برنامج مع رسول الله | الحلقة الخامسة عشر | الإيثار على النفس | أ. د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن ابن مسعود رضي الله تعالى. عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها
ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها". قالوا: "يا رسول الله، فما تأمرنا؟" قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم". صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ومسلم. ستكون بعدي أثرة يعني الأنانية، ولذلك في حديث آخر يقول. إذا رأيتم هوىً مُتَّبَعاً وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيِه
وشُحّاً مُطاعاً ودنيا مُؤثَرَة، فعليك بخاصَّةِ نفسِك ودَعْ عنك أمرَ العامَّة. هذا هو معنى الأثر. سترون من بعدي أثراً بعد أثر، يعني أنانية. هذه الأنانية استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيلها من قلوب الصحابة، وكان هذا من حُسنِ تربيته. لأصحابه. فمما تميزت به الصحابة أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. كانت هناك قصة تسمى قصة الصادي والصادي يعني العطشان، وذلك
أنهم كانوا في الجهاد في معركة من المعارك، وكانوا تسعة فطلب أحدهم وهو جريح - التسعة كانوا جرحى هكذا بجانب بعضهم - ماءً. كانت المياه قليلة شحيحة، فجلب له شيئاً. مثل القربة الصغيرة، فعندما أخذها بيده هذا الصحابي الكريم وجد من بجواره يقول إنه يريد ماء، فحرم نفسه منها وأعطاها له. فهذا الصحابي قال وهو ممسك بالماء، من بجواره قال: "أريد ماء"، فأعطاها له
وآثر صاحبه على نفسه، وظل الماء يدور حتى وصل إلى الأول مرة ثانية، تسعة كلهم. يُؤثِرون أصحابهم على أنفسهم، فمات الصاضي هذا، ومات، وعائلة الصاضي هذه موجودة كبيرة، تجدها متشعبة، ومنها من هو في مصر. عندما تسمع كلمة الصاضي تعرف أنهم أولاد هذا الصحابي الذي لف الماء عليهم هكذا. وكان منهم أحد شيوخنا وهو الشيخ أحمد منير الصاضي، كان من أبناء هذه العائلة. ما يُستفادُ
من هذه القصة أنه ضحّى بنفسه لأجل شربة ماء لغيره. هكذا كانت صحابة رسول الله، هكذا كانوا متّحدين ومجتمعين، ولذلك فازوا ونجحوا وبنوا أمة وحضارة، حتى قال أحد المستشرقين: "حُفاةٌ عُراةٌ خرجوا ليغزوا العالم". لم يكن معهم أموالٌ ولم يكونوا أغنياء، لكنهم كانوا أصحاب همّة، وهذا يُحدِث فرقاً كبيراً. جداً في إقرار الحق ومقاومة الباطل. إنسان فعلاً نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعون الله في بنائه نفسياً. إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها. أليس هذا ما رأيناه في عهد رسول الله؟ أليس هذا ما حدث عندما جاءت امرأة إلى عائشة تسألها
ومعها ابنتان فلم تجد عائشة عندها إلا تمرة وكانت تجلس [ترى] الهلال والهلال والهلال والهلال، يعني شهر، ترى الهلال [ثم] ترى الهلال، يعني الشهر يأتي شهرين ثلاثة وهم ليس عندهم إلا الماء والتمر. تخيل إذاً بيتاً يعيش بالماء والتمر، بيت من هذا؟ إنه بيت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، بيت زعيم الأمة، بيت قائد المسلمين، قائد... فعلى قائد عنده جيش منتصر، قائد ديانته انتشرت في الأرض فيما زُوي له - صلى الله عليه وسلم - من الأرض من طنجة إلى جاكرتا، من غانا إلى فرغانة. قال ما يوجد في بيتهم إلا قليل
من الماء وقليل من التمر، وأيضاً التمر قد انتهى، فأعطت للبنت كما ذكرنا في حلقة سابقة للسيدة، فالسيدة... قسّمت التمرة، تمر المدينة، فأحياناً يكون صغيراً هكذا وأحياناً يكون كبيراً ويسمونه العنبري، فقسّمتها قطعتين هكذا، فأعطت هذه واحدة وهذه واحدة، وهي صبرت على هذا. إن هذه نفوس تُبنى، وهو بناء صعب ولكنه بناء مؤثر. بعد ذلك قال: عندما وضعنا رسول الله انكسرت قلوبنا، أليس هذا هو ما كان يحدث على... في عصر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، طبعاً وجود سيدنا رسول الله يُعد أمراً مختلفاً تماماً، فهو أنوار وأسرار ووحي وسماء متصلة. "كيف تكفرون وأنا فيكم؟" لكن هناك نموذج بشري
ممكن، وهذا دائماً ما سنقترب منه ونبتعد عنه، نقترب منه ونبتعد عنه. ولكن بقدر ما نقترب، سننال خير الحياة الدنيا قبل الآخرة، وبقدر ما... نبتعد فلا نتعب، ولذلك ما أمرنا. انظر إلى ما لا نفعله، قال: "تؤدون الحق الذي عليكم". إذا كان لأحد دين في ذمتك فأعطه إياه. وماذا عن الدين الذي في ذمته هو لك؟ قال: "وتسألون الله الذي لكم"، يعني عندما يكون لك دين عند أحد، تقول: "يا رب اجعله يسدده، يا رب وفقه". حسناً، فليتوكلوا عليه، الأمر لله، وماذا سأفعل؟ علي الصبر إذن. يعني إذا لم أذهب بالسلاح، ولن أقتله، ولن أنهبه، ولن أسرقه، ولن... كل هذا الكلام خطأ، وإنما سأتوجه إلى
الله سبحانه وتعالى. فبعض الناس يقول لك: لماذا هكذا؟ يعني الله، ومن لم يكن، ومن لم يدافع عن... من لم يحمِ حوضه بسلاحه يُهدم، ومن لم يظلم الناس يُظلمونه. أتعرف من الذي قال هذا؟ إنه زهير بن أبي سلمى الجاهلي. هذا كلام الجاهليين، لكن كلام النبي عليه الصلاة والسلام، الذي أخرج هؤلاء الجاهليين من جهالتهم إلى نور الإسلام، يقول: "أدوا الحق الذي عليكم واسألوا الله الذي لكم بعد". يرى الناس أن هذا نوعٌ من أنواع الضعف، ولكنه ليس نوعاً من أنواع الضعف، بل هذا هو عين القوة. اللهم اجعلنا أقوياء، فالمؤمن القوي خيرٌ وأحب عند الله من المؤمن الضعيف. إلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.