القرآن العظيم | ح18 | أ.د. علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من القرآن العظيم. نبحث اليوم في الجزء الثامن عشر من هذا القرآن العظيم عن محاورة أو بعض ما يفتح الله سبحانه وتعالى علينا، فالقرآن لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونرى مشكلة قد يكون سببها انتشار التواصل الاجتماعي وهي الشك المريض
وليس الشك المنهجي. الشك المنهجي هو الأسئلة من أجل الإجابة عليها. من أجل الوصول إلى الحقائق وهذا أمر لا بد منه، أما الشك المريض فهو الحيرة وهو الإنكار بلا علم بل بالهوى. ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾. في هذا الشأن نرى ألواناً من الإلحاد، منها مَن نفى وجود الإله وهذا يُسمى بالإلحاد الأسود، ومنها مَن نفى صفات الإله، ومنها مَن نفى. الوحي ومنها من نفى التكليف ومنها من نفى يوم القيامة ومنها من نفى أركان الإيمان فتراه يؤمن بالله لكنه لا
يؤمن برسله، يؤمن بالكتب لكنه لا يؤمن بالتكليف ولا يؤمن بيوم القيامة ولا يرى أن الله سبحانه وتعالى نرجع إليه فينبئنا بما كنا فيه نختلف وفيما كنا. فيه نختلف، هذا الحال من الإنكار شاع وذاع، وسنراه قد نبه الله سبحانه وتعالى عليه في القديم. كانت هذه الأنواع كأنها وإن كانت موجودة لكن لم تكن بهذا الانتشار. نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول: "إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين"، "إن هو إلا رجل".
افترى على الله كذباً وما نحن له بمؤمنين. قال رب انصرني بما كذبوا. فهنا نقف عند "وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا". هناك يقول "إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين" أو "وما يهلكنا إلا الدهر". فكل هذه الأنواع من أنواع التكذيب سواء كان تكذيباً بالإله أو... تكذيب بصفاته أو تكذيب لليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان، حيث الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. هذا
هو الإيمان، بالغيب، "الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة". نرى كثيراً من الشباب قد دخله الشك في هذا المقام، وأصبح واجب العصر أن التي توافق الواقع والتي ينطق بها الكون بل ويصرخ بها الكون لأنها حقائق لا ينكرها عاقل لكن تحتاج إلى صياغة وتحتاج إلى نموذج معرفي شائع وتحتاج إلى تعليم ومن هنا فإن الحمل ثقيل على طلبة العلم وعلى العلماء أن يبينوا لهؤلاء الشباب بلغتهم وبما يصل إلى عقولهم ثم قلوبهم حقيقة الأمر فهذا
محور مهم، محور آخر وهو الندم على فعل المعصية. من شروط التوبة أن تقلع عن الذنب وأن تنوي ألا تعود إليه مرة أخرى، وأن يصيبك شيء من الندم. وإذا كان هذا الذنب متعلقاً بحقوق بينك وبين العباد، أن ترد هذه الحقوق. هذه شروط التوبة ثم بعد ما تبت. وأصبح أمرك أبيض لا غبار عليه، عليك أن تنسى هذا الذنب وكأنك لم تفعله حتى لا تُحبَط، وحتى يكون هذا دافعاً لك نحو
مزيدٍ من التمسك بأهداب الفضيلة. هنا نرى أن من لم يفعل هذا ولم يتب، فإنه سيكون نادماً حيث لا ينفع الندم في وقتٍ لا فائدة فيه. الندم حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربي ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، كلا، لا، يعني انتهى الأمر عليه. كلا إنها كلمة هو قائلها، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون. البرزخ مثل الصمام، يعني يدخل الهواء في الكرة مثلاً ولا يخرج مرة أخرى، فمن ورائهم برزخ، فالبرزخ
هذا تخرج. إليه الأرواح وتصعد إليه الأرواح ثم لا تستطيع هذه الروح بعد ما عرفت الحقيقة أن ترجع مرة أخرى. هي تتمنى أن ترجع حتى تعمل خيراً وحتى تبتعد عن الشر، لكن هذا من أجله أرسل الله الرسل، ومن أجله أنزل الله الكتب، ومن أجله أمرنا بالموعظة لدرجة. إن المسلمين يجتمعون كل يوم جمعة من أجل هذا المعنى وهو الموعظة الحسنة، نرشد الناس إلى التقوى وننبههم وننقل لهم مراد الله سبحانه وتعالى فيهم، فكل هذا لم يلق آذاناً صاغية، إما
بعدم الذهاب أصلاً إلى الجمعة، وإما بالذهاب وعدم الاستجابة بـ"سمعنا وأطعنا"، وقد يكون بسبب هوى في النفس لأن... هذه النفس لا تريد القيود ولا تريد التكليف ولا تريد الجهد والاجتهاد، والله سبحانه وتعالى كلفنا، أي ألزمنا، بما فيه مشقة؛ وضوء وصلاة وزكاة وحج إلى آخره. فهذا أمر ثقيل على النفس البشرية، ومع هذا الثقل جعل الله بإزائه ثوابًا، "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، فينبغي علينا أن نتمسك. بهذا قبل الفوت
والموت، فالندم على المعصية له وقته وله مكانه، فإذا ذهبت الروح إلى بارئها انقطعت هذه التوبة. وبعد الفاصل نواصل، هذا الفاصل ومعنا محوران: المحور الأول هو تحذير الله سبحانه وتعالى لنا بأن هناك صنفًا من الناس يحب أن ينشر الفاحشة، وأن يُشيع هذا الصنف، صنف مؤذٍ ومضر. ليس لنفسه فقط بل للمجتمع ولعموم الناس، وهو لا
يدرك مدى الضرر الذي يصاب به الخلق من فعله هذا، يقول تعالى: ﴿إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾. نعم، هم يفعلون هذا لأنهم لا يعلمون. هؤلاء لو علموا ماذا يفعلون من فساد في الأرض لما ارتكبوا هذه الجرائم. تحذير الله سبحانه وتعالى من هذا الصلف يبين لنا أن هذا الصلف سيبقى إلى يوم الدين. أهل الشر لن ينتهوا. ليس هناك شيء اسمه
أننا نسعى إلى مقاومة المرض لكن المرض لن ينتهي، إنما يُحاصر. أهل الشر لن ينتهوا. ولكن يجب علينا إنكار هذا الفعل ويجب علينا محاصرة هذا الفكر الذي يريد فساداً في الأرض، يجب علينا أن نجعل هذا محوراً وهذا التحذير من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وأن عذابهم سيكون في الدنيا وفي الآخرة كثير جداً من المواقف يحيل الله سبحانه وتعالى من أجل استمرار الاجتماع البشري إلى الآخرة يعني أنه لا يكون في الدنيا،
ولكن هنا نرى أنه عَجَّل لهم العقوبة في الدنيا أيضاً، لأنهم عندما يضرون المجتمع وهم جزء من هذا المجتمع، يرجع الضرر إليهم، ويأذن الله سبحانه وتعالى أن يكون الضرر وهو راجع إليهم أعظم من الضرر الذي يعود على الآخرين، قد خرجوا مما هم فيه من تلك الورطات التي يورطونهم إياها وهم لا يخرجون بل يزدادون في طغيانهم وفي عمى قلوبهم وفي انطماس بصيرتهم لأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. هناك محور آخر يخفف عنا ظلمة هؤلاء والله
سبحانه وتعالى يصف نفسه فيه بأنه نور السماوات والأرض. يقف العلماء هنا على أن الله سبحانه وتعالى منوِّر السماوات والأرض، أي هو الذي أنشأ الظلمات والنور والحر والحرور، وأنشأ الشيء وضده حتى تتم جدلية الحياة وتسير هذه الحياة في تفاعل دائم. في سورة النور يقول تعالى - وقد سُمِّيت سورة النور بهذا الاسم من أجل هذه الآية - "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة، يعني المشكاة هي هذه الزجاجة
التي نضع فيها المصباح. فإذا كان الله سبحانه وتعالى يصف نوره بأنه كمشكاة، فهذا شيء جميل. المشكاة دائمًا يصنعونها بصفة الجمال. الزجاجة المحيطة بذلك المصباح كأنها كوكب دري، أي أن الزجاجة نفسها تشع ضوءًا، وهذا موجود في نظرية المنشور الذي إذا ما وُجِّه إليه الضوء يعني سيحدث ما يُسمى بتحليل شعاع الضوء، ويتحلل شعاع الضوء إلى سبعة، وهي سبعة ألوان الطيف. فالزجاجة كأنها
كوكب دُرِّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة، يبقى أول صفة في هذه الشجرة أنها مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية. يبقى إذاً لا شرقية ولا غربية نفى التحديد في مكان. لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. وهذا واقع في زيت الزيتون النقي أنه كأنه يلمع ويضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور. يبقى إذاً المشكاة التي بداخلها زجاجة، والزجاجة التي بداخلها مصباح، والمصباح الذي يوقد من شجرة بهذه الصفة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غريبة كل هذه كأنه
نور على نور على نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء. وكان مشايخنا رحمهم الله تعالى عندما يقرؤون هذه الآية ويتلونها هكذا فيقولون: "يهدي الله لنوره صلى الله عليه وسلم"، يعني كانوا يصلون على النبي في هذا الموضع باعتبار أن النبي هو النور المقصود بهذه الآية. يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم، آية تخفف عنا ظلمة أولئك الذين يسعون في الأرض فساداً ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفيها ما فيها من تسلية
لأرواح المؤمنين. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.