القرآن العظيم | حـ 1 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مرحباً بكم في هذا البرنامج "القرآن العظيم". والقرآن عظيم لأنه نبي مقيم بعد ما أذن الله سبحانه وتعالى بانتهاء الرسالة والنبوة وقطع الوحي، أقام لنا القرآن حتى نرجع إليه إذا ما أراد أحدنا أن يعلم مراد الله سبحانه
وتعالى من تلك الحياة وكيف يتصرف فيها وكيف يعيش حياته في رضا الله سبحانه وتعالى فحافظ عليه ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ والحمد لله وصل إلينا من غير حول منا ولا قوة فما كان في مقدور الأمة ولا في مقدور سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ولا في مقدور أحد من الخلق أن يحافظ على هذا الكتاب من التحريف لكن الله سبحانه وتعالى حافظ عليه وإذن بذلك حفظه الكبار والصغار والعرب والعجم فكان آية ومعجزة للكافة إلى يومنا هذا بل
إلى يوم الدين. القرآن وصل إلينا بالأداء الصوتي لكل حرف من الحروف جيلاً بعد جيل. جيل يتناقله الناس وينجذبون إليه ويفهمونه، القرآن له آيات وله كلمات وله حروف. عدَّ المسلمون كل ذلك، عدوا سوره وآياته وكلماته وحروفه، حتى جاء الإمام مجاهد فقسمه إلى ثلاثين جزءاً باعتبار عدد الحروف، وهو إلى يومنا هذا يُطبع على نحو ثلاثين جزءاً، كل جزء يساوي الجزء الذي بعده
تقريباً لأن العدة قد تأتي في نصف الآية فيبدأ الجزء الذي يليه من أول الآية التي بعد تمام عدد الحروف في ما نحن نعده ثلاثين، قسموا ثلاثين حتى نقرأ كل يوم جزءاً ويكون الجزء منضبطاً من ناحية المساحة، وعندما طُبع القرآن الكريم هذه الطبعة الشائعة الآن والتي بدأها الأتراك في كتابة بديعة. بالخط العربي والتي تسمى داركنار، وداركنار تعني في الإطار، فجعلوا كل جزء
عشرين صفحة، وجعلوا كل جزء خمس عشرة سطراً، وجعلوا كل جزء وكل صفحة تبدأ بآية وتنتهي بآية، وأصبح هذا المصحف الذي بين أيدينا، والذي طُبِع في المدينة وطُبِع في الأزهر الشريف على هذا النمط الذي يسمى درك نار. المصحف بهذا الشكل يستطيع المؤمن في رمضان مثلاً أن يقرأ جزءاً كل يوم حتى يختم القرآن في الشهر. بعد ذلك قسموا الجزء إلى قسمين، وجزؤوا هذا الحزب الذي هو نصف جزء إلى أربعة
أجزاء يسمى بالربع. إذاً هناك ثمان قطع موجودة في الجزء، ثمانية في ثلاثين يصبح مائتين وأربعين ربعاً. موجودين في القرآن الكريم إذا قرأنا في رمضان مثلاً كل يوم جزءاً فإن هذا التقسيم يجعلك قادراً أيضاً أن تقرأ صفحة كل ركعة. عدد الصلوات التي نصليها سبع عشرة ركعة منها عشر ركعات نقرأ فيها في الفريضة: الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، صفحة في كل ركعة فنكون قد قرأنا عشر. صفحات فإذا كان أيضا نصلي السنة فالسنة
أيضا تحتاج إلى عشر صفحات أخرى ويكون الإنسان قد عاش مع القرآن يختم كل يوم جزءا وبذلك ففي كل شهر يختم جزءا يختم القرآن كله في ثلاثين يوما هذا التقسيم فعله المسلمون وطبقوه وعاشوا فيه كل جزء فيه محاور وفيه كلمات قد لا ندرك معناها الدقيق، قد تكون حقيقة وقد تكون مجازًا، قد تكون مفردة وقد تكون في تركيب لغوي. ولأن الناس في عصرنا ابتعدوا عن اللغة العربية فإنهم كثيرًا ما يسألون عن هذه الكلمات. ولكن
أيضًا في هذا الجزء توجد محاور حول ماذا يريد أن يقول الله سبحانه وتعالى لنا إجمالًا لا تفصيلًا. إذا سرنا بالتفصيل فسوف نفسر القرآن آية آية كما كان يفعل المفسرون وكما كان يفعل سيدنا الشيخ محمد متولي الشعراوي. نقرأ الآية ونتدبرها ونشرح معناها ونرى ما فيها من فوائد ومن أحكام ومن توجيهات وإرشادات ربانية من أجل سعادة الدارين: دار الدنيا ودار الآخرة. أما في برنامجنا هذا فسوف نتكلم. عن تلك المحاور التي يشتمل عليها الجزء ونبدأ
اليوم بالجزء الأول. فالجزء الأول فيه الفاتحة، ومن تعلُّق المسلمين بالفاتحة سُمِّيت بأكثر من عشرين اسماً. سُمِّيت بالفاتحة لأنها مفتتح الكتاب، أول ما نفتح المصحف نجدها أمامنا. وسُمِّيت بالركن لأنها ركن من أركان الصلاة عند جمهور الفقهاء، لا تجوز الصلاة إلا أن. نقرأها في كل ركعة وسُمّيت من أجل هذا بالسبع المثاني لأنها سبع آيات وهي مثاني لأنها تُكرر وتُثنى في كل ركعة من ركعات الصلاة، وسُمّيت بالشافية وسُمّيت بالكافية،
وهناك أكثر من عشرين اسماً للفاتحة، حتى جعلها المسلمون توثيقاً لعقودهم، فعندما يذهب شخص ليطلب يد من يريد أن يتزوجها يقرؤون الفاتحة توثيقاً. لهذا الاتفاق ولهذه الموافقة فيقول إنها أصلها "مِئْر" فتحتها "مِئْر" فتحتها، يعني قرأوا الفاتحة كتوثيق وكبداية خير في قضية العقد الذي سوف ينشأ في الزواج بين الاثنين. الفاتحة من ضمن أسمائها الأساس لأنها أساس الدين وكأنها ملخص للدين كله: بسم
الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك. يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. إن هذه الفاتحة هي عجيبة لأنها من عند رب العالمين، تتكلم بصورة محايدة. في بعض صلوات بعض الأديان يقول مكان الفاتحة: الحمد لله الذي خلقتني ذكراً. حسناً، فماذا تقول الأنثى وهي تعبد؟ ربها لكن هنا الحمد لله رب العالمين يقولها الرجل وتقولها المرأة والكبير والصغير والجاهل والمتعلم ونحن سائرون هنا بعض الناس
يأتي غير المغضوب عليهم ولا الضالين فيقول المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى ربنا ما قال هذا ربنا تكلم عن اليهود والنصارى في الكتاب وبيّن الجهة التي ينصحهم فيها جهة منهجية جهة تتعلق بالعقيدة والحقيقة، ولكن هنا لم يقل هذا، إنما قال غير المغضوب عليهم وقال الضالين، وهذا الذي يعلم الحق ولكنه يخالفه، والضال الذي لا يعلم الحق ولذلك فهو يخالفه. الفاتحة في الجزء الأول والذي سيتكرر معك قراءتها طوال الركعات والصلوات
أساس الدين، ثم بعد ذلك تأتي سورة البقرة. وهي أكبر سورة في القرآن وهي أول سورة في القرآن بعد الفاتحة، بداية إضافية يعني بعد الفاتحة. ومن هنا وحتى نفرغ لمعرفة المحاور التي اشتملتها الفاتحة من ناحية، والتي اشتملتها سورة البقرة من ناحية أخرى، نأخذ فاصلاً قليلاً ثم أعود إليكم. بسم الله الرحمن الرحيم،
عدنا إليكم. الفاتحة فيها مقاصد. الخلق يعني عندما خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون، ودائماً نقول إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون لثلاثة أمور: أولاً لعبادته "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وثانياً لعمارة الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"، وثالثاً لتزكية النفس "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"، وأن هذه الثلاثة. العبادة والعمارة والتزكية هي هدف هذا الكون. بعض الناس يقول أن هذا الكون خُلِق عبثاً. بعض الناس يقول أن الله خلقنا ثم تركنا. ولكن عقيدة المسلم أن الله خلق هذا الكون
لغرض معين ولهدف معين وهو هذه الثلاثة: العلاقة بين الإنسان وبين ربه، العبادة، وهذه العبادة مبناها الطاعة والتقوى، العلاقة. بين الإنسان وبين نفسه التزكية، وهذه التزكية مبنية على التخلي من كل قبيح والتحلي بكل صحيح. العلاقة بيني وبين ما حولي من الكون العمران، وهذا العمران فيه ما يحبه الله سبحانه وتعالى وفيه ما يكرهه، فنأتي ما يحب وندع ما يكره. فإذا دخلنا في سورة البقرة وسمعناها أو تلوناها فإننا سنجد محاور في هذه السورة
العظيمة، أول هذه المحاور هي قصة الخلق. وقصة الخلق في غاية الأهمية لأنها تبين لنا أشياء مهمة في حياة الإنسان. يحاول بعض الناس أن يشوش عليها، ولكن هناك وضوح في الكتب المقدسة جميعها وفي القرآن خاصة على هذه القضية. عندنا في القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم وخلق زوجه منه فهي نفس واحدة، وهذا معناه المساواة بين الرجل والمرأة، وتتأكد هذه المساواة في أنهما قد كُلِّفا، فالتكليف للرجل وللمرأة
معاً، وتتأكد هذه المساواة في أن الله نسب المعصية إليهما، فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه، قلنا: اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى. فمن تبع هداي فلا خوف عليهم إلى آخر الآيات. إذاً فهذا المحور محور مهم وهو قصة الخلق، ونأخذ منه المساواة بين الرجل والمرأة في التكاليف. هناك فرق بين المساواة والتساوي، فالمساواة في التكليف وفي الحقوق وفي الواجبات وفي المآلات وفي الحساب، وأما التساوي فمعناه عدم الاختلاف وهذا ليس هو المراد. الله من خلقه، بل مراد الله سبحانه وتعالى
من خلقه أن يخلق العباد على التنوع وعلى الاختلاف حتى يكملوا بعضهم بعضاً. الأمر الثاني قصة البقرة وهي مهمة للغاية لدرجة أن الله سبحانه وتعالى أطلق على هذه السورة، وكان يمكن أن تسمى بسورة التوحيد، كان يمكن أن تسمى بسورة آدم أو قصة الخلق كان يمكن أن تسمى بصورة التكليف لأن فيها أحكاماً كثيرة، كان يمكن أن تسمى وتسمى وتسمى، لكن الله سماها البقرة. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى يريد من عباده ألا يفتشوا تفتيشاً دقيقاً. "لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم". ولذلك
فالمحور الثاني هنا هو قضية كيف يتعامل. الإنسان مع الدين، الإنسان يتعامل مع الدين بالطاعة "وفِرُّوا إلى الله" وليس بكثرة السؤال "لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم". ولذلك أتى لنا بقصة البقرة، كلما سألوا كلما شدد عليهم، كلما سألوا كلما شدد عليهم. كثير من الناس يبحث في أمور عجيبة غريبة، كلها موجودة لأن الفقه الإسلامي أجاب. على كل تلك الأسئلة من الكتاب والسنة ولكن الله لم يكلفك بكل هذا. الله يريد منك أن تتعلم ما تحسن به العبادة بينك وبينه وما تحسن به العمارة لذلك الكون وما تحسن به التزكية،
ولكن هذا التفتيش والأسئلة الكثيرة في الحقيقة إنها غير مناسبة. الأمر الثالث هو محور الاستخلاف في... الأرض إني جاعل في الأرض خليفة فيجب عليك أن تعرف من أنت، إنك خليفة الله سبحانه وتعالى في أرضه، وهنا أسجد الله لك الملائكة سواء كان السجود معناه سجود الحس تحية واحتراماً وتعظيماً وإجلالاً، أو كان السجود بمعنى هذه المعاني التي هي التحية والإكرام وغير ذلك إلى آخره، فإذاً الاستخلاف قضية. ومحور يجب عليك أن تتأكد منه في سورة البقرة الجزء
الأول من سورة البقرة فيه هذه المحاور فيه "اتركوني ما تركتكم" الذي هو عدم كثرة "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة تردادهم على أنبيائهم" "اتركوني ما تركتكم" حتى لا يزيد التكليف فتزيد المشقة لأن النبي عندما أُرسِل أُرسِل رحمةً للعالمين. إنما بعثت بالحنيفية السمحة، فقضية المساواة وأصل الخلق وقضية الاستخلاف مع قضية التعامل مع الدين التعامل الصحيح هي محاور هذه السورة. فالجزء الأول يضم غرض وهدف خلق
الله سبحانه وتعالى لهذا العالم، وهو أمر مهم عندما افتقده الشباب بدؤوا في الضياع والأسئلة الساذجة، لكن عندما يرى الإنسان نفسه أنه له غرض في هذه الحياة الدنيا وأن له هدف وأن هذا الهدف يكمل بالطاعة وأن هناك يوماً آخر نرجع فيه، فكان هذا إيماناً بالغيب. الإيمان بالغيب اختل عند كثير من الشباب، يريد أن يؤمن بالمحسوس فقط، وهذا أمر مخالف للخلقة، مخالف للفطرة، مخالف لسعادة الإنسان، ومن أجل هذا يشعر بهذه المتاهة. التي يعيش فيها. إذا
كانت معنا هذه المحاور، نريد أن نستمع إليها جيداً أثناء قراءتنا أو استماعنا لهذا الجزء الأول من كتاب الله. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.