القرآن العظيم | ح6 | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح6 | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مرحباً بكم في حلقة جديدة من القرآن العظيم. اليوم نحاول أن نستخرج بعض محاور الجزء السادس. في هذا الجزء نرى عدة محاور خاصة في بداية سورة
المائدة. المحور الأول هو أن الله سبحانه وتعالى الوفاء بالعقود محوراً وحكماً مما يحبه الله سبحانه وتعالى، فقال: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم". الله سبحانه وتعالى لما أمرنا بالوفاء بالعقود وجعل هذا مما يحبه، أصبح هناك عند المسلمين ما يسمى بنظرية العقد والبيع والشراء. الزواج من العقود، والهبة من العقود، حتى عدُّوا الطلاق من
العقود. إذاً، فالله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعمل في اجتماعنا البشري بنظرية العقد، وبالنص "أوفوا بالعقود". إنه أمرٌ من الأوامر، لكنه أمرٌ متشعب ومتداخل في كل حياة الإنسان. هناك كثير من مناحي الحياة مبنيٌ على العقود في المعاملات وفي ما بالأحوال الشخصية حتى أن بعضهم عندما تأمل أنشأ ما يُسمى بالعقد الاجتماعي. العقد الاجتماعي من الفكر البشري لكنه فعلاً موجود في واقع
الناس، وهو عقد بين الإنسان وبين مجتمعه فسُمي بالعقد الاجتماعي. لو تأملنا في نظرية العقد وفي أركانها وفي شروطها، لوجدنا الله سبحانه وتعالى بكلمة بليغة واحدة يقول: أوفوا. بالعقود قبل أن يدخل في قضية من أركان الدين وهي أحكام الحج في قضية من أهم وأعلى العبادات، قبل ذلك يأمرنا بأن نوفي العقد حقه أوفوا بالعقود. فهذا إذاً المحور الأول الذي يجب أن نعيش فيه وأن نتأمله وأن نكون
معه على دراية وعلى التزام. هذا يفرق كثيراً جداً بين... المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتأخرة، إذا نظرنا إلى المجتمعات المتقدمة نرى تقديساً للعقد وللاتفاق، والعقد عبارة عن اتفاق إرادتين، والوفاء بالعقد فيه وفاء بالعهد. واتفاق الإنسان يتضمن شيئاً من الكرامة ومن الوفاء ومن الأمن وعدم الغدر. فنحن نعيش في هذا المعنى ونحاول أن نطبقه في حياتنا باعتباره محوراً أساسياً من محاور القرآن الكريم: المحور الثاني هو
تلك الصلة والرابطة التي أباحها الله سبحانه وتعالى للمسلمين من أجل أن يتصلوا أولاً بمجتمعهم وثانياً بالعالم، وهو إباحة زواج الكتابيات اللاتي لم يؤمنَّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وظللن على ما اعتقدنه من دينهن، وهنا أباح الله سبحانه وتعالى الأكل والشرب والزواج. الكتابيات وفي زواج الكتابيات يقول الله سبحانه وتعالى: "اليوم أُحِلَّ لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم" ذلك بعد كمال الدين "وطعامكم
حِلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله". وهو في الآخرة من الخاسرين. إذاً يجوز أن نتزوج من غير المسلمين بهذه الشروط التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، وفي هذا إقرار لها في عبادتها، فهي تؤمن بموسى، وتؤمن بعيسى على ما اتجه قلبها إليه، فهي محبوبة وهي أم أولاده. ومن هذا الحكم، وإن
كان حكماً في ظاهره أنه أمر. بسيط إلا أن الإسلام انتشر من قبله، لم ينتشر بالعنف والسيف كما يقولون، عندما دخل الإسلام مصر، طبقاً للإحصائيات العلمية، وبعد مائة سنة كان هناك خمسة في المائة من المسلمين والباقي من غير المسلمين، لماذا؟ لأن الإسلام لم يدخل بالإكراه، ثم بعد ذلك مائتين وخمسين سنة أصبحت نسبة المسلمين خمسة. وعشرون في المائة من هذا الذي أباحه الله سبحانه وتعالى لنا يدخل المسلم فيتزوج ويأتي بأبناء فينسبون إلى الإسلام، ويتزوجون من بنات خالهم وهن على دينهن، ومن خلال
الأسرة دخل الإسلام وشاع حتى جاءت سنة سبعمائة وخمسين، فإذا بأكثر من تسعين في المائة من المسلمين. هذا تاريخ رقمي إحصائي. يوضح أن الإسلام لم يُكره أحداً عليه لأنه لا يريد أن ينشئ منافقين. من خلال الأسرة انتشر الإسلام، ولذلك أصبح زواج الكتابيات والأكل من طعام أهل الكتاب ركناً ركيناً في الاجتماع البشري، لأنه يتعامل مع المواطنة بقلب مفتوح بأننا جميعاً نسكن في مكان واحد، لنا حقوق واحدة وعلينا واجبات تجاهها. هذا المكان
الذي نسكنه والذي يُسمّى بالوطن واحد، ومن هنا كان هذا المبدأ وهذا المحور من أهم المحاور التي تكلم عنها القرآن الكريم، والتي يعود أساساً فيها إلى الاجتماع البشري، إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، باعتبار أن الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع. نواصل بعد الفاصل... عدنا من الفاصل ومعنا محور. ينبغي أن نلتفت إليه في رأيي وهو أن الله يحب المتطهرين.
هذا المحور يمثل طهارة حسية وطهارة معنوية، ويمثل في نفس الوقت طاعة، فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالوضوء وأمرنا بالاغتسال وأمرنا ببديل وهو التيمم من الصعيد الطيب من الأرض، وقد جعل الله الأرض لنا مسجدًا وطهورًا، فجعلنا نتصل بالكون. الذي أخبرنا أن كل شيء فيه يسبح وفي النهاية أن الله جميل يحب الجمال وأخرج الترمذي أن الله نظيف يحب النظافة وهنا الله سبحانه وتعالى نجده يحب المتطهرين ويأمر بالطهارة، الوضوء مثلاً والاغتسال،
يعني لا بد في كل صلاة أن يكون الإنسان متوضئاً ولم ينقض وضوءه من قبل، ولذلك نقف. عند هذا المحور لأن فيه من المعاني الجليلة الحسية والمعنوية والنفسية ما يشكل شخصية الإنسان: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم". أرجلكم منصوبة لأنها ليست معطوفة على الرؤوس، ولذلك لا نمسحها فقط بل نغسلها. لأنها معطوفة على الوجه الذي من حقه الغسل وعلى اليدين التي
من حقهما الغسل، نغسل وجهنا ونغسل أيدينا ونغسل أرجلنا. و(أرجلَكم) ولم يقل (وأرجلِكم)، وإن كانت هناك قراءة متواترة (وأرجلِكم)، وحملوها على المسح على الخفين أو على الجوربين. إذاً، فربنا هنا يأمرنا بهذه الأركان الأربعة المنصوص عليها: غسل الوجه وغسل... اليدين ومسح الرأس وغسل القدمين. الإمام الشافعي يقول: عندما وُضع المسح في وسط الغسل، قال إنه يريد الترتيب، يريد أن نبدأ بالوجه ثم بعد ذلك نغسل اليدين إلى المرفقين، ثم بعد ذلك نمسح الرأس بأي مساحة منه لأن الباء هنا للتبعيض، أي
ولو ببعض الرأس، ثم نغسل القدمين. هذا. الترتيب أخذه من ذكرى مخالفة في وسط متفقات "اغسل، اغسل، امسح، اغسل"، فلماذا لم يقل "اغسل، اغسل، امسح" مثلاً ويجعل المسح متأخراً، ولم يكن الترتيب حينئذٍ مطلوباً، لكن لما وضع "امسح" في وسط الأغسال المتتالية دلّ هذا على الترتيب. هذا حس الإمام الشافعي اللغوي، يأمر بهذا الترتيب في الوضوء. غيره من الأئمة لم ينظر هذه النظرة. إذًا فالطهارة لها مكانة كبيرة: أولًا
هي عبادة، وثانيًا متعلقة بالعلاقة بين الإنسان وبين الكون، لأنه يستعمل الماء الذي أكثر الله الحاجة إليه، وإذا لم يجد فإنه يستعمل الصعيد الطيب من الأرض. "وجعلنا الأرض كفاتًا أحياءً وأمواتًا" يعني تضمنا أحياءً وأمواتًا، ومن هنا. يُقرُّ ربنا سبحانه وتعالى الصلة بين الإنسان وبين الكون حتى في مجال العبادات: "جُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً". كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعقود، وأمرنا سبحانه بأن لا نخلف العهد. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يؤكد هذا ويقول: "ثلاث من خصال النفاق من كان فيه واحدة
منهن فهو..." على شُعبة من شُعَب النفاق حتى يدعها، وهذا يسميه العلماء بالنفاق السلوكي أو بالنفاق العملي. إذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر. وفي رواية أخرى: وإذا خاصم فجر. فمجموع الروايات أربعة، لكن عندما نقول ثلاثة فهؤلاء هم: إذا حدث كذب. وفيها: أيكذب المؤمن؟ قال: لا. أيزني المؤمن؟ قال: نعم، أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، لأنها تحت وطأة الحاجة أو دفع الشهوة، لكن لماذا يكذب؟ ومن هنا كان الصدق صفة من صفات المؤمن، والوفاء صفة من صفات المؤمن، وعدم التمادي في الخصومة. رحم الله امرأً سمحاً
إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا تقاضى. كل هذا إنما في ذلك المبدأ. الذي هو الوفاء بالعهد فربنا يقول: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السبيل هنا يتكلم ربنا سبحانه وتعالى بهذه الطريقة التي تتحدث عن الميثاق، العهد الذي يجب أن نوفيه.
عهد الله سبحانه وتعالى مع إبراهيم ومع موسى ومع عيسى ومع محمد صلى الله عليهم أجمعين. العهد الذي بيننا وبين الله، العهد الذي بيننا وبين الناس، العهد الذي بيننا وبين أنفسنا، والعهد الذي... بيننا وبين الكون إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.