القرآن العظيم | ح15 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات برنامج القرآن العظيم. نحن الآن في الجزء الخامس عشر نبحث
عن محاور. نقف عندها فنتدبرها، أفلا يتدبرون القرآن. نحاول أن نمتثل لإرشاد ربنا سبحانه وتعالى، فإذا بنا في هذا الجزء نواجه قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". هذه الآية تدل على ما حدث في تلك... الليلة المباركة من توجه النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وكان
هذا بالليل والسير بالليل يسمى إسراء ولذلك فالانتقال كان ليلاً ومن المسجد الأقصى عرج به صلى الله عليه وآله وسلم كما فُصِّل ذلك فيما سنراه في سورة النجم إلى السماء وإلى سدرة المنتهى إذ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، فَجَمَعَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ الإِسْرَاءَ مِنَ الأَرْضِ إِلَى الأَرْضِ، وَالْمِعْرَاجَ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ. هَذِهِ مُعْجِزَةٌ أَوْ أَنَّهَا تَفُوقُ الْمُعْجِزَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى سُنَنٍ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ إِلَّا بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَعَّالٌ. لما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير. نعم، الكون له سننه ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً، أي لا تستطيعون أن تغيروا سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه. سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. سنن الله جارية لا يستطيع. أحد أن يغيرها ولا أن يصطدم بها وإلا فإنه
لا يقدر عليها إذا اصطدم بها. من الذي يغير سنة الله؟ الله! هل الله سبحانه وتعالى يريد أن يغير سنة الله للبشر حتى يسيروا على سنة جديدة؟ أبداً، من الذي يفهم هذا عن الله سبحانه وتعالى؟ نبي الله رسول الله سيد. الخلقُ الأسوةُ الحسنةُ العبدُ الربانيُ الكاملُ يفهمُ هذا عن الله، فأراهُ اللهُ وحدَهُ خرقَ السننِ الكونيةِ بإذنِ اللهِ بأمرِ اللهِ بفعلِ الله، إذاً
فالإسراءُ والمعراجُ أمرٌ لم يشاهدهُ من البشرِ إلا سيدُنا النبيُ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فهو ليسَ معجزةً كالمعجزاتِ التي تجري من أجلِ إثباتِ أحقيةِ النبوةِ مثلما جرى. الماءُ من بين يديه ينابيع فتوضأ الناس وشربوا. إن خروج الماء من بين أصابع المصطفى صلى الله عليه وسلم معجزةٌ شاهدها الناس فعرفوا أنه صادق، لم يأمرهم إلا بالمعروف ولم ينههم إلا عن المنكر. ولذلك عندما حدثت مثل هذه المعجزة الخارقة فإنها تثبت أن هذا الرجل
مؤيدٌ من عند الله. سبحانه وتعالى، أما الإسراء فمن الذي شاهده؟ لا أحد. ومن الذي شاهد المعراج؟ لا أحد سوى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فهي خارقة خاصة به. ما الذي يستقر في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم؟ ربنا لما خلق الخلق جعل هناك سرعات، وجعل أشد سرعة اكتشفناها بعد ذلك. الضوء، فالضوء ينتقل في خلال الكون كله من الشمس إلى الأرض، من القمر في انعكاسه للضوء الشمسي إلى الأرض، في النجوم إلى آخره، بسرعة رهيبة: ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، سرعة رهيبة
جداً. هل هناك سرعة تفوق سرعة الضوء؟ ليس هناك سرعة تفوق سرعة الضوء. ولما اكتشفوا الليزر... وعندما اكتشفوا الأشعة السينية (إكس)، وجدوا أن موجاتها أقل بكثير من الضوء. حسناً، إذا كان هناك بعض المخلوقات نراها بأعيننا بيننا وبينها ملايين السنين الضوئية، فكيف اخترق محمد السماء الأولى فالثانية فالثالثة وهو يصفها بأن السماء الأولى كحلقة في صحراء كبيرة بالنسبة للثانية، والثانية كحلقة صغيرة بالنسبة لصحراء كبيرة بالنسبة للثالثة؟ هذا كون لا يستطيع
الإنسان حتى أن يستحضر صورته، فكيف انتقل من الأولى إلى الثانية إلى الثالثة إلى سدرة المنتهى؟ بالخلق، الله سبحانه وتعالى خلق محمداً في الأولى، وخلق محمداً في الثانية، وخلق محمداً في الثالثة. تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، يعني. خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً. أما هنا فنجد أن هذه الرحلة مع ما فيها من أحداث قد خرجت خارج الزمان، وهنا يرى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الذي
قال فيه: "ما كذب الفؤاد ما رأى"، ويقول فيه: "أفتمارونه على ما يرى"، ويقول فيه: "ولقد". رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الله من الزمان وخلقه خلقاً جديداً، وهذا كلام أهل السنة أننا في خلق جديد بالإمداد. كل يوم، نحن في كل لحظة، كل ذرة ثانية، نحن في خلق جديد. لو أن الله قطع عنا الإمداد لفنينا، إذاً فالإسراء والمعراج أمر. يتعلق بالعقيدة ويتعلق بتسلية قلب النبي ويتعلق بمعرفته بمعلومات لا يدركها كل أحد، يدركها
بعضنا لكن لا يدركها كل أحد، ولكن على سبيل اليقين والمعاينة لا على سبيل التفكير والاستنتاج. إذاً فالأمر عظيم في شأن الإسراء والمعراج، فلما نرى أحدهم ينكر ذلك فهذا شأنه، فليعش كما يريد أن يعيش مع. أنها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم
وإثبات لحقائق الكون في أن الله خارج الزمان وأنه على كل شيء قدير وأنه ما زال خالقًا وأنه لو قطع عنا الإمداد لفنينا إلى آخر تلك العقائد التي أقرها أهل السنة والجماعة، نرى أنه يؤكد على هذا المعنى في سورة الإسراء أيضًا. حيث يقول "وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا". هذه الآية ترد على منكري الإسراء والمعراج، لأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم،
ولما نزل هذا في القرآن الكريم وأنها طعام الأثيم اجتمع ابن الزبعرة واجتمع أبو جهل وقالوا: الزقوم هو التمر المغموس في الزبد، يعني شيئاً حلواً جداً. لم يزدهم ذلك إلا كفراً وطغياناً وفراراً مما أراده الله سبحانه وتعالى. إذ رأى رسول الله الشجرة الملعونة وهي شجرة تنبت شوكاً، تنبت زقوماً. وهذا الزقوم حتى لو كان كما كذب وادعى أبو جَهْل وابن الزُّبَارَة، التمر المغموس بالزبد في لغة أهل اليمن، فإن الله يأتي لهم ذلك شبيهاً، ثم
إذا تذوقوه وجدوه شوكاً مؤذياً. أين رأى رسول الله هذا؟ ومتى رأى رسول الله هذا؟ إنه رآه في هذه الرحلة التي بدأها في تلك الصورة في الإسراء والمعراج، وسنرى محوراً آخر هو قصة. أصحاب الكهف والرقيم قصة مليئة بأمور تؤيد التصور الكلي للعقيدة وأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، لكنها تؤكد نسبية الزمان، وهو أمر نأخذه ونقف عنده لأنه مهم للغاية. ناموا
في كهفهم. أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا، إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا. آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا سنين العدد ثلاثمائة وتسعة سنة قمرية تساوي ثلاثمائة سنة شمسية بالضبط بالأيام فلما ناموا ثلاثمائة سنة واستيقظوا كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم إذا فهناك ما يسمى بنسبية الزمان نسبية الزمان نراها
بعد ذلك في قوله تعالى: "تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة"، "فاصبر صبراً جميلاً، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً"، "إن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون". فهناك يوم في مكان في الكون يساوي ألف سنة مما نعد، وهناك يوم في الملأ. الأعلى يساوي خمسين ألف سنة مما نعد، لو أنك تدبرت هذه الخمسين ألف وتدبرت الثلاث مائة التي شعروا أنها ساعات قليلة ناموها واستيقظوا بعد ذلك وأرسلوا واردهم بدراهمهم من أجل أن ينتقي
لهم أيها أزكى طعاماً فليأتكم منه وليتلطف ولا يُشعرن بكم أحداً. خمسين ألف سنة يعني الساعة بنحو ألفين. سنة ويزيد، أي أن الدقيقة تعادل أربعاً وثلاثين سنة. يعني لو عشنا هنا مائة سنة، عشت مائة سنة أيها الإنسان، فإنك قد قضيت بما في الملأ الأعلى ثلاث دقائق. إنهم يرونه بعيداً مائة سنة ونراه قريباً. ومن هنا نقول لمن فقد عزيزاً: إنك سترحل بعده بقليل، بثلاثين سنة، أربعين سنة، أي بعد. هكذا بسيطة يعني لو انتقل أبي ثم انتقلت بعده بعشرين أو أربعين سنة فسأكون قد انتقلت بعده وكأنه بدقيقة. "كم لبثتم؟
قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم، فاسأل العادِّين. قال: إن لبثتم إلا قليلًا". فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال: "كم لبثت؟" قال: "لبثت يومًا أو بعض يوم". نسبية الزمان ونسبية. الزمان يدل على أن الله خارج الزمان لا يحويه زمان، ولذلك فهو الأول والآخر، وهو الذي لا بداية له ولا نهاية له، وهو الذي لا تتقلب عليه الأحوال، فهو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. نسبية الزمان تسلي قلبك وتعلمك أن هذه الدنيا قليلة، ثلاث دقائق، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان. لو كانوا يعلمون هذا الأمر قد نفهمه،
لكن أهل الكهف عاشوا فيه. وهناك فرق بين أن تسمع وبين أن تفهم، وفرق بين أن تفهم وبين أن تصدق، وفرق بين أن تصدق وبين أن تعيش في هذه المعاني. لو عاش الإنسان في هذه المعاني لا أصبحت هذه المعيشة ميسرة ولا نزل. الصبر على قلوب من ابتلوا بشيء من المصائب، إلى لقاء آخر، استودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.