، وفي بعض الأحيان تكون ردود أفعالهم قاسية لا تتناسب مع الأذى الذي تحملوه أو تلقوه، وعندنا هنا في سورة يوسف عفو من عظيم بيده سلطة
أمام أناس ارتكبوا جريمة نكراء عبر العصور، جريمة خطف الأطفال، جريمة تعريض النفس البشرية للموت، جريمة حرمان الأسرة من ابن لها، جريمة الكذب الذي كذبوه على أبيهم، جرائم كثيرة في حادثة اختطاف سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا. الصلاة والسلام، لكنه وهو في سدة الملك وصاحب سلطة، وكأنه كان رئيس وزراء مصر، قال: "لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم
وهو أرحم الراحمين". نريد أن نقف عند هذا المحور لأنه سيمثل لنا ما يمكن أن نسميه ثورة في حياتنا. فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره، إن الله على... كل شيء قدير، العفو والصفح خُلق أمرنا الله سبحانه وتعالى به، ولكن هناك أناس يتشبثون بشفاء الصدر من الغيظ، وربنا سبحانه وتعالى يقول: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين". في كثير من الأحوال وفي
مناطق كثيرة نذهب للصلح بين الناس، والحقيقة أن كثيراً منهم يستجيب ويعفو ويصفح ويمتثل. رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "أعظم جرعة جرعة غيظ يكظمها المؤمن". أي إن لدي غيظاً ولكن قال: "لا تغضب ولك الجنة". يرد الغضب على القلب ولكن ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب. إذاً فهذا محور عظيم يقول فيه سيدنا يوسف: "لا تثريب عليكم اليوم".
يغفر الله لكم، هذا يلد خير إخوته. اعترفوا بالذنب أولاً، ثم تابوا من الذنب ثانياً، ثم اعتذروا عن الذنب ثالثاً، ثم أقلعوا عن الذنب وحسنت توبتهم حتى قيل إنهم هم الأسباط الذين جاءوا بعد ذلك في قصة سيدنا موسى. العفو عند المقدرة أمر مهم، وفي الحقيقة العفو مطلقاً سواء. كانت عندك سلطة ومقدرة لاستيفاء حقك
أو لم يكن عندك ذلك، وبعض الناس يقول: أنا سأتمادى في رفع الخصومة والقضية إلى القاضي حتى إذا ما حكم عفوته، حتى يعلم أنه عفو عند المقدرة. هناك أمور في الشريعة، السنة فيها خير من الفرض، يعني هي سنة لكنها تكون أعلى من الفرض ومنها هذه السورة أن تعفو حتى لو لم تكن قادراً، لكن أن تعفو وأنت قادر هذا شأنه عظيم. أعظم منه أن تعفو وأنت غير قادر لأنه عفو من القلب وليس عفواً فيه منّة وتفضل على
من أساء إليك. مثل السلام، "السلام عليكم" هذه سنة لكنها أعظم ثواباً عند الله. من وعليكم السلام التي هي فرض فالسنة هنا أفضل من الفريضة بالرغم أن الفريضة دائماً تكون هي الأفضل إنما الفريضة أفضل إلا في فروع معينة وجدنا فيها أن السنة مع أنها سنة تكون أعلى وأبر من الفريضة فمن ذلك السلام ومن ذلك العفو عن الدين أنا دائن لشخص مدين وبعدين لست قادراً على الدفع، فنظرة
إلى ميسرة، يجب عليّ أن أعطيه فرصة وفترة يسدد فيها هذا الدين، وهذا واجب وفريضة. وإذا افترضنا أنني قد عفوت عن الدين وأسقطته عنه، فهذه مسألة عظيمة جداً، وأعظم من الإنظار، أي أعظم من أنني أنظره، يعني أؤجله، يعني أصبر عليه. شهرين أو ثلاثة أو سنة أو سنتين أو ثلاثة، أفضل من ذلك أن أقول له: خلاص، أنا أسقطتُ عنك هذا الدين، فليس عليك ولا في ذمتك شيء. فهذه سُنّة الإسقاط، وهي أعلى وأثوب من الفريضة التي
هي الإنذار. إذاً، فهناك بعض الحالات يكون فيها ما نظنه أنه سُنّة أعظم مما نظنه أنه فريضة. ومن هنا كانت الدعوة إلى العفو المطلق أو العفو عند المقدرة - لا بأس - أمراً مهماً أيضاً لنفسية الإنسان وللاجتماع البشري وللتربية الأخلاقية لأبنائنا، فيجب علينا أن نهتم بهذا جداً حتى
لا نفسد في الأرض وحتى يشيع الخير بيننا. فاصل ونواصل. بعد الفاصل نبحث عن محور آخر في هذا الجزء نراه فيما يلي. أمرنا الله سبحانه وتعالى به قضية الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وهو أمر يجعلنا نتشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان أحلم الناس أكثر الناس حلماً صاحب نفسية هادئة متوازنة قوية عارفة عالمة فعندما كان يتكلم إلى الناس كان
يتكلم في ظل ما أمره الله سبحانه وتعالى. به إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء لست عليهم بمسيطر فتوكل على الحي الذي لا يموت. إذاً هناك مسائل يعني ربنا أعطاها لبني آدم، وكان سيدنا النبي عبداً ربانياً، يعني هذه الصفات فيه إلى أعلى ما يكون من وجودها في بشر: التوكل والتسليم والرضا. وهدوء النفس والطمأنينة والأمان والبصيرة والقلب يرى كما ترى العين. ربنا يقول
كلمة "قل"، "قل" وردت في القرآن خمسمائة واثنتي عشرة مرة. "قل" تثبت أن هذا الكتاب من عند الله لأنه لو كان من وضع محمد صلى الله عليه وسلم لم يقل لنفسه "قل"، بل رب العالمين هو الذي. يقول له قل خمس مائة واثني عشر مرة وردت كلمة قل في القرآن الكريم "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين" أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني. إذاً يؤمر كل داعية أن يدعو
إلى الله على بصيرة. البصيرة المعرفة. إذاً، فشرط الدعوة أن تكون عارفاً بما تدعو إليه، وكثيراً كثيراً رأينا منهم من يتصدرون قبل أن يتعلموا. إذاً، هذا من تصدر قبل أن يتعلم كمن صيّر نفسه زبيباً، كمن تزبب. "تزبب" يعني أصبح كأنه أمام الناس زبيب. الزبيب هذا حلو، يأتي من العنب ونشفناه وجففناه، وبعد ذلك عندما نأتي. نتناوله فنجده مسكرًا حلوًا لأنه من العنب قبل أن يتحسرم، قبل
أن يصبح حصرمًا. أنا سأحضر العنب الناضج وأجففه لكي يصبح زبيبًا، لكنني لم أفعل ذلك، بل تعجلت، ومن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. فمن تصدر قبل أن يتعلم، شأنه شأن من صيّر نفسه زبيبًا قبل أن يا للأسف، لقد جلبنا الحصرم، الحصرم الذي هو العنب الذي لم ينضج بعد، فهذا الحصرم أصبح زبيباً في الشكل، آتي لأتذوقه فأجده مراً، أجده علقماً، أجده مرفوضاً، إذاً هنا لا بد من التعلم، لا بد من البصيرة، وأنا سائر في هذا الطريق إلى
الله، طريق مضيء منير، فإذا ما... تصدر الداعية قبل أن يتعلم عوقب بالحرمات، فإن ما يدعو إليه بدلاً من أن يدعو إلى الهداية سيدعو إلى الضلالة، وبدلاً من أن يدعو إلى الحق سيدعو إلى الباطل، وبدلاً من أن يدعو دعوة تفيد سيدعو دعوة تضر. ومن هنا كانت المسؤولية كبيرة جداً على هؤلاء الناس الذين يتصدرون قبل. أن يتعلموا هناك أيضاً محوراً من المحاور الحقيقية التي يقوم عليها النظام الأخلاقي والنظام الاجتماعي بحاله، وهي ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: صلة الأرحام.
فصلة الأرحام نردها هنا أن الله جعلها من صفات أولي الألباب ذوي العقول. صلة الأرحام ليست مسألة أخلاقية فقط، هي أخلاقية. واجتماعية وأيضاً صلة الأرحام هي مندرجة تحت المحور الذي نتكلم فيه في هذا الجزء وهو أن نصل ما أمر الله به، لأن ربنا سبحانه وتعالى أمرنا أن نصل أشياء كثيرة منها صلة الأرحام، فقال: "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب" إذاً.
هذه آية يجب علينا أن نقف عندها، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل. ربنا سبحانه وتعالى أمرنا أن نصل العبادة فيما يسمى بالصلاة. فالصلاة ركن الدين وعماد الأمر والصلة بين العبد وربه، فقال لي: صلِّ هذا. حاضر، نصلي هذا. ومن هنا جاءت أهمية الصلاة حتى ألف المؤلفون. منهم المنذري، تعظيم شأن الصلاة لأن فيها أننا نصل ما أمر الله به أن يوصل، منها صلة الأرحام، نصل ما أمر الله به أن يوصل، منها
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم"، صلة الجار، "ولا يزال جبريل يوصيني بالجار". حتى ظننت أنه سيورِّثه، سيجعله من الورثة. واهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيرة وبالجار، وجعل من لم يأمن جاره بوائقه من علامات النفاق، وجعل أن تكون في خير، الجار صلة من التي أمر الله أن توصل، إكرام الضيف صلة أمرك الله أن تصل ضيفك كما عرفت إذا.
والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل محور كبير فيه نوع من أنواع الخشية، وفيه نوع من أنواع الحب، وفيه نوع من أنواع الوضع الاجتماعي الرائق الفائق، وفيه نوع أيضاً من أنواع القوة. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.