القرآن العظيم | ح8 | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح8 | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلاً ومرحباً بكم في القرآن العظيم. نتابع محاولة استخراج بعض المحاور القرآنية التي لها أهمية كبرى في حياة المسلم. من هذه المحاور في الجزء الثامن أهمية النية،
والنية مهمة. جداً كما ثبت في السنة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". نرى الإمام البخاري وقد وضع هذا الحديث أول شيء في كتابه الصحيح، بدأه بالنية لأنه إذا صحت النية صح العمل. كله وإذا لم يكن هناك نية أو فسدت النية أو كانت نية لغير وجه الله سبحانه وتعالى كانت باطلة، والعجيب أن الإمام البخاري أنهى صحيحه بقول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان
في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، يعني أنهاه بحديث عن الذكر. فكان بداية الدين هي النية ونهاية الدين هو الذكر. البداية والنهاية في الدين عند علماء عرفوا معنى الديانة، تعلقت قلوبهم بالله، وجعلوا أعمالهم خالصة لوجه الله، فأبقاها إلى يوم الناس هذا. يواجهنا في الجزء الثامن قوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك". أُمِرتُ وأنا أول
المسلمين، وهذه آيات يجوز أن تبدأ بها صلاتك، وينصح العلماء أن تقول "وأنا من المسلمين" عند تلاوة القرآن، أي بدلاً من "وأنا أول المسلمين"، وهذا في حق سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يمكن أن تقول "وأنا من المسلمين" ويتم المقصود في هذه الآية، بياناً لأن حركاتنا وكل سكناتنا ينبغي أن تكون بالنية لله رب العالمين. كان هناك أحد العلماء الكبار واسمه ابن الحاج، وقد ألّف ابن الحاج كتاباً أسماه "المدخل"، وفي هذا المدخل بيّن أن الصحابة الكرام كانت
حركاتهم وسكناتهم كلها يوجهونها بالنية حتى ينالوا الثواب العظيم وحتى يدربوا أنفسهم على أن يعيشوا في معية سبحانه وتعالى فتراهم إذا خرجوا إلى الصلاة نووا في أنفسهم أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر وأن يزيلوا الأذى من طريق الناس وأن يشهدوا الجماعة وأن يخدموا الناس كل واحد منهم حسب حاجته وحسب قدرته وهكذا يعيش بنيات متعددة في سلوك واحد وهو ذهابه إلى الجماعة مثلاً ويأخذ ابن الحاج كل هذه الأفعال ويتكلم عن النيات التي
يمكن أن تكون فيها، وذلك من منطلق تلك الآيات الكريمة التي ذكرناها. هناك محور آخر نراه واضحاً ويمكن أن نسميه بمعجزة القرآن الكريم: "كتاب أُنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين". هذا الكتاب هو نبي مقيم. لأن ختم النبوة كما ذكرنا من قبل قطع الوحي عن الناس، والناس في حاجة إلى معرفة أحكام الله سبحانه وتعالى ومراده
وما يحب ويرضى. عندما كان النبي على قيد الحياة على وجه الأرض، كانوا يذهبون إليه، والنبي يسأل ربه، وربنا سبحانه وتعالى يجيبه بأنواع الوحي المختلفة، ولكن بعد النبي من هو في الحقيقة كتاب الله الذي لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد. يخلق يعني يبلى، يعني يَقدُم، يعني مثل الثوب البالي معناه أو الثوب الخَلِق. معناها أنه ثوب استُهلِك ولم يعد صالحاً للبس. ولكن القرآن صالح للاستدلال به وللعبادة بتلاوته
واستنباط الأحكام منه، لأنه كلام الله غير المخلوق. الذي يتجاوز الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والذي يذكر فيه ربنا سبحانه وتعالى "يا أيها الذين آمنوا" و"يا أيها الناس" فهو كما وصف الله نبينا "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" فهذا القرآن معجزة وهذا القرآن فيه تلك المعاني التي تجعله نبياً مقيماً ومن هنا حافظ الله عليه جل جلاله لم تكن الأمة قادرة على حفظ كتاب الله بهذه الكيفية التي حدثت، حافظت عليه على مستوى للأداء الصوتي، حافظت عليه ليس
مرة واحدة بل عشر مرات في قراءات متواترة عشر. ليس هناك نص على وجه الأرض بهذه الكيفية يحفظه الداني والقاصي والكبير والصغير. في فترة من الفترات استُعمل القرآن الكريم لإزالة ومحو. الأمية: كان النساء كبيرات السن يحفظن القرآن فتزول أميتهن. هذا شيء لم نره في نص من قبل. كتاب الله سبحانه وتعالى المعجز رأيناه وهو يحفظه الصبي الصغير دون أن يفهم العربية من الأعاجم، ويقوم بالناس في التراويح بهذا
القرآن الكريم وهو صغير في السن. إذاً فنحن أمام معجزة ربانية هي. معجزة رسالة: هناك ما يُسمى بمعجزة الرسول وهي تلك المعجزات التي جرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهناك معجزة رسالة وهي هذا القرآن العظيم. بعد الفاصل نستمر في استنباط المحاور التي في هذا الجزء، في هذا الجزء الثاني من تلك الحلقة المباركة نعيش مع أصحاب. الأعراف الذين
ذكر الله سبحانه وتعالى شأنهم في قوله: "ونادى أصحاب الأعراف" و"نادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم" يعني بعلاماتهم. من هم أصحاب الأعراف الذين يقفون؟ الأعراف هي تلة أو مرتفع من الأرض. من الذي يقف على الأعراف؟ هناك تفسيرات عدة، ولكن من أبدعها أن أصحاب الأعراف هؤلاء هم الأنبياء الرسل لأنهم وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم يعرفون كلاً بسيماهم، فلأنهم يعرفون كلاً بسيماهم، هؤلاء من أصحاب النار، هؤلاء من أصحاب الجنة، هؤلاء في الدرجة
العالية، هؤلاء في الدرجة التي بعدها، كل ذلك يعرف أصحاب الأعراف، ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم، فإذا هؤلاء أصحاب معرفة بسيماهم، إذاً فأصحاب الأعراف يعني لهم شأن عظيم عند الله، هذا القول من أهل التفسير يدل على تعظيم المعرفة وأن المعرفة سلطة لها وجاهة ولها مكانة، وهذا هو ما نطق به القرآن: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وأكد فقال: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾، يعني يُفتَخر
بالعلم، وقال: ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾. ومن هنا فإن أصحاب الأعراف في القول الذي ذكر أنهم هم الأنبياء يتسق ذلك مع السياق، فهؤلاء كأنهم شهداء على الناس. ومن هنا كانت هذه المعرفة أن الله سبحانه وتعالى يذكر لنا أشياء ونجلس نبحث عنها السنين الطوال ثم بعد ذلك نعرفها. وإذا قرأ "فإذا قرأناه فاتبع قرآنه" ثم إن... علينا بيانه، الله سبحانه وتعالى هو الذي سيبين معاني القرآن الكريم عبر العصور حتى تتم معجزة القرآن الكريم. هناك وضع من الأوضاع
يجب علينا أن نلتفت إليه وهو أن الله سبحانه وتعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"، فالله سبحانه وتعالى سيظهر لنا ذلك وهذا. يتم شيئاً فشيئاً، في كل فترة نرى أن العالم اكتشف شيئاً أو اخترع شيئاً بتوفيق الله للبشرية ولبناء الحضارة. اخترع شيئاً أو اكتشف شيئاً يساعد على فهم الصياغة القرآنية، وهذا يدل على أن هذا الكتاب من عند الله وليس من عند بشر. أصحاب الأعراف قصة ينبغي علينا أن نقف عندها نتدبّرها وأن نتأملها حتى
نصل إلى تلك المفاهيم العالية التي تضمنتها هذه السورة وهذا الجزء بالذات. هناك أيضاً مبدأ آخر نراه في قصة نوح مع قومه وهو ما يمكن أن نسميه بصراع الحق مع الباطل. صراع الحق مع الباطل من سنن الله سبحانه وتعالى في كونه ولن تجد لسنة الله. تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً، فقصة نوح مع قومه امتدت لألف سنة إلا خمسين عاماً، وهذه المدة الطويلة يدعو فيها نوح قومه، وفي هذه المدة الطويلة جاءت أجيال من وراء
أجيال من وراء أجيال، قال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا لا يلدوا إلا فاجراً كفاراً، بناءً على الإحصائيات الماضية فإنه رأى مرة بعد مرة بعد مرة بعد مرة، رأى كيف تُربَّى الأجيال على الكفر بالله، لأن أبجديات هذه الأجيال مختلة، لأن متطلباتهم مختلة، عندما يقول أرني الله، أنا أريد أن أرى ربنا، طيب، ولكن شأن الله سبحانه وتعالى أنه لا لأنه أكبر وأعظم من هذه الإمكانيات، فقصة
نوح مع قومه قصة عجيبة تعني في النهاية الصراع بين الحق والباطل، وأن هذا الصراع الذي بين الحق والباطل يحتاج إلى قواعد، من ضمن هذه القواعد الصبر، ومن ضمن هذه القواعد أن نوحاً كان يدعو إلى ربه علناً وليس سراً، ومن ضمن هذه القواعد أن نوحاً كان يثق بما عند الله سبحانه وتعالى أكثر مما يثق بما في أيدي الناس، ومن ضمن هذه القواعد الوضوح والبساطة، كون الشيء ليس مركباً معقداً لا يفهمه الناس،
بل هو في متناول كل أحد. قصة نوح مع قومه قصة عجيبة في بدايتها وفي وسطها وفي نهايتها بعد. فصنع الفلك فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا. هذه كانت نهاية قصة نوح، نهايتها في الصراع بين الحق والباطل. هذه القصة نراها أيضاً مع سيدنا هود: "فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين". نراها أيضاً في
قصة صالح. ففي الجزء الثامن قصص كثيرة للأنبياء وكلها فيها تأكيد لقضية الصراع بين الحق والباطل. وصف الله تعالى هؤلاء المرسلين وذكر أنه قصّ علينا قصصهم لأن "لقد كان لكم في قصصهم عبرة"، "في قصصهم عبرة لأولي الألباب"، "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده". إذاً فهو قد ضرب لنا تلك الأمثال وتلك من أجل أن نستنبط منها برنامجاً حياتياً واقعياً تطبيقياً يشتمل على العدل ويشتمل على الإنصاف ويشتمل على الصبر ويشتمل
على التخطيط ويشتمل على الرقابة ويشتمل على كل هذه المعاني التي توصل إليها البشر عندما أرادوا العدل وعندما أرادوا الإنصاف وعندما أرادوا أن يتخلقوا بأخلاق الرحمة هذه المحاور وتلك المبادئ التي نراها في الجزء الثامن هي قليلة من كثير لأنه ذلك الكتاب لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، فاللهم فهمنا كتابك واشرح لنا صدرنا وافتح علينا فتوح العارفين بك، اللهم آمين، وإلى لقاء آخر أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.