القرآن العظيم | ح16 | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح16 | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من القرآن العظيم. نحاول أن نلتمس بعض المحاور في الجزء السادس عشر. في هذا الجزء سورة مريم وسورة طه. في هذا الجزء نرى أهمية الأخذ بالأسباب وهو أمر غاية في الأهمية في حياة الإنسان وفي عمران الأرض
وفي أسباب النجاح نراه جليًا في قوله تعالى مخاطبًا سيدة نساء العالمين مريم الصديقة عليها وعلى ابنها السلام فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. في هذا المقطع "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً" أمر عجيب لأن السيدة في حالة نفاس، سيدة قد وضعت ابنها وفي حالة من الضعف
والإعياء، ولكن الله سبحانه وتعالى أمرها أن تتخذ السبب. أرسل لها رسوله حتى ينفخ فيها من روح الله وأحدث لها معجزة لم تتكرر عبر البشرية، معجزة فريدة، وأعلى رتبتها حتى جعلها خير نساء العالمين. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم ابنة عمران أول هؤلاء الأربع، وآسية امرأة فرعون، وخديجة زوج". محمد وفاطمة بنت سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
هذا الترتيب وهذه السيدة التي هي أفضل نساء العالمين والتي يحدث على يدها هذه المعجزة الفريدة التي لم تتكرر ولن تتكرر يقول لها: "وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً وكلي واشربي وقري عيناً"، ما هذا؟ الأخذ بالأسباب. صاغ العلماء من هذا مبدأً عاماً: الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب جهل. النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يعلمنا في سيرته هذا المبدأ العام، هذا المحور الذي بُنيت عليه أشياء
كثيرة. لا تعتمد على الأسباب بقلبك فإن الله هو الفاعل الحقيقي، ولا حول ولا قوة إلا بالله من كنوز العرش، لكن إياك أن تترك الأسباب، فليس لنا أن نختبر الله. يختبرنا. إياك أن تخرج عما خلقه الله سبحانه وتعالى فتكون معترضاً على ذلك وتُصاب بالفشل الذريع ولا تصل إطلاقاً إلى مرادك. الفلاح يُلقي الحب ثم يدعو، يقول: يا رب. والله لو لم يُلقِ الحب لا يخرج. زرع ولا يخرج أي شيء ولو جلس طوال الليل والنهار يقول إني متوكل على الله. لا بد من السعي ومن مخالطة الأسباب التي خلقها الله سبحانه وتعالى. ليس هناك زرع
بدون حب، وبعد ذلك هذا الزرع يجب أن نجنيه وأن نحصده وأن نؤتي حقه. وآتوا حقه يوم حصاده. هذا المبدأ. رأيناه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخرج إلى أُحُد فيخالف بين درعين، والله يعصمك من الناس، وهو يعلم أن أحداً لن يطاله، لكن الأسباب لا بد أن تُتخذ. نذهب إلى الحرب فنلبس لباس الحرب، ويقول: "والله لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما تُرزق الطير تغدو". تغدو خماصاً وتعود بطاناً، أي أنها في الصباح تخرج الطيور وعندما تعود ترجع شبعانة. سبحان الله، هي لا
ترتب ولكن لا بد من أنها تغدو وتروح، تذهب وتجيء، فلو بقيت في أوكارها فليس هناك أرزاق ستنزل عليهم، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ولا تمطر لهذه. الطيور أكلاً ولا رعاية؟ لا بد من مخالطة الأسباب. مبدأ عظيم لو وقفنا عنده وتدبرناه وتأملناه وتعمقنا فيه ثم طبقناه، فإن ذلك سيكون سبباً في الوصول إلى النجاح، أن تكون ناجحاً في مقاصدك. اللهم أنجح مقاصدنا. مبدأ آخر، محور آخر، هذا المحور هو كبر،
الذي أخرجه البخاري أن الإنسان ينبغي عليه أن يعيش في منظومة أخلاقية يُعظِّم ويكبِّر ويحترم فيها الكبير، ولا يجوز له إطلاقًا أن ينسى هذا. "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا". فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وهما على حالة الشرك، يبقى إذًا قضية أنه مُشرك أو غير مُشرك معي، هذا لا علاقة له بالمنظومة الأخلاقية. يقول ربنا سبحانه وتعالى: "واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً
نبياً، إذ قال لأبيه يا أبتِ" وهو مخالفٌ له في العقيدة، وبينه ما رواه القرآن: "لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً يا إنني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً يا أبتِ. انظر إلى تكرار هذه الكلمة: لا تعبد الشيطان، إن الشيطان كان للرحمن عصياً. خطابٌ فيه تنفيذٌ لما قاله رسول الله وهو يعلم الأنصار: كبِّر أخرجه البخاري. بعد الفاصل نواصل. رجعنا
إليكم من الفاصل لنستمر في محاولة التماس المحاور في الجزء السادس عشر من القرآن الكريم، هناك محور ثالث بعد المحورين اللذين ذكرناهما في القسم الأول، وذلك أهمية التجمع والعمل في فريق. العمل في فريق علامة من علامات الجدية التي تقاس بها الدول وتقاس بها الأسرة وتقاس بها المؤسسة إذا رأيناها تعمل بروح الفريق في قوله صلى الله
عليه وسلم: "لينوا في أيدي إخوانكم تكونوا أقوياء، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا تكونوا قويَا. وإذا كان الإنسان - فرداً - يعيش لنفسه ووحده، فإن الذئب لا يأكل من الغنم إلا ما شرد، فعندما يرى قطيعاً يخافه، لكن عندما يرى غنمة شاردة فإنه يأكلها. هذا الشعور فتح الله على سيدنا موسى به وهو في حالة، وكلَّم الله موسى تكليماً، فنراه في بدايات سورة طه يقول في حواره مع ربه. قوله: "وكلَّم الله موسى
تكليماً" يعني كلاماً حقيقياً، لأن المفعول المطلق يُستعمل للتأكيد ولإخراج الكلام من المجاز إلى الحقيقة. "وكلَّم الله موسى" كان من الممكن أن يكون هذا مجازاً. لكن "وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا" أصبحت حقيقة لاستعماله المصدر في هذا السياق. يقول موسى: "وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا". إنه طلب المجموع، طلب التجمع، طلب هذه المنح الربانية التي جعلها الله لنا
تفوق صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة. هو يطلب هذه الجماعة: "واجعل لي وزيرًا من أهلي هارون أخي، اشدد به أزري وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرًا ونذكرك كثيرًا، إنك كنت بنا بصيرًا". والغريب العجيب أنك إذا قرأت القصة تجد أن هارون لم يتكلم بكلمة واحدة وأن الذي تكلم كل القصة من أولها إلى آخرها هي أن سيدنا موسى قدم هذا الطلب شعوراً بالتأييد والأنس مع سيدنا هارون في هذا الموقف الجليل، أن يدخل
على طاغية كفرعون الذي كان يُقال عنه أنه يقتل بالنظرة، أي يشير بعينيه فقط وليس بكلامه، من شدة طغيانه وبغيه وتجاوزه لكل عدل وإنصاف، فهنا محور الفريق وأن نعمل في جماعة وهذه الجماعة تعمل سويًا ويعرف كل فرد فيها وظيفته ولا تكون هناك أنانية كما نشجع الناس في الرياضة فيذهبون من أجل أن يعملوا كفريق ونلوم أي لاعب أو أي ممارس لهذه الرياضة يحاول
أن يستقل بكفاءاته الذاتية لأن هذا نوع من أنواع الفشل نلوم عليه إذا كان أنانياً، فالأنانية هنا ليس لها محل في المؤسسات وفي الحكومات وفي الدول وفي الأسرة وفي جماعة المسجد، وهكذا في كل تصورات الجماعة. يجب علينا أن نعيش في روح الفريق وليس روح الفرد. هناك محور آخر وهو قضية الاعتراف بالحق فضيلة، الاعتراف بالحق فضيلة، هذا يعني... خُلُقٌ ومحورٌ افتقدناه عندما جاء موسى إلى فرعون واتفقوا على استدعاء
علماء السحر حتى يروا إذا كانت هذه معجزة من عند الله تتمثل في تحوّل عصا موسى إلى ثعبان أم لا، فأتى بالسحرة ويُقال أن هؤلاء السحرة كانوا من الفرمة التي تقع بين بورسعيد والعريش، ولما رأى السحرة هذا الأمر قبيل السحر وإنما هو معجزة خالصة من عند رب العالمين، اعترفوا مباشرة لأنهم بنوا اعترافهم على العلم لأنهم علماء، فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى، قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلم يثنهم هذا الاتهام، لم يثنهم إطلاقاً
عن أن يتمسكوا بالحق. أبداً تمسكوا بالحق واعترفوا ومباشرة وفي الوقت المناسب بالحق ولم يخافوا لومة لائم بعدما هددهم فرعون، أخذوا يقولون: "اقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا". محور آخر وهو قصة السامري والتي يتبين لنا فيها أننا ندرك الرجال بالحق ولا ندرك الحق بالرجال، يعني المسألة مجردة الحق.
هذا الحق حق والباطل باطل، فإذا رأينا أحدهم قد ذهب إلى الباطل لهوًى في نفسه وضلالة قد قامت فيه، فإنه يعيش فيها، لا علاقة لنا به، ونتمسك بالحق. فيقول ربنا سبحانه وتعالى في هذا المقام: "قال فما خطبك يا سامري؟ قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول". يعني مصيبة شديدة، هذا يعني أنه رأى جبريل ورأى آثاره، يعني هو من كبار العارفين، وبالرغم من ذلك قال: "وكذلك سوّلت لي نفسي"، فلما قبض هذه القبضة ونبذها في
العجل حتى أصبح له خوار، لكن في النهاية قال: "وكذلك سوّلت لي نفسي"، أخطأ، وهذا نراه كثيراً كبعض العلماء الذين انحرفوا وذهبوا إلى الجماعات الإرهابية، أبدًا نحن نعلم الحق ولا نعلم الحق بالرجال، بل نقوم الرجال بالحق. إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.