القرآن العظيم | ح9 | أ.د. علي جمعة

القرآن العظيم | ح9 | أ.د. علي جمعة - تفسير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أهلاً ومرحباً بكم في هذا البرنامج مع القرآن العظيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اليوم مع الجزء التاسع في تلاوتنا للقرآن الكريم، وفي هذا الجزء نجد عدة محاور ينبغي أن نقف عندها وأن نتأمل. ونتدبر
معانيها، هذه المحاور أو المبادئ فيها أن تقوى الله سبحانه وتعالى مفتاح كل خير ومغلاق كل شر. سنجد هذا في قوله تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون". هذا المحور مهم للغاية يطلب فيه ربنا سبحانه وتعالى. أن نؤمن به وهذه هي قضية الكون الكبرى التي أهملها كثير من الناس، وبعد ذلك يجب أن نتقيه.
ولما سُئل الإمام علي عن التقوى ما هي، فقال: "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل". الإمام علي باب مدينة العلم يرى أن التقوى تتلخص في هذه الأربعة، يجب عليك أن تحب الله سبحانه وتعالى، ومن خلال هذا الحب تخاف من غضبه، تخاف من أنه لا يرضى، تخاف أن يكره شيئاً تفعله. هذا الخوف من باب الحب هو الذي يمثل التقوى، الخوف
من الجليل لأنه جليل. فنحن لا نريد إلا أن يرضى عنا، نريد أن يرضى عنا لأننا نحبه أمرنا بذلك الحب فيجب علينا أن نتقيه، إذ القضية ليست قضية إقرار بوجود الله فقط، بل هي أيضاً تتعلق بالعمل، الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل. التكليف الذي ذكرناه قبل ذلك في الفعل والعدم، الفعل أو في الأمر والزجر، الأوامر والزواجر. هنا التقوى: العمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل. مهم جداً الإيمان. باليوم الآخر لأنه يتحكم في سلوك الإنسان في الدنيا، فعندما يُقدم الإنسان
على فعلٍ أو يتراخى ويترك فعلاً، فإنه يفكر دائماً في عاقبته. وعاقبة الأمر موجودة في يوم الحساب. أتعجب من أولئك الذين لا يؤمنون بيوم الحساب، كيف يعيشون في الدنيا وما شعورهم عندما يفعلون الخطأ أو يفعلون. الصواب ما شعورهم! أتعجب جدًا من أولئك، لأنهم في الحقيقة من لم يعلم أن هناك حسابًا فإنه سوف يفسد في الأرض، والله لا يحب الفساد ولا يحب المفسدين. إذًا، فالمحور هذا هو محور أن التقوى هي مفتاح كل خير وفلاح ومغلاق
كل شر وكل قبيح. هناك أيضًا محور آخر يجرنا. إليه رضا الله الذي يترتب على التقوى، تنقلنا من دائرة سخطه إلى دائرة رضاه. إذاً فنحن أمام دائرتين: دائرة الرضا ودائرة السخط أو غضب الله سبحانه وتعالى. سنجد هذا في قوله تعالى: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا". إذاً المصيبة والغضب ليس في... الآخرة فقط بل هو أيضاً في الحياة الدنيا "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر
لعلهم يرجعون" وسبب ذلك أن الله يريد لنا أن نفر إليه وأن نرجع إليه وأن نتوب من تلك المعاصي السخيفة التي تمثلت في اتخاذ العجل إلهاً والعياذ بالله تعالى إلى غاية الوثنية فسينالهم من ربهم ذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين، إذًا فهناك عقاب أخروي وعقاب دنيوي في قضية غضب الله سبحانه وتعالى على المخالف، وكل ذلك من رحمة ربنا سبحانه وتعالى، فهو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. هناك أيضًا محور
آخر وهو التمسك بالصلاة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم". الصلاة وعندما يأمرنا بالاجتماع البشري فإنه يهتم جداً بقضية الصلاة. "الصلاة واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين". وهنا يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً". ويقول هنا "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى
ويقولون". سيغفر لنا وأن يأتيهم عرض مثله يأخذوه. فالاهتمام بالصلاة في القرآن كله "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا". إقامة الصلاة ركن من أركان الدين، بل هي من أعظم أركان الدين، وفي الحقيقة إنها "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين". الصلاة كبيرة لأنه ليس هناك في أي ديانة هذا الكم الكبير من الصلوات كله هو ومن هنا فنحن أمام اهتمام بليغ بقضية الصلاة ومفتاح عظيم والاستهانة به مؤذية في
الحياة الدنيا فهو محور ينبغي أن نلتف جميعاً حوله. بعد الفاصل نواصل. رجعنا من الفاصل إلى محور آخر في هذا الجزء التاسع هذا المحور يجب. أن نهتم به لأنه له أثر فعلي وفوري في حياتنا وهو الدعاء المستجاب. والله سبحانه وتعالى أرشدنا، وهنا في هذا الجزء يقول ربنا سبحانه: "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا
يعملون". فمحور من أهم المحاور ونتعلم منه كيف نخاطب ربنا، وكلمة "يا" التي هي للنداء "يا الله" يعني أنادي الله "يا رحمن يا رحيم". كل هذا إنما هو نوع من أنواع الدعاء، فادعوه بها. كل هذا نوع من أنواع الالتجاء. كل هذا عندما يخرج من القلب وعند الاحتياج، ويتصور أحدنا أن الله قطعاً سيستجيب. هذه الثقة بالله تقرب استجابة الدعاء. ثق في الله. واربط قلبك وذهنك
وتركيزك على ما تدعوه به، وادعُه بأسمائه الحسنى. قل له: يا وارث، قل له: يا قوي، قل له: يا مستجيب الدعاء، قل له: يا الله، قل له: يا رحمن يا رحيم يا ملك. ادعُه بأسمائه الحسنى، فإن الله سبحانه وتعالى له أسماء كثيرة، وكان سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك". إذاً فهناك أسماء علمها الله سبحانه وتعالى لمن اصطفاهم من خلقه من الأنبياء والصديقين
والأولياء والعلماء، ألهمهم الله سبحانه وتعالى بأسماء واستجاب لهم عندها، فمن علمك شيئاً من هذا من أهل. الخير والعلم والتقوى والصلاح والولاية فادعوا الله به لعله أن يستجيب. اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء همنا وحزننا ونور أبصارنا وصدورنا. إذاً فرسول الله يعلمنا كيف نجر.
وندعو الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، فلله أسماء كثيرة، لكن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عند الترمذي: "إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة". والعلماء في كلمة "أحصاها" أنه دعا بها، وتخلّق بأخلاقها، وتعلّق بما يجب أن يتعلق بها. وصدق ما ينبغي أن يُصدَّق به هذا المثلث: التخلق والتعلق والتصديق، هو معنى "أحصاها"، لأنه كما ذكرنا، الله له أكثر من مائة وخمسين اسماً في كتابه، ومائة وستين اسماً في سنة
نبيه، مئتان وأربعون اسماً في الكتاب والسنة. لكن له أسماء أخرى لا يعرفها أحد، وفي حديث البخاري عندما يتشفع. فينا سيدنا صلى الله عليه وسلم فيقول: "فاسجد تحت العرش فيلهمنا الله بأسماء لم يلهمها لأحد من قبل"، يعني يعطيه أسماء مما استأثر الله بها في علمه. أبو بكر بن العربي يقول: "لله ألف اسم"، يعني من الممكن أن تكون البشرية قد عرفت أو سمّت ألف اسم لله سبحانه وتعالى. أحبوا شيئاً أو خافوه فأكثروا من أسمائه، إذ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه. هناك أيضاً
محور مهم وهو أن طاعة الله ورسوله سبب لكل خير. ربنا سبحانه وتعالى لم يخلق هذا العالم عبثاً ولم يرسل الرسل عبثاً، فقال لنا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ إذا دعاكم لما يحييكم رسول الله، علمنا الأخلاق. قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق". خمسة وتسعون في المائة من القرآن ومن السنة إنما هي في الأخلاق، فهذا مما يحيينا. وخمسة في المائة في كل الشريعة، في كل الفقه، خمسة في المائة فقط من العدد ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية. في الكتاب خمسة في المائة منهم كل الفقه،
ستون ألف حديث، خمسة في المائة منهم كل الفقه، والباقي كله في الأخلاق. "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" و"إنك لعلى خلقٍ عظيم". فاستجيبوا يا إخوتي لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه. هذا هو المحور، هذا عظيم جداً لأننا واجهنا أناساً وسألناهم: لماذا أنت مستمر على المعصية؟ فأجاب: والله أريد أن أتركها لكنني لا أستطيع. أي أن هناك مرحلة من الاستهانة التي يصل فيها العبد إلى أن يحول الله بينه وبين قلبه، وهذه مرحلة خطيرة. إياك أن تصل إليها لأنها
شبيهة بالمرض المزمن الذي لا فيه الإنسان من حاله وهو أمر يكرهه الله سبحانه وتعالى. إياك إلا أن تكون قريباً في العودة إلى الله وفي العودة إلى التوبة وفي الاستقامة على الأمر والنهي، لأن الأمر خطير في قوله: ﴿واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه﴾. حدثني أحدهم في بلاد الأمريكان يقول لي: أنا في جهنم، قلت له: "أنا في نار"، وما هذا الأمر سهل. "اخرج من هذه النار"، قال: "لا أستطيع، أنا في نار ولا أستطيع أن أخرج منها". فتذكرت قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾، فيجب علينا
أن نؤمن بهذا ونتخذه مدخلاً لتغيير حياتنا في هذه الأيام المباركة. إلى لقاء آخر. أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته