انزلوا الناس منازلهم | مع حديث رسول الله | برنامج مجالس الطيبين موسم 2010 | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها السادة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحييكم بتحية الإسلام ونبدأ حلقة جديدة من مجالس طيبين في هذا الشهر الكريم، مستفيدين من سيرة رسول الله صلى الله. عليه وآله وسلم وكان في سيرته مواقف عدة يؤخذ منها بعض القواعد الاجتماعية التي بدأت تذوب في عصرنا الحاضر. هذه القواعد
منها الاهتمام بتكبير الكبير وبرحمة الصغير، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول فيما أخرجته السيدة عائشة: "أنزلوا الناس منازلهم". هذا التوجيه النبوي أخذ في الذوبان بين الناس لا ينزلون الناس منازلهم، لا يحترمون الكبير ولا يرحمون الصغير، وهذا أمر خطير في الاجتماع البشري يؤثر سلبًا على المجتمع وعلى الناس وعلى الحياة، بل وعلى القلوب التي ينظر
إليها الله سبحانه وتعالى. أمرنا بالرأفة وأمرنا بالرحمة وأمرنا بالعفو وأمرنا بالصفح، وأمرنا بمجموعة كبيرة من الأخلاق، منها: "لا تغضب ولك الجنة". وليس الشديد بالسرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه حين الغضب، لذلك كان احترام الكبير ورحمة الصغير من الأخلاق التي وصى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ومارسها ووضع لها القواعد: قواعد اللياقة وقواعد اللباقة وقواعد الأدب في التعاملات اليومية للإنسان
المسلم في حياته. معنا حديث عن عبد... الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وعنهما وأرضاهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا"، وفي رواية للإمام أحمد بن حنبل: "ويعرف لعالمنا حقه". رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نرحم الصغير وكرر قضية تكرارًا شديدًا، والرحمة شفقة في القلب تستدعي التجاوز والعفو والصفح وإخلاص
النصيحة وإخلاص التربية وإخلاص التوجيه لهذا الصغير. ولذلك نرى بسم الله الرحمن الرحيم، ونرى أول حديث يحدث به المحدثون ويعلمونه تلامذتهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم". مَن في السماء، وفي رواية يدعو لهم فيقول: "يرحمْكم مَن في السماء"، "يرحمُكم" بالسكون، "يرحمُكم" بالضمة. لمّا (عندما) يقول "يرحمْكم" جعل هذا سبباً لهذا، يعني إذا رحمتم مَن في الأرض فسوف يرحمكم مَن في السماء، وإذا لم ترحموا مَن في الأرض فسوف لا يرحمكم مَن في
السماء. بالسكون جواب شرط. إذا فعلتم هكذا فسيكون كذلك، وإذا لم تفعلوا فأنتم أحرار، لن تنالوا الرحمة إلا إذا رحمكم من في السماء. يعني توجيه "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". يا رب ارحمهم حتى توفقهم إلى رحمة من في الأرض. "ليس منا" كلمة شديدة، كلمة عظيمة جداً. عندما يقول "ليس منا، ليس منا"، يعني - لكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو واضح في شريعته وواضح في قرآن ربنا وواضح في سنة وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم - يهتم بالصفات. كلمة "ليس منا" ليس معناها أننا كفّرناه،
بل معناها أن من لم يفعل على غير طريقنا وسبيلنا، بمعنى أنه قد ارتكب صفات وتخلق ببعض الصفات التي ليست لنا. عندما ننقل هذا إلى الواقع سنرى أشياء كثيرة، عندما نساهم في إنشاء جمعيات لرعاية اليتيم، عندما نساهم في إنشاء جمعيات لرعاية أطفال الشوارع حتى ولو لم يكونوا من اليتامى، عندما نساهم في إنشاء دور للإيواء. لمن فقد أبويه بأي طريقة كانت، سواء كان مجهول النسب أو كان والداه
محبوسين أو الشخص الذي فقد أبويه بالموت، ونصنع هذا، فهذا من قبيل الرحمة. إذا ما تطورت هذه المؤسسات إلى فكرة الأسرة البديلة، فهذا تطبيق عملي لقضية أمرنا بها الدين وهي "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف أو ويعرف لكبيرنا شرفه تحويل المعاني إلى واقع ملموس، كان هو ديدن الصحابة كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. هناك مبادئ وهناك تنفيذ في الواقع لتلك المبادئ، تختلف باختلاف الأماكن، باختلاف الإمكانيات، باختلاف الزمان،
باختلاف حجم المشكلة، باختلاف الأشخاص، باختلاف القدرة على الفعل. إمكانياتنا قد لا تسمح لوجود. مدرِّبين كافين لهذه الملاجئ أو دور الأيتام أو ما شابه ذلك. فكرة الأسرة البديلة مثلاً فكرة تطبيقية لقضية رحمة الصغير، فكرة جميلة لأنها تنقل الطفل إلى أسرة حاضنة كفيلة، فيجد الأب ويجد الأم وقد يجد الأخ وقد يجد الأخت ويجد الانتماء.
التربية في ظل أسرة حاضنة ليست كالتربية في ظل... مؤسسها لها نظامها ولها ضبطها ولها وكأنها معسكر لأن الطفل هنا لا يأخذ جرعة الحنان ولا جرعة الأمان المناسبة بإزاء ما يأخذه في الأسرة الحاضنة، بل إنه قد يكون متأثراً بهذا الجو، جو المعسكر. هذا الجو قد يكون جواً غير مناسب للتربية ومهما بذلنا من مجهودات وأموال ومهما بذلنا من تدريب لكفاءات الإدارة
والمختصين الاجتماعيين والمختصين النفسيين، فإن الأمر لا يعدُّ توفير حالة مادية هي أحسن من الضياع وأحسن من أن يذهب هذا الولد إلى الشارع قطعاً، ولكن هناك ما هو أفضل منها وأعلى وأبرّ وأحسن عند الله سبحانه وتعالى، وهو فكرة الأسرة البديلة، ومن هنا يأتي الاجتهاد. الفقهاء في أحكام تتعلق بهذه الأسرة البديلة وفي أحكام تتعلق ببقاء الولد أو البنت وهو ليس من هذه الأسرة، ينبغي علينا أن نجعل هناك اجتهادات جديدة تتناسب مع راحة هذا الأمر
وتنفيذ هذا الأمر النبوي في المجتمع. ينبغي علينا أن نفكر بهذه الطريقة حتى نحول القيم إلى واقع وسلوك معيش. هذا في رحمة الصغير فماذا عن احترام الكبير؟ هذا ما سوف نتحدث عنه في حلقة قادمة إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.