تعرف على التفكيرالبدهي والتفكير العلمي مع د. علي جمعة #6 | درجات المعرفة

بفرنسا تحية لكم مشاهدينا الكرام، ونستكمل هذه الحلقات واللقاءات الطيبة مع فضيلة العالم الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة، لكي نتعلم من فضيلته كيف نفكر، وكيف أن للمعرفة درجات، وكيف يمكن للإنسان أن يتمتع بعقلية فارقة وعقلية تستطيع أن تستوعب أمور الدين وأمور الدنيا في آنٍ واحد. في الحلقة السابقة توقف... فضيلته
عند عدد من أنماط التفكير: هناك التفكير السطحي، والتفكير العميق، ثم التفكير المستنير. واليوم نستكمل مع فضيلته باقي الأنواع أو أنماط التفكير. في البداية أرحب بفضيلة العالم الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة. أهلاً بمولانا، أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً بحضرتك مولانا، بعد أنماط التفكير الثلاثة الأولى التي تحدثت فيها فضيلتك. سابقاً، هل هناك أنماط أخرى للتفكير تود أن تبينها لنا أو توضحها لنا؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. تكلمنا عن قضية الفكرة فالمفهوم شعور الأعماق، وتكلمنا عن التفكير السطحي والتفكير العميق والتفكير المستنير، وكل ذلك من أجل أن نتحدث عن كيفية تغيير السلوك، فنحن أمامنا كما ذكرنا أيضاً في حلقة سابقة أن القلب
يعلو العقل والعقل يعلو السلوك. والقضية هي كيف نغير هذا السلوك؟ السلوك مبني إما على فكرة وإما على مفهوم وإما على شعور. في أعماق السلوك نستطيع أن نغير هذه الأشياء بواسطة التفكير السطحي الذي يعرف الظاهر. دون البحث عن واقع نفس الأشياء ونفس الأمر، وإما أن يتم عن طريق التفكير العميق، وإما أن يتم عن طريق التفكير المستنير، ولكلٍ درجاته ولكلٍ أوضاعه التي تؤدي في النهاية إلى تصحيح الفكرة أو تصحيح المفهوم أو تصحيح شعور الأعماق الذي سيؤدي إلى تصحيح السلوك. إذاً نحن نتعامل... مع شبكة متكاملة فيها القلب فيها العقل فيها السلوك فيها التفكير السطحي والعميق والمستنير
فيها الفكرة والمفهوم وشعور الأعماق وكل ذلك في النهاية من أجل العمل، هذا السلوك سوف نراه يتجلى في العبادة ويتجلى في عمارة الأرض ويتجلى في تزكية النفس. والسلوك هو فعل البشر وقد يكون هذا الفعل بالأبدان وقد يكون بالجنان وقد يكون بالأذهان، فالذي هو بالأذهان هي مجموعة من الأفكار والعقائد، والذي هو بالجنان هو مجموعة من العلوم المستقرة، والذي هو بالأبدان هو حركات مثل هذه الحركات. يقول العمل بالأركان مثل الصلاة والصيام والحج وهكذا، يعني الجسم نفسه معتاد على أن يعمل هذا. في النهاية
سنرى أنفسنا أمام... قضية التكليف هذا التكليف الذي كلفنا الله به افعل ولا تفعل فمثل هذه الخريطة كان لا بد من رسمها أولاً حتى إذا ما جاءت أنواع التفكير الأخرى أو أنواع ودرجات التفكير الأخرى استطعنا أن نسكنها في هذه الخريطة ونعرف مبتغاها في نهاية الأمر. أمامنا أنواع من التفكير مثلاً واحد يقول هناك تفكير بدهي: كلمة "البديهة" في اللغة العربية على وزن "فعيلة"، والنسبة إليها "فعلي"، فتقول مثلاً: مدينة - مدني، بديهة - بدهي، وليس "بديهي". شاع استخدامه
منذ القرن الثاني والثالث من الهجرة، وبعد عصور الاحتجاج اللغوي "بدهي". ولذلك عندما نشأ مجمع اللغة العربية في القاهرة، وكان أحد أعضائه أنستاس ماري الكرملي العراقي، عمل... بحثت في هذه القصة وجمعت من كلام الأولين أكثر من مائة من مائة وستة عشر موضعاً عمل فيه أمثال الجاحظ، لكن هذا الجاحظ من القرن الثالث الهجري استعملوا فيه بديهي طبيعي وما إلى ذلك، فهي مستعملة منذ قديم الزمان: بديهي وطبيعي وغريزي، أتفهم؟ ولكنها ليست على قياس اللغة: بدهي، بدهي. بديهي مدني تظنها بمدينة مدني بديهة بديهي طبيعة طبيعي غريزة
غريزي وقس على هذا. طبعاً هذا قد يكون غريباً على بعض الناس أنه تعوّد على حكاية الطبيعي، الأمر الطبيعي أو الأمر وهكذا. يعني ماذا تفكير بديهي أو بديهي؟ لأن "بديهي" هذه لا، هو بديهي. حسناً، ما معنى تفكير بديهي؟ التفكير... البَدَهي يرجعنا إلى البديهيات. حسناً، ما هي البديهيات؟ هي المعلومات الأولى التي لا يختلف عليها اثنان ولا يتناطح فيها كبشان. يقولون هكذا: لا يختلف عليها اثنان ولا يتناطح فيها كبشان، أي أنه لا يوجد فيها خلاف. مثل ماذا هذه البديهيات؟ واحد زائد واحد يساوي اثنين. هل هناك أحد سيجادل في ذلك؟ هل واحد زائد واحد يساوي اثنين أم لا؟ هذه من البديهيات. السماء فوقنا والأرض
تحتنا من البديهيات. الكل أكبر من الجزء بالطبع. حتى يلج الجمل في سم الخياط، فالجمل أكبر من ثقب الإبرة. يعني هناك أشياء بديهية هكذا. وهذه البديهيات لا يختلف عليها اثنان، ليس هناك اثنان من العقلاء سيأتيان ليبحثا لك. في أن واحد زائد واحد سيساوي اثنين وليس غير ذلك إلا بنوع من أنواع المزاح، بنوع من أنواع الفكرة. يعني يقول لك: لا، ما هو الرجل والمرأة عندما يتزوجان يصبحان ثلاثة لأنهما سينجبان. نعم، هذه قضية أخرى، لكن دائماً البرتقالة زائد البرتقالة تساوي برتقالتين، وبرتقالتان زائد برتقالة أخرى. يساوي ثلاثة وهكذا، فهذه البدهيات التي يعني ما معناها أنه لا اختلاف عليها. حتى أن هذه البدهيات قد يكون لها أحوال لكنها ما زالت بدهيات، فالتفكير البدهي هو
التفكير الذي يوصلني إلى البدهيات. بعد ذلك لا أستطيع أن أقول لشخص: حسناً، أثبت لي أن واحداً زائد واحد يساوي اثنين. من ضمن هذه البدهيات أن مجموع زوايا المثلث مائة وثمانون درجة، وأحياناً يقال لك إنها تساوي قائمتين. هذا الكلام صحيح عندما يكون في مستقيمات وليس في منحنيات. يعني إذا كان في مستقيمات وليس على سطح كروي متكور مثل كرة الأرض، فنعم تكون مائة وثمانين درجة. هذه من البديهيات التي لا تحتاج إلى إثبات، حسناً، ولكن... سبحان الله عندما جاؤوا ليروا كرة الأرض وهي كرة، قسموها إلى ثلاثمائة وستين خطاً بالطول يُسمونها خطوط الطول. المرجع الخاص بها يقع في قرية بجوار لندن اسمها جرينتش. القاهرة تقع
على خط الطول رقم ثلاثين، والرياض على خط ستة وأربعين، وهكذا تستمر حتى تكمل الثلاثمائة خط. وستون درجة التي حول الأرض وقاموا برسم خط الاستواء خط عرض صفر واستمروا يرتفعون يرتفعون يرتفعون هكذا حتى أصبح هناك درجة تسعين ومن تحت تسعين تصبح هذه مائة وثمانين والناحية الأخرى ستأتي بمائة وثمانين أيضاً، هذه خطوط العرض، لكن إذا كانت خطوط الطول فلدينا ثلاثمائة وستون درجة وخطوط. العرض عندنا مائة وثمانون درجة، مائة وثمانون دائرة لخطوط العرض. عندما وُجِدَت هذه الخطوط، ماذا تفعل؟ تقوم بعمل تقاطعات بينها. خطوط الطول وخطوط العرض ستعمل تقاطعات. فتأتي بمدينة
هنا في أوروبا، وتنزل هكذا على إفريقيا، وتنزل هكذا وتعمل لك مثلثاً، فتجد أن هنا قائمة هذا المثلث. هناك قائمة تعادل تسعين درجة، والقائمة الثانية أيضاً تساوي تسعين درجة، والثالثة نجدها تسعين درجة أيضاً. فتسعين وتسعين وتسعين كم تساوي؟ مائتان وسبعون. كيف ذلك؟ لقد اعتبرنا هذا من البديهيات. قال إن ذلك لأنه مرسوم على السطح وليس على الكرة، وبما أنه مرسوم على الكرة فلم يعد هناك خط مستقيم. هناك منحنى فيذهبون ويقولون نعم، إذن يجب أن يكون لكل شيء شروطه لكي يصبح من البديهيات. فالتفكير البديهي معناه أنك تصل إلى ما
لا نزاع فيه بشروطه. ها قد أضفنا كلمة "بشروطه" هنا من أجل هذه المسألة، لأن ليس كل مثلث يا عزيزي زواياه مائة وثمانون درجة، فهناك مثلثات بمائتي درجة. وسبعين درجة تماماً، فيكون البديهي بشروطه، بشروطه، بالشروط الخاصة به، بشروطه، هل انتبهت؟ كيف؟ أقول لك: حتى يلج الجمل في سم الخياط، مستحيل. قال: إذا تحول الجمل إلى فتلة، نعم، الفتلة تدخل في سم الخياط، أو يتحول ثقب الإبرة إلى بوابة زويلة، هكذا، بوابة كبيرة، لأن هناك إبرة كبيرة جداً، نعم. عندما يدخل الجمل في ثقب الإبرة، ولكن متى يستحيل دخول الجمل في ثقب الإبرة؟ عندما يكون الجمل على حاله. انظر، عندما - وهذه تعني الشرط - أي بشرط أن يكون الجمل
على حاله والثقب على حاله، بشرط أن يكون الجمل جملاً والإبرة إبرة. والإبرة إبرة تماماً. هذا هو الشرط في البديهيات. مشروطة مشروطة بشروطها بشروطها، يعني إذا كان التفكير البدهي هو تفكير معتبر وتفكير يؤدي لنا في سلسلة الأسئلة الممتدة "لماذا، لماذا، لماذا، لماذا" إلى البدهيات. دائماً كان الفقهاء مهتمين بهذه المسألة وأن يصلوا بالدليل والبرهان إلى البدهيات، ليس لأنتصر، بل لأقنع الخصم ولكي يصل كلامي إليه من غير. نزاع إلى هذا الحد من إرادة الهداية أو الإخلاص في التبليغ الحاجة ينبغي علينا أن نتخذه تنفيذاً لقوله تعالى: "قل هاتوا
برهانكم إن كنتم صادقين". التفكير البدهي الذي هو التفكير الذي يوصلني إلى البدهيات، هل سأعتبره سطحياً أم سأعتبره عميقاً؟ سيكون عميقاً، سيكون تفكيراً عميقاً، سيكون تفكيراً عميقاً، نعم فإن... كان الأمر متعلقاً بفهم الشريعة أو بالله سبحانه وتعالى والإيمان به وتوحيده ومعرفته والقلوب الضارعة، يكون مستنيراً، يكون حينئذٍ سيكون هذا التفكير مستنيراً. حسناً، وإذا كانت هذه البدهيات - ونحن نشرح بدهيات الصف الأول الابتدائي - ماذا تعني أن تكون تفكيراً سطحياً، فإذاً التفكير البدهي سوف يسري في أنواع التفكير التي استقرت عندنا فكرة سريان الماء في الورد. انظر إلى كلامهم القديم هكذا، يقولون لك: "سريان الماء في الورد"، شيء يجلب لك
شيئاً جميلاً هكذا، وشيئاً تشمه فتجده جميلاً. حسناً، أين المياه التي في الورد؟ في كل مكان، في كل أنسجته، في نفس الغصن، في نفس الأوراق، كلها فيها مياه. حسناً. والدليل على أن هذه الوردة تحتوي على ماء هو أنني لو عصرتها بطريقة معينة سينزل ماء الورد، أليس هذا ما يسمونه ماء الورد؟ ماء الورد هذا عبارة عن عصير الورد، وكانوا قديماً يصنعون منه المربى والشراب وأشياء أخرى لا أعرفها من ماء الورد هذا، وهناك شيء يسمى... مورد وواحد يقول الموردي حارة الموردي، ما هذا الموردي؟ يعني يبيع ماء الورد لكي يضعوه في القلل التي كانوا يشربون فيها قديماً، داهية! يقوم بجعل المياه لها طعم ولها شيء آخر. إذن إذا كان التفكير البديهي هو التفكير الذي يصل بي وبك
إلى البديهيات بشروطها سواء كان سطحياً أو عميقاً أو مستنيراً. نعم بارك الله فيكم مولانا، وأستأذن حضرتك وأستأذن حضراتكم أن نخرج لفاصل، وبعد الفاصل سنذهب لنرى نمطاً آخر ونوعاً آخر من أنواع وأنماط التفكير. ابقوا معنا. أهلاً بحضراتكم مرة أخرى مشاهدينا. مولانا، لقد توقفنا عند أربعة أنواع من أنماط التفكير: السطحي، والعميق، والمستنير، ثم التفكير البدهي. أريد أن نقول... أنهم ثلاثة وأن التفكير البدهي هذا سيكون سارياً فيها، لكن في الثلاثة هو وغيره. نعم، سيكون كأننا... آه، التقسيم الأساسي لدينا هو السطحي والعميق والمستنير، ثم سنرى
أنواعاً مختلفة من جهات مختلفة من أنواع التفكير. يعني مثلاً، لأضرب لك مثالاً آخر الذي هو يقول لك التفكير العلمي، التفكير... العلمي هذه كلمة حديثة وصلتنا بعدما كان لدى الإنجليز شيء أسموه هناك "العلم" (Science). هذا المصطلح "Science" أطلقوه على التجريب والتجارب. وقالوا إن التفكير العلمي منذ عهد روجر بيكون يعني الملاحظة فالتجربة فالملاحظة فالاستنتاج، وأنه لا بد حتى يدخل الأمر في نطاق العلم. يشترط في العلم أن يكون قابلاً للتجريب،
حسناً، لنفترض أنه غير قابل للتجريب، فلن يكون علمياً، لن يكون علماً، إنه ليس علمياً، فسيكون شيئاً آخر، أليس كذلك؟ وهنا بدأوا أنه... ولذلك عندما أردنا الترجمة للأسف لم يكن لدينا الوعي الكافي في الترجمة بحيث نختار أو نبحث عن المقابل الدقيق. لكلمة "ساينس" ترجمناها "علم" وفات من هذا القبيل علينا مفاهيم كثيرة في الفلسفة وفي الطبيعة وفي التعامل مع الحياة لدرجة أننا أصبحنا نتكلم لغتين مختلفتين. الذي تعلم في الأزهر عنده العلم هو القدر اليقيني من المعرفة وليس التجريب فقط، لأن كل مجال له قواعده وله منهجه ولذلك.
الثاني يقول له: "هوان، أنت هذا علم؟" فيقول له: "نعم، هذا علم". فيقول: "لا، هذا ليس علماً". وهذه هي القضية السارية في المجتمع حالياً: هل الدين علم أم ليس علماً؟ مثلاً، وقد تحدثنا فيها قبل ذلك طبعاً. الدين والتدين، وأنه لا، هذا التدين هو سلوك، لكن الدين هذا... علم خلاف بدأ يحدث في هذا، نشأ مع ترجمة القرن التاسع عشر عندما جاء أولادنا في البعثات العلمية وأرادوا أن يصنعوا هذا الجسر ما بين ثقافتنا والثقافة الغربية، فدخلت بعض المصطلحات وحدث ما يسمى باختلال واحتلال المفاهيم، مفهوم المصطلح احتُل وأصبحت كلمة العلم التي هي الإدراك الجازم المطابق.
للواقع الناشئ عن دليل هذا في كتبي القديمة التي تربيت عليها، أصبح هو القدر المجرَّب الملاحَظ المستنتَج منه. حسناً، ولكن هذا لا يعطي يقيناً. فمثلاً، مسألة مثل مسألة الألوهية هي مسألة غير علمية لأن الله ليس تحت التجريب. نعم، وهكذا يحدث أزمة وقد فعل هذا بالفعل. هذا عندما جاءته كلمة التفكير العلمي جاءت بمعنى التجريب وانتشرت بمعنى التجريب، فإذا كان بهذا الذي هو "ساينس" (وأنا أريد دائماً أن أقول "ساينس" حتى لا نقول علوم كي لا نخلط مع المعنى الذي تحدث به المسلمون في حضارتهم وأقروه)، فما هو من بين أنواع التفكير الثلاثة المستقرة؟
نعم، هو كذلك. ما بين السطحي في الفيزياء التي تبدو سطحية في كثير من الأحيان، أو ستتطور قليلاً لتصبح عميقة، والكيمياء التي ستصبح عميقة - هل تلاحظ؟ - فالطب عندما يتضمن مجهراً وتحاليل وأشعة وغيرها، سيصبح عميقاً، وكل هذا العلم لن يوصلني إلى الاستنارة، لكن يمكنني تحويله إلى طريق للاستنارة عندما أعمل عليه مثل الطب الذي يكون محرابه الإيمان. الذي تحدثنا عنه مرة من قبل مثل أن العلم يدعو إلى الإيمان، هذا العلم (ساينس) يدعو إلى الإيمان. هل تدرك كيف؟ ليس العلم بالمعنى العربي الموروث في التراث الإسلامي، بل إن العلم الحديث نفسه سيجعلني، فقط باستخدام الرياضيات العليا وباستخدام
قضية الاحتمالات، أرى بوضوح شديد أنه لا بد أن يكون لهذا الكون إله وأن... يكون متصفاً بالصفات العُلى والأسماء الحسنى سبحانه وتعالى، داخل لمرحلة الفكر المستنير. المستنير سيدخل هكذا بقدر المستنير، فيصبح إذاً لا يفهمني أحد وأنا أقول أن العلم لا يؤدي في ذاته إلى الفكر المستنير، بل إنه يهيئ للفكر المستنير، يعني يحتاج درجة، لكنه في ذاته لا يوصل إليها. ليس بالضرورة أن يصل، ليس بالضرورة أن يصل، ولذلك ستجد رجلاً كبيراً جداً في هذا المجال وذاك المجال وفي مجالات أخرى، وليس لديه الفكر المستنير، وهو حجة في طب التجريب أو حجة في الكيمياء أو حجة في كيمياء الكم أو ميكانيكا الكم، ولكن في نفس الوقت لم يستعمل عقله من أجل الاستنباط ولم يُستعمل ولم يُرسل هذه المعلومات من
العقل إلى القلب حتى يشتغل، توقف عند هذا الحد. أهلاً وسهلاً، وهذا يكون تفكيراً إما سطحياً في بعض الأحيان في الملاحظات العادية، وإما أنه هو التفكير العلمي، وهي كلمة شاعت في ثقافتنا وفي أدبنا منذ القرن التاسع عشر. كان لدينا شخص شيخ عظيم اسمه الشيخ المرصفي، وقد لاحظ هذه المسألة. لاحظ أن هناك كلمات احتلت مكانة "كلمة حرية" طوال عمرها، بغض النظر عن الليبرالية، وبغض النظر عن "الفريدوم"، لكن الحرية في اللغة العربية كانت تُقال، أي ضد العبودية، يعني ضد الرق، وضد أن يكون المعنى أن يصبح رجلاً حراً أو امرأة حرة. أنه لم يقع عليه الرقة أو
أنه تحرر فذهبوا يأتون بهذه الكلمة ووضعوها أمام كلمة "فريدوم"، حسناً، ألا يعني "فريدوم" تحديداً هنا هكذا أي أنها حرية؟ وما معنى هذه الحرية؟ أو إلى ماذا تُترجم كلمة "فريدوم" هذه؟ مسألة الحكومة، "الحكومة" هذا لفظ فقهي عندنا لا علاقة له بالإدارة ولا دعوة بأن هناك حاجة للدولة وما إلى ذلك، هذه غرامة يدفعها الذي تسبب في الضرر. شخص جرح شخصاً آخر، وهذا الجرح لا نعرف كيف نقوّمه، فإما أن ندفع فيه مالاً أو ندفع فيه حكومة. تصوروا أن هذه الحكومة قد استنبطوها من الحُكم، فجعلوها أمام الحكومة (الجوفرمنت)، ما هذا؟ فتعجب
الشيخ. المرصفي من ذلك وألّف كتاباً ممتعاً في هذا الشأن أسماه "الكلم الثمان"، ثماني كلمات أقلقته وسببت له قلقاً، وقال: "ما هذا؟ لقد بدأنا هكذا، ستحدث فجوة". ثماني كلمات تغيرت. هذا الكلام كان في أواخر القرن التاسع عشر. أين الكلمات الثماني بعد ذلك؟ في سنة ثمانين أو شيء من هذا القبيل أو سبعين. طُبِعَتْ مرةً ثانيةً باعتبارها تُراثاً، لكننا انتبهنا إلى هذا وبدأنا نبحث. حسناً، هؤلاء كانوا ثماني كلمات في أواخر القرن التاسع عشر، فهل توجد كلمات أخرى؟ فوجدنا خمسمائة كلمة، خمسمائة كلمة لها نفس الموقف مع الحكومة والجفر، نعم، يعني فيها عندما نستخدمها بوضعية معينة.
لم تكن هي التي استعملت في الزمن الماضي. القضية أنه يجب أن نعرف، وليس ضرورياً، أي يمكن، ووجدنا أن جزءاً منها احتلال، وجزءاً منها اختلال، وجزءاً منها تلبيس، وهكذا. وبدأنا نبحث فيما وراء هذه المصطلحات إزاء تلك المفاهيم، ومتى حدثت هذه المسائل. جلسنا حوالي ثلاث أو أربع أو خمس سنوات ندرس. في هذا أنهينا حوالي عشرين مصطلحاً من الخمسمائة، فإذا كان هذا ما أنجزناه هنا، فهناك علامة استفهام تستدعي التوقف. حسناً، الخمسمائة تشمل أيضاً الثقافة والفكر والحضارة والعلم وهكذا، أي أن كلمات كثيرة بدأت تدخل. كانت من ضمن الكلمات
الثماني: المذهب، اختلف مذهب الشافعي مذهب. لا أعرف أي طريقة يقول لك طريقتي خلوتية أو طريقتي شاذلية، أصبح هذا الكلام لا. لقد انسحب وأصبحت الطريقة معناها الأسلوب، يعني إلى آخر ما هنالك من احتلال أو اختلال أو تلبيس للمفاهيم بإيذاء. نتحدث عن كل هذا لماذا؟ حتى لا تكون هناك قطيعة معرفية بيننا وبين تراثنا وما نهجه. الذي نستطيع أن نطبقه عليها أو نزيد فيها أو نحو ذلك يكون هو العلم. فكلمة "التفكير العلمي" كلمة حديثة، منها ما هو سطحي ومنها ما هو عميق، وتُضم إلى كلمة "التفكير البدهي" مثلاً. نعم، بارك الله فيكم
مولانا، شكراً جزيلاً لحضرتك. أهلاً وسهلاً، شكراً جزيلاً، وشكراً.