القرآن العظيم | حـ 3 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع برنامجكم "القرآن العظيم" نحييكم بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. واليوم نبحث عن محاور الجزء الثالث من القرآن الكريم. أول هذه المحاور سنجدها في هذا الجزء هو أن دين الله واحد
وأن الله سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل أن يجعل توجيهاً للعباد فيما يرضيه حتى يحقق عبادته "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ويحقق عمارة الأكوان ويحقق تزكية النفس التي بها الحساب "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" "وإنك لعلى خلق عظيم" يقول ربنا سبحانه وتعالى في الإشارة إلى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ كَشَأْنِ سَيِّدِنَا مُوسَى وَشَأْنِ سَيِّدِنَا بَعْدَ ذَلِكَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد إذا دين الله واحد وهذا هو إيمان المسلم يؤمن بموسى ويؤمن بعيسى ويؤمن بإبراهيم ويؤمن بنوح وبسائر الرسل الكرام والإيمان بكل رسول ممن ذُكر وعُرف لنا أنه قد أُرسل ركن من أركان الإيمان أن
تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله فهو ركن من أركان الإيمان لا يقبل إيمان المسلم إلا به. إذاً دين الله واحد، أمرهم جميعاً بتوحيد الإله، أمرهم جميعاً بالخروج من الحول والقوة إلى قوة الله وحوله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، تُنزَم من كنوز العرش. أمر الرسل الكرام حتى يأمروا أقوامهم بالتكليف: افعل ولا تفعل. وأمرهم باعتقاد يوم آخر سنعود فيه إلى الله سبحانه وتعالى فينبئنا بما كنا فيه نختلف وينبئنا بالحساب والثواب والعقاب،
ولذلك الدنيا متعلقة بهذه الآخرة وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون. المحور الثاني هو حرية العقيدة، الله سبحانه وتعالى ترك لنا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر لأنه لا يريد منافقين أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، وهنا يعطي هذه الحقيقة الكبرى في سيدة آيات القرآن الكريم آية الكرسي التي هي على رأس كل الآيات، الآيات التي عندنا برواية حفص عن عاصم ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين. هذه واقفة فوقهم هكذا، الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات
وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا لا يُرهقه حفظهما، أي لا يُتعبه حفظهما، لأنه يقول للشيء كن فيكون، ولا يُرهقه حفظهما وهو العلي العظيم. لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم. إذاً هنا توجد حرية العقيدة واضحة نصاً ليس فيها. أي مجادلة ولا محاورة لأننا لا نريد أن نُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين، ومن هنا
بيَّن لنا ربنا سبحانه وتعالى أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، ولم يجعله علينا حفيظًا، ولست عليهم بمسيطر، إلى آخر ما هنالك من نصوص تبين بوضوح قضية محورية وهي حرية. العقيدة ثم يبين لنا الله سبحانه وتعالى في محور ثالث أن هناك صلة مستمرة بين العبد وربه تتمثل في الدعاء. والنبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عند الأربعة يقول: "الدعاء هو العبادة"، لكنه في حديث آخر يقول: "الدعاء مخ العبادة". السند لحديث "الدعاء هو العبادة" أقوى من حديث "الدعاء مخ العبادة"
هو العبادة، يعني كأنه كما قال "الحج عرفة"، يعني لا يجوز الحج بدون عرفة، يعني عرفة هي الركن الأهم في هذه القضية. فكذلك الدعاء هو العبادة، يعني لو نعبد ربنا من غير دعاء لا يكون ذلك مناسباً. فنرى وهو يقول: "آمن الرسول بما أنزل إليه من" آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، كله واضح معنا، لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا. ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. إذا، هذا المحور تنتهي به سورة البقرة لكن لا ينتهي به الجزء، محور فيه كيفية التعامل مع الله سبحانه وتعالى. عن طريق هذه الصلة وذلك الدعاء
الذي هو العبادة، نجد أن القرآن الكريم يجعل المحور هو أن الله سبحانه وتعالى جعل الطاعة أساساً للعلاقة، كما في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون" يعني... الكافر هو من ستر قلبه عن الاتصال بالله
سبحانه وتعالى، فهذا الذي ستر قلبه لا يرى أن ينفق. وينفق لماذا؟ المؤمن ينفق رجاء الثواب وتصديق الموعود، فينفق وهو يرجو من الله سبحانه وتعالى أن يضاعف له الثواب وأن ينفذ له ما وعده. ولذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى: مثل الذين ينفقون. أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء، إنهم سبعمائة، سبعة في مائة، بسبعمائة، والله يضاعف لمن يشاء. من الذي قال لك أنها سبعمائة فقط؟ دعها تكون سبعة آلاف، دعها تكون سبعة ملايين، جهد المقل ربنا.
يبارك فيك والله واسع عليم. ماذا يعني جهد المقل؟ يعني أنني إذا كان معي عشرة آلاف جنيه فتصدقت بخمسة آلاف منها، فأكون قد تصدقت بنصف ما معي، بنصف ما أستطيع. شخص معه مليون جنيه فتصدق بخمسين ألفاً، يعني كم مرة؟ عشر مرات ربما. هو يأخذ أجراً أكبر لأن معه أموال كثيرة. هذه الخمسين ألفاً تضربها في... عشرة تصبح بخمس مائة ألف حسنة ويسعد ويصبح مسروراً وكل شيء، وأما الخمسة فيضربها لي في مليون لأنني بذلت جهداً وأنا مقل ليس معي ما يكفي، لكنني متوكل على الله واثق فيما عند الله، فضّلت غيري علي فيما هو ضروري
لي، فتختلف في الثواب، فيعطيني مليوناً فتصبح خمسة ملايين أنا آخذها. خمسة ملايين وهو قد أنفق عشرة أضعافي يأخذ نصف مليون ولا يظلم ربك أحداً، وكل واحد مسرور. هو مسرور أنه أنفق خمسين ألفاً وأخذهم عشرة أضعاف، وأنا مسرور أن ربنا سبحانه وتعالى أعطاني على حكاية جهد المقل هذه، أي أن معه قليل وأعطاني، فإذا هذا يعني فتح من عند الله. الله سبحانه وتعالى ولا يظلم ربك أحداً، وعلى فكرة، كل واحد منا سيأخذ ثوابه عند الله سبحانه وتعالى، فلا يُغضب ذلك الآخرين، لن يُغضبهم لأنه كله مرضي وكله آخذ من سعة، والله واسع. لكن هذا المحور يعطينا أهمية
الإنفاق، أهمية الإنفاق هذه تعطي الإنسان طمأنينة، تعطي الإنسان قدرة على... الاستمرار ولكن أمرنا الله سبحانه وتعالى كما وضح لنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن النية يجب عليك أن تفعل هذا ابتغاء وجه الله وليس رياءً ولا نفاقاً ولا لمجدٍ تبنيه في الدنيا وسمعة، نحن نريد وجه الله حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، هذا واحد أيضاً. من الذين سيظلهم الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة ألف سنة حتى يتدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيشفع فينا فيصير خمسين خمس مائة سنة يعني على النصف بالضبط. هناك محور آخر وهو اتباع الرسول، إذ يجب أن يكون لدينا قدوة ومثال، "وكذلك جعلناكم". أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً يعني يراكم وترونه. فهنا يقول ربنا سبحانه وتعالى في ذلك الجزء: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. هذه "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه. فانتهوا. إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول". رسول الله هو الأسوة الحسنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثال الأتم الأكمل، ورسول الله هو القائد، ورسول الله هو الشهيد الذي يشهد على المؤمنين ويراه المؤمنون في كل حركاته وسكناته، ومن هنا أقامه الله. سبحانه وتعالى مثالًا تامًا، ومن هنا أيضًا تأتي خطورة أولئك الذين ينكرون سيرة رسول الله وينكرون سنة رسول الله. السنة ورد فيها نحو ستين ألف حديث، هذه الستون ألف حديث منها ألفا حديث في سائر الدين،
في البيع، وفي الشراء، وفي الزواج، وفي الطلاق، وفي العبادة، وفي المعاملات، وفي القضاء. وفي الشهادة إلى سائر الفقه والبقية في الأخلاق، فالذين ينكرون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون على حديثين أو ثلاثة لم يستطيعوا أن يفهموها، ولم يسألوا العلماء فيها، ويريدون أن يهدموا السنة كلها، ويضلّون الشباب ويقولون لهم: احذروا الحديث، ليس لنا شأن به، النبي صلى الله عليه وسلم قال. إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق. الثمانية وخمسون ألف حديث هذه، منها حديث صحيح، ومنها حديث حسن، ومنها أحاديث مقبولة وإن كانت ضعيفة لأنها قليلة الضعف، ومنها أحاديث ضعيفة، إنما كلها تدعو إلى مكارم الأخلاق وتربطها بالعقيدة. والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع
وهو يعلم. من لم يأمن. جاره بوائقه يعني المصائب التي يسببها، أي لا تؤذِ جارك. أكرم ضيفك. ما هذا؟ أكلها هكذا؟ كلها "لا تغضب ولك الجنة"، كلها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا يمكن أن نتغاضى عنها لأنها تحقق قوله تعالى هنا في الاتباع: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، تحقق هذه التبعية. وتحقق لنا برنامجاً يومياً في الذكر والفكر. الله سبحانه وتعالى يقول في هذا الشأن في الذكر والفكر: "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في
خلق السماوات والأرض"، الذكر والفكر. والذي ينكر السنة بهذه الكيفية هو في الحقيقة يريد أن ينكر القرآن لكن لا يستطيع أن يصرح فيأتي. للناس خطوة خطوة ودرجة درجة بأن ينكر من السنة ما يتصور هؤلاء الناس أنها فعلاً محل أخذ ورد أو محل اعتراض، ثم يجد هذا في القرآن فيكون سهلاً عليه أن يعترض لأنه لم يفهم. فخطورة إنكار السنة الحقيقية خطورة عظيمة جداً، ويجب علينا أن نتأمل كلام الإمام الشافعي وهو يقول. كل سنة وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلها
في القرآن الكريم لأنه كان يحفظ القرآن الكريم ويحفظ السنة النبوية الشريفة ويتأمل ويتدبر فيما بينهما من اتفاق أو من تعارض ظاهري ثم يحل هذا التعارض فيفهم أكثر وأعمق. عندما يتكلمون يتكلمون عن علم وليس عن نسق وهوى هكذا. انضبطت معي كما يقول بعضهم، إذاً فهذه محاور الجزء الثالث وهي بنا مع القرآن الكريم في رحلتنا لاستخراج بعض محاوره التي نتأمل فيها يومياً ونحن نتلو ونحن نسمع. إلى لقاء آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.