النماذج الأربعة للتعايش | خطبة الجمعة 8 مايو 2015 | أ.د. علي جمعة

النماذج الأربعة للتعايش | خطبة الجمعة 8 مايو 2015 | أ.د. علي جمعة - خطب الجمعة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ونبيه وصفيه وحبيبه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، فاللهم صل على سيدنا محمد في الأولين وصل على سيدنا محمد في الآخرين
وصل على سيدنا محمد في العالمين وصل على سيدنا محمد في كل وقت وحين وصل على سيدنا محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار وأتباعه الأبرار يا رب العالمين يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله
الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وإن خير الهدي هدي سيدنا رسول الله وإن شر الأمور محدثاتها فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار عباد الله، تركنا سيدنا صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها
كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، جعله الله سبحانه وتعالى أسوة حسنة للعالمين. قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. وقال: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، قال قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، قال وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا، قال أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، رسول الله صلى الله عليه وسلم التفت المسلمون إلى سيرته الشريفة وفرقوا بينها وبين السنة الحنيفة وجمعوا هذه السيرة وتلك السنة في السنة رتبوها ونقدوها وضبطوا ألفاظها وشرحوا معانيها لكنهم لم يغفلوا سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحفظوها وهي
مجموعة من المواقف والعلاقات وكيف تعامل صلى الله عليه وآله وسلم وهو في دار المشركين في مكة وقد اختلطت فيها عدة معان فهي مفيدة إسماعيل عليه السلام وبها البيت الحرام الذي هو رحلة المؤمنين والأنبياء عبر العصور ومقصد الأتقياء الأنقياء ومحل نظر الله سبحانه وتعالى وعنده يستجيب الله الدعاء ويغفر
الذنوب وعنده يحميه الله سبحانه وتعالى من كل عدوان ويعاقب من اعتدى عليه ويؤمن من دخله ولكن أهل مكة يشركون بالله والشرك إثم عظيم وذنب جليل ومصيبة دهياء لأنها تكر على مقصد الخالق بالبطلان ولأنها تقدح في التوحيد الذي هو أجل الحقائق في هذه الأكوان. عاش رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم في مكة فعلمنا كيف يعيش المسلم في دار تسب الله ورسوله وكيف يفرق هذا الفرق الدقيق بين العاصي والمعصية وبين المشرك وهو إنسان والشرك وبين عالم الأشياء وعالم الأشخاص والأحداث علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نعيش لو أننا خلقنا في مثل هذه الأجواء وتلك البيئة وكان هذا النموذج باقيا إلى يومنا هذا إلى يوم الدين نطلب منه
الهداية ونأخذ منه العبرة لأنه من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن كانت هناك بعض الأحاديث قد اكتنفها النسخ والتغيير فإن مواقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الموفق والمؤيد من ربه لا يكتنفها نسخ ولا تغيير فهو صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة المهداة وهو الأسوة الحسنة ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدما ضغط
عليه المشركون وعلى أصحابه من عذاب وتنكيل حتى أمر أصحابه أن يذهبوا إلى الحبشة فارين بدينهم طالبين الأمان، وقال إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد. يعلمنا أن العدل أساس الملك وأن هذا الملك النجاشي وإن كان على غير دين الإسلام إلا أنه عاقل عادل لا يظلم. عنده أحد والذي هو على هذه الهيئة يؤيده الله حتى مع عدم إسلامه وذهب الصحابة الكرام
وعاشوا في الحبشة ولم تكن بعد نظم الجنسية ومفاهيم الوطنية قد اتخذت مصطلحاتها وصارت في نهجها كما حدث بعد ذلك بقرون إلا أن الصحابة الكرام أصبحوا من مواطني هذه البلاد ومكثوا فيها وطالبوا مرارا من ملك الحبشة أن يجاهدوا معه العدو، وكان له ابن عم ينازعه الملك ويقوم عليه في مرات متكررة، وكان النجاشي لحين يعتبرهم ضيوفا
وأنه ليس من اللائق أن يحارب الضيف معه، إلى أن اعتبرهم مواطنين وأذن لهم في الحرب معه، وانتصر النجاشي بفضل عدله على ابن عمه دائما، والحمد لله. رب العالمين وكانوا إذا لم يحاربوا معه انتظروا النصر له وفرحوا به وهللوا وكبروا، عاشوا في الحبشة فعلمونا كيف نعيش في دول لا ترفضنا وتمنحنا الجنسية فيها ولا تؤذينا، غير أنها ليست من المسلمين ولا
تقيم معالم الإسلام ولا تعرف شيئا عن الشريعة، بل ولا تريدها، إلا أن العدل هو الأساس فيها فلا يظلم عندهم أحد، اشتد الضغط على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسافر إلى المدينة وفيها أخلاط من الناس، بها يهود على ثلاث قبائل وبها مشركون وبها قوم قد دخلوا الإسلام وبها مهاجرون من مكة، بدؤوا بمصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه حتى هاجر
تسعون أسرة من الصحابة الكرام إلى المدينة المنورة حتى حل بها رسول الله فنورها وشرفها صلى الله عليه وسلم، وجد فيها أخلاطا من الناس ليسوا على عقيدة واحدة ولا على رأي واحد، فجمعهم على صحيفة المدينة ونظر إلى المشترك بينهم وهو هذه المدينة وتلك الديار وأنه ينبغي عليهم أن يقوموا بواجباتها وأن حقوقها لنا ما لهم وعليهم ما لنا ونحن في ذلك سواء ووافق أهل المدينة كلهم من
المنافقين والمشركين والمسلمين واليهود أن يعيشوا سويا في كنف ديار هي وطنهم وفي كنف ديار هي بلادهم وفي كنف ديار هي دارهم وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إنشاء مؤسسة المسجد وكانت مؤسسة المسجد للعبادة وللقضاء وللتعليم ولترتيب الدفاع عن تلك البلاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع العالمين بنسق مفتوح فيستقبل وفد نجران ويناقشهم
فيصلون صلاتهم جهة المشرق في مسجده الشريف، ويدخل إليه المشرك كما يدخل إليه المنافق كما يدخل إليه المسلم التقي النقي فيقبل الجميع يدعو هذا المشرك إلى الله وهذا المنافق إلى التوبة وهذا العاصي إلى الاستقامة وهذا المسلم إلى التعلم وإلى مزيد من التقوى لله رب العالمين لم يتركوه صلى الله عليه وسلم وتكالبوا عليه المشركون في الجنوب في مكة واليهود في الشمال
في خيبر ومسيلمة الكذاب في المشرق وأرادوا أن يطبقوا عليه من الجهات كلها حتى يزيلوا هذه المدينة وتلك الدعوة وأرادوا القضاء على هذه الجماعة الكريمة الشريفة التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة فدافع عن نفسه ونبههم وأرسل إليهم رسالة أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا ويؤتوا الزكاة فمن فعل ذلك فقد عصم مني دمه وأجره
على الله لا يريد منا جزاء ولا شكورا ولا يريد إفسادا ولا فسادا بل ولا يريد دما يراق ويهراق إنما أراد أن يدافع عن دين الله أمام المعتدين ومن هنا دخلنا بعد صراع دام بدأه المشركون في بدر ثم في أحد ثم في الخندق وكلها في المدينة إلى أن دافع عن نفسه ونفض الغبار عن المدينة وعن أهلها ودخل في المرحلة الرابعة انتهت المدينة له قضى على اليهود بأحكام قضائية ما
زال العالم لم يصل إليها إلى يومنا هذا أتاهم وقال لهم اختاروا قاضيكم فاختاروا سعد بن معاذ وليس هناك متهم إلى الآن في كل نظم القانون في العالم يختار قاضيه، سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم العقول القانونية بتوفيق الله وبوحي الله. لم يكن صلى الله عليه وسلم مجرد عبقري بل كان عبقريا موحى إليه، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذكياء العالم فحسب بل كان من أذكياء العالم والمصطفى المختار من رب العالمين صلى الله عليه وسلم
وأوضح لهم أنني لن أصمت وسأدافع عن نفسي قال تعالى إنك ميت وإنهم ميتون وما عاقبتها إلا الشهادة في سبيل الله عاش حميدا صلى الله عليه وسلم ومات شهيدا هذه النماذج الأربعة كيف يعيش المسلم في ديار الكفر والشرك المحاربة للإسلام، وكيف يعيش في بلاد غير المسلمين ممن يرضون بالإسلام ويتركون المسلمين يعيشون، وكيف يعيشون في بلاد المواطنة حيث اختلط الناس وذهب كل واحد منهم بعقيدته، فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر، لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، إنك لا تهدي من أحببت. ولكن الله يهدي من يشاء لست عليهم بمسيطر ما على الرسول إلا البلاغ وما أرسلناك عليهم حفيظا والنموذج الرابع يستقل فيه المسلمون بالبلاد فيطبقون فيها الشرع الشريف كما يريدون لأنه لا يمكن أن تحكم الناس بما لا يريدون النماذج الأربعة تركها لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الشريفة
هداية ورحمة إلى يوم الدين فجاءت نابتة من أحداث الأسنان سفهاء الأحلام وأصبحت اللعبة في يد أعداء الإسلام وأصبحنا حيارى في عالم حائر بين أدعياء الإسلام وأعداء الإسلام فأدعياء الإسلام تركوا الأدوات واللغة والفهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقولون من كلام خير البرية لا يجاوز إيمانهم بلغ تراقيهم وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف لنا هذه المهزلة
التي نعيشها اليوم، أقوام لم يتعلموا وتصدروا قبل أن يتفقهوا وهاجموا الدين وكأنهم أنبياء بل وكأنهم أولياء، والله أعلم بما هنالك وما كان الله سبحانه وتعالى ليستدرجهم إلى ذلك إلا لما اطلع عليه وحده. على قلوبهم من دخل فرأيناهم في سنة ألف وتسعمائة وثمانين يهجمون على البيت الحرام ويقتلون الحجاج ويعطلون الطواف والسعي ويقتلون شر قتلة والحمد لله رب العالمين ورأيناهم وهم يخرجون على
المسلمين وعلى غير المسلمين لا يفرقون بين برهم وفاجرهم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول من خرج على أمتي وأمته النبي منها أمة الدعوة كل البشرية وأمة الإجابة وهم الذين آمنوا به من خرج على أمتي لا يفرق بين برها وفاجرها كنت خصيما له يوم القيامة أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء فافهموا عنه واستوعبوا ما قال ولا تأخذوا نصف الأمر وتكفروا فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، قال تعالى
"أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون" عباد الله اتقوا الله في أنفسكم واعقلوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرنا أنه عند ظهور هذه الفتن بالذات فإن الله يسلب عقول أهل هذا الزمان حتى يصبح الإنسان وكأنه يتلقى بدون تفكير أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا حاشاه ادعوا ربكم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه ملء والأرض وملء ما شئت من شيء يا رب العالمين، الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وعلى أهل بيته أهل الوفاء، وعلى الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن فاطمة عليها السلام، وعن الريحانتين الحسن والحسين، اللهم يا ربنا ارض وصل على نبيك وعلى صحابته الكرام
وعلى أتباعه بإحسان اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وجنبنا اتباعه، نور قلوبنا واغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسر أمورنا واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك يا رب العالمين، واجمعنا على الخير في الدنيا والآخرة، كن لنا ولا تكن علينا فارحم حينا وميتنا وحاضرنا وغائبنا، اشف مرضانا وارحم موتانا، رد غائبنا وانصر مظلومنا وفرج مكروبنا وسدد الدين عن المدينين وسهل الأمر على عبادك يا أرحم الراحمين. اللهم من أراد هذه
الأمة بسوء فخذه أخذ عزيز مقتدر. اللهم رد علينا القدس، اللهم رد علينا أرضنا واحم عرضنا، اللهم ألف بين قلوبنا وانزع الغل منها، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما وتفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تجعل فينا شقيا ولا محروما، اللهم احشرنا تحت لواء نبيك يوم القيامة واسقنا من يده الشريفة شربة ماء لا نظمأ بعدها أبدا، ثم أدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء همنا وحزننا ونور أبصارنا
وصدورنا، واجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا، علمنا منه ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وأقمنا بالحق وفي الحق وأقم الحق بنا يا رب، اجعل هذا البلد وسائر بلاد المسلمين سخاء ورخاء، دار عدل وإيمان وسلام وإسلام، اللهم وأمن وإحسان يا رب العالمين، اللهم اجز عنا النبي خير ما جازيت نبيا عن أمته، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، واجعل مكانه الفردوس الأعلى، وأعطه سؤله يوم القيامة، اللهم اجعلنا من أصحابه في الجنة يا رب العالمين، اللهم أقر عين نبيك بإصلاح حال أمته وصل
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء