تعرف على العلم والعمل والعلاقة بينهما مع د. علي جمعة #11 | درجات المعرفة

تعرف على العلم والعمل والعلاقة بينهما مع د. علي جمعة #11 | درجات المعرفة - التفكير المستقيم, درجات المعرفة
أهلاً بكم. توقفنا بالأمس مع فضيلة الدكتور عند مصطلح ومفهوم النهضة، وأن هذا أمر مبني على العلم وعلى المعرفة. اليوم نبدأ من حيث انتهينا بالأمس، ونتعرف على العمل والمعرفة كعاملين ومدخلين رئيسيين لتحقيق النهضة في العالم الإسلامي. اسمحوا لي أن أرحب بفضيلة الإمام العالم الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة، أهلاً. بكم مولانا، أهلاً وسهلاً بفضيلتك مولانا. بالتأكيد أن النهضة تحتاج إلى علم وإلى عمل، ولكن هل يمكن أن نقول بأن أحدهما يبني الآخر، وربما يسبق أحدهما الآخر، بأنه قد يسبق العمل العلم أو يسبق العلم العمل؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه واللهِ هناك ما يسمى عند علماء الحضارة بمفهوم الدائرة، والدائرة حيثما وضعت يدك على
أي نقطة في محيطها فأنت في البداية والنهاية، ولذلك ليس هناك ترتيب خطي بمعنى الأول ثم الثاني ثم الثالث، بل هو من حيث بدأت حسب إمكاناتك وحسب ظروفك وحسب المتوفر لديك، ستبدأ في بناء أي نهضة. وسيكون ذلك مبدؤه العلم، مبدؤه العمل، مبدؤه الاثنان معاً. هذا لا يضر، هو يصر، نعم. عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المؤيد من ربه في حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، غيَّر وجه البشرية. ونحن ندرس في السيرة قطاعاً مهماً وهو دراسة ما كان حول رسول الله. صلى الله عليه وسلم. ما
الذي حدث في العالم في روما في مصر في الهند والصين في الجنوب اليمن الحبشة في الشام في فارس في العراق قبل النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بخمسين سنة؟ كيف كانت الأحوال؟ والذي حدث، هذا كلمة "الذي حدث" دعا واحداً من كبار الأثريين والجغرافيين. في العالم وهو أستاذنا حسين رحمه الله إلى أن يدرس المناخ قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم كعامل من عوامل إرسال النبي، وهذا معنى جديد أن يكون للمناخ دافع وتأثير يدعو الناس
للإيمان بالله سبحانه وتعالى، وكتب هذا في رسالته للدكتوراه التي كانت بالإنجليزية قبل أن تُترجم. أخيراً إلى اللغة العربية والتي حصل فيها على الدكتوراة من لندن، لكن على كل حال دراسة ما حول النبي، بمعنى دراسة المرحلة السابقة للنبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن نلتمس فيها ما الذي بُني وكيف بُني حتى يكون نموذجاً لبناء النهضة في أي وقت وفي أي زمان وفي اهتم بهذا أيضاً سليمان الندوي في كتابه الرائع هو وشبلي النعماني حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي تُرجم أخيراً إلى اللغة العربية في سبع مجلدات. هذا
المعنى - معنى الاهتمام بالمحيط - كيف كان هؤلاء الناس وكيف تغيروا وبماذا تغيروا، والذي نعرفه أن النبي صلى الله عليه وسلم غيَّر المفاهيم وغيَّر المصطلحات، ولذلك قلنا في حلقة سابقة قضية الوضع اللغوي والوضع الشرعي والوضع الاصطلاحي. بعد ذلك في بناء حضارة المسلمين، الأوضاع مختلفة، وهنا جعل الناس ليس فقط يتعلمون بل أيضاً يعملون. الذين آمنوا، وهذا نوع من أنواع العلم القلبي والتصديق واليقين، وعملوا الصالحات، وربط دائماً ربنا سبحانه وتعالى. بين الإيمان والعمل الصالح بحيث أنه لا يوجد في القرآن إيمان محض إلا
وهو مقرون بالعمل الصالح، فالعلم والعمل هما وجهان لعملة واحدة، ومن حيث بدأنا فإننا سنصل إلى الكمال في ما بدأنا فيه سواء من العلم أو من العمل عندما نتكلم في العلم على سبيل الكلام الأكاديمي. يقول لك هذا تقسيم أكاديمي، ماذا يعني تقسيم أكاديمي؟ يعني أنه ليس له في الواقع هذا الانفصال الحاد. عندما نتكلم عن التخطيط والتنظيم والإدارة والرقابة والمتابعة، كل هذا شيء واحد وليس أشياء مختلفة، لكننا ونحن ندرسه، شيئاً فشيئاً، فيسمونه التقسيم الأكاديمي. فهذا التقسيم ما بين العلم والعمل إنما هو للدراسة وليس تقسيماً للحياة. الحياة فيها تشابه قوي جداً بين قضية العلم وقضية العالم. نحن لا نريد
أن نتحدث بما لا نعرف، ولذلك لا بد من العلم. ولا نريد أن نؤسس أعمالنا على الجهالة. ومن هنا نرى هذا الملمح، وهو ملمح أن العلم والعمل معاً وجهان لعملة واحدة في الكلام. الفضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه وهو يقول: لا يقبل الله العمل إلا بالإخلاص والصواب، الإخلاص هذه مسألة قلبية، إنما الأعمال بالنيات، والصواب أن يكون موافقاً لما نويته ولما علمته ولما أخلصت فيه، إذاً فدائماً وجه العلم مع وجه العمل يمثلان العملة الواحدة في هذا المقام ويمثلان عنصر النهضة. المرجوة دائماً في عصرنا الحالي فضيلة الدكتور أو في الظروف التي نعيش فيها الآن، هل بالتالي ينطبق هذا القول على هذه الفترة التي نعيش فيها بأننا لا بد أن نبدأ من
العلم والعمل، أم أنه يمكن أن نقدم شيئاً على الآخر؟ بعضهم يقول نقدم العلم ونؤسس لمجتمع علمي على أسس. علمية صحيحة ثم بعد ذلك حينما يبدأ العمل يكون لدينا الأساس المنطقي لكي ننطلق نحو الحضارة. البدء بالعلم عمل، البدء بالعلم هو عمل في الأساس، نعم، فلا يمكن الفصل بينهما. يعني ما الذي نريده في مصر مثلاً على سبيل المثال؟ نريد أن نصل إلى مستوى رائق من العلم، وهذا عمل. ماذا سنبدأ به؟ نبدأ بالأركان الخمسة للتعليم، فنبدأ بإعداد المدرس، وبإعداد الطالب المتهيئ للنقلة النوعية، وبإعداد المناهج، وبإعداد الكتاب، وبإعداد الجو العلمي الذي يشمل الأنشطة، ويشمل الامتحانات، ويشمل الأبنية التعليمية. لدينا
في كل عنصر من هذه العناصر الخمسة مشاكل كثيرة، ولكن البدء في هذا هو بدء في العمل فنأتي لكل... واحدة منهم ونعيش معها كيف نغير فنجد أننا نحتاج إلى العلم والعمل وهما سوياً، فمثلاً المناهج، هذه، نحن عندنا قطاعات: قطاع المناهج المتعلقة بالرياضيات، قطاع المناهج المتعلقة بالعلوم، قطاع المناهج المتعلقة باللغات، قطاع المناهج المتعلقة بما يسمى العلوم الاجتماعية والإنسانية، قطاعات. لو ذهبنا إلى مثال واحد فقط وهو مثال. في الرياضيات نجد العجب العجاب، حيث إن المنهج المتاح لنا في العالم أمامنا في العلوم وفي الرياضيات وصل إلى نحو ستين
ألف اختيار، أي هناك ستون ألف منهج تستطيع أن تختار منها. وعندما بحثنا في هذا الجانب، في جانب العلوم والرياضيات، وجدنا أن هناك منهجين في غاية الروعة يكاد أن الذي يدرس في فنلندا والمنهج الذي يدرس في سنغافورة وتبدأ في المقارنة بينهما، هذا هو العلم. كل هذا لم نفعله بعد، لم يتم الاختيار بعد. وجدنا أن الحالة في فنلندا وجدت نفسها ناقصة فيما توصلت إليه في سنغافورة، فاستعارت منها هذه المادة التي تدعو الناس إلى التعايش حتى تضم. إلى المناهج في مجموعتها الرائعة العلوم
والرياضيات فضُمَّ إليها هذا، ووجدت سنغافورة نفسها أنها تحتاج إلى تطوير في جانب معين فأخذته من فنلندا، وأصبح أمامنا خياران يمكن البدء فيهما، وبدأ الناس في الترجمة إلى اللغة العربية لأن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، وهذا هو الذي يهمنا كنقطة في هذا البرنامج. درجات المعرفة أن اللغة والفكر دائماً لا ننسى أنهما وجهان لعملة واحدة؛ إذا صحت اللغة صح الفكر واستطعنا أن نبدع. إذا أصبحنا نتكلم بلغة لا نفهمها الفهم التام ولا نعيشها المعيشة التامة، ونفكر بلغة أخرى غير التي ننطق بها أو غير التي تربينا عليها، فلا حصلنا على هذا ولا حصلنا لا يمكن أن نبدأ، سيكون
لدينا شعور دائم بمحاولة التقليد، بمحاولة ماذا تقولون أيها أصحاب اللغة الأصلية الإنجليزية مثلاً؟ ماذا تقولون حتى نقلدكم وحتى نأخذ ونأكل من موائدكم؟ هل ترى أن هناك خطورة على العقلية العربية أو العقلية المسلمة، وخاصة المصرية التي فيها تعدد لروافد التعليم من؟ ثقافات ومن لغات متعددة، نحن لا نحارب أي تعلم للغات، ولكن لا بد أن تكون اللغة هي اللغة الثانية التي نترجم إليها ونترجم منها. لكن اليابان لم تستطع أن تنهض من كبوتها بعد الحرب العالمية الثانية وبعد القنابل الذرية التي ألقيت على هيروشيما وناجازاكي إلا بأن تتكلم باليابانية. هذا ليس
أن الشعب الياباني ينطق الإنجليزية ولا يعيش فيها، لكنه يترجم كل يوم آلاف الصفحات من سائر لغات العالم إلى اليابانية. ليس صحيحاً أن الصين في ثورتها الثقافية بما لها وما عليها وإخفاقاتها ونجاحاتها استطاعت أن تصل إلى هذا الذي وصلت إليه إلا باللغة الصينية. ألمانيا ما زالت تتكلم الألمانية، وفرنسا... يأبى الشخص أن يرد عليك باللغة الإنجليزية وهو يجيدها، وهكذا لا بد في بناء الحضارة من الاهتمام بلغة القوم حتى يستطيع الإبداع وحتى يستطيع التفكير وحتى يستطيع الانطلاق. أشكر فضيلتكم وحديثنا ما زال متواصلاً مع حضراتكم وفضيلة الدكتور، ولكن بعد الفاصل. ابقوا معنا. أهلاً بكم مرة أخرى مولانا في إطار العلم والمعرفة والوصول بهذا إلى النهضة المبتغاة بالنسبة لعالمنا
الإسلامي في هذه الآونة، هل ترى يا مولانا أن هناك صراعاً ما بين العلوم الشرعية والعلوم التقليدية أو العلوم المدنية؟ يعني هناك البعض يحاول أن يُدخل الأمة في هذه الأزمة بأنه لا نهضة إلا إذا نظرنا أو اتجهنا بالكلية نحو العلوم. المتعارف عليها الآن كالطب والهندسة والفضاء والتكنولوجيا، وأن العلوم الشرعية ربما تأتي في مرتبة أخيرة أو متأخرة لكي نصل إلى النهضة. ما رأي فضيلتك؟ ليس هناك تناقض أصلاً ما بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية حتى يتم التفاضل بينهما، فلا توجد درجات فيما بينها، هذه أمور تحتاجها الأمة. يجب علينا أن نوفي تلك الحاجة للعلوم التجريبية والعلوم التي يطلقون عليها النظرية نسبةً إلى النظر، أي كالعلوم الاجتماعية والعلوم
الإنسانية والعلوم الشرعية. كل هذه العلوم يحتاجها الإنسان احتياجًا شديدًا. لقد تحدثنا قبل ذلك عن منطق العرج، وهو أننا نريد أن نهتم بشيء على حساب شيء آخر، ومنطق العرج دائمًا عندما كانت مصر تحصر نفسها في كونها بلداً زراعياً حتى تكون مزرعة للمستعمر، تعطيه القطن، فيرجعه بعد مضاعفة ثمنه مئات المرات في صورة منسوجات أو غير ذلك، ثم بعد ذلك تنفي كونها زراعية وتجعلها صناعية، هذا اعوجاج. مصر بلد ينبغي أن يكون زراعياً، وينبغي أن يكون صناعياً، ينبغي. أن يدرس العلوم النظرية والشرعية ينبغي أن يدرس العلوم التجريبية
والكونية في كل متكامل، بحيث أنه لو قصَّر في شيء من ذلك أصيب بالعرج، فلا يصل الأعرج، ولا يستطيع الجري، ولا يستطيع السبق، ولذلك هذه الزوبعة التي قد تُثار في التفاضل إنما هي آتية من النظرة الثنائية للكون التي علمها. إياهم بعض المدارس الأوروبية التي عفا عليها الزمان وتركوها، يعني تجد صاحبنا الذي يتحدث عنها قد درس قبل ألف وتسعمائة وستين، مدرس لم يواكب ما بعد ذلك من ثورات علمية ضخمة عرفوا فيها قضية أنه ليس هناك موضوعية مطلقة وأن التحيز موجود في كل العلوم حتى في الفضاء وحتى في الطب وحتى في
كل شيء سمّوه التحيز، وأنه مع عدم وجود الموضوعية الكاملة فإنه لا بد من الاهتمام بالنموذج المعرفي، ولا بد من التخلي عن الثنائية أبيض وأسود. لا، فهناك رأي ثالث ورابع وخامس وسادس، وهناك آراء ليست فقط ما بين نعم ولا، فهناك ما بين نعم ولا. مراحل كثيرة بالنسبة للعلوم الشرعية في مواجهة العلوم الكونية هذا أمر لا نعرفه ولا تعرفه حضارتنا ولا يعرفه ديننا ولا تعرفه لغتنا. كان لدينا شيخ عظيم من مشايخ الأزهر كان اسمه الشيخ عبد الله الشرقاوي، كان حاصلاً على إجازة في سبعين علماً من ضمنهم علم الطب ومن ضمنهم علم الفلك ومن ضمنهم علم الحساب ومن ضمنهم وهكذا سبعون
علماً كان يُدرَّس في الأزهر، سبعون علماً في هذا الوقت الخاص بالشيخ عبد الله الشبراوي. أبداً ما فصلنا طوال حياتنا بين العلوم التي تتعلق بالقلوب الضارعة - حتى دعنا نتجاوز ذلك - بالشريعة الظاهرة، وبين العلوم التي تتعلق بعمارة الدنيا بأسبابها وقوانينها لدينا رجل عظيم جداً من أولياء الله الصالحين الكبار كان اسمه أبو الخير أبو سعيد. أبو الخير أبو سعيد هذا هو زميل مَن إذاً؟ ابن سينا، صديقه الصدوق. وكان أبو الخير من كبار أولياء الله الصالحين، وكان يقول: "ما رأيته ببصيرتي رآه
ببصره، وما عرفه بعكازته توصلت إليه بمعرفته" يقصد. بعصاه العلم أي أنه يريد أن يقول إن الحقائق التي كتبها ابن سينا في العلم، في العلم التجريبي، نعم المحسوس، هي التي توصل إليها أبو الخير بالتفكر وبالذكر وبغير ذلك. إلى هذا الحد من التمازج والتناغم، جميلٌ أن يكون هذا الأمر. عندما أعلن الأمريكيون أنهم وصلوا إلى القمر، أُثير عند الذي ينكر علوم الهيئة
وعلوم الفضاء ويقول إنه من المستحيل الوصول إلى القمر وإلى آخر هذا الفكر العجيب الغريب، قام السيد عبد العزيز بن الصديق بتأليف كتاب يذكر فيه أن الوصول إلى القمر بهذه الكيفية قد ذكره محيي الدين في الفتوحات مثلاً، يعني ماذا يقول؟ يقول إنه لا يوجد تناقض الهيئة العقلية التي تسير في طريق الله والهيئة العقلية التي تسير في طريق تعمير الكون ليس لأن كليهما من عند الله، فهذا كتاب الله المنظور وهذا كتاب الله المسطور، ليس معنى هذا أن نقول إننا أفضل منهم أو إن لدينا كل ما توصلوا إليه قبلهم وما شابه ذلك. لا، نحن لا نقول ذلك إطلاقاً، والكتاب
موجود مقروء عندنا منذ ثمانية قرون ونحن نقرأه، لكننا لا نتخيل أن نكون مثل وكالة ناسا للفضاء. "ناسا للفضاء" هذه لها عمل آخر، أما نحن فنريد أن تكون لدينا وكالة فضاء مثلها، وهذا لا يمكن أن يتحقق مع وجود هذا الكتاب. ماذا يدلني عليه هذا؟ هذا حجة علي وليس حجة لي. حجة علي أننا في نظرتنا للإنسان والكون والحياة ليس عندنا أي أشكال أو عائق للانطلاق، فلماذا لا ننطلق؟ هذا هو السؤال. للسير إلى عمارة الأرض، فلماذا لا نعمرها؟ يعني لا يوجد عائق أصلي كما في كثير من الأفكار والمذاهب والديانات في عوائق أصلية هناك عائق يقول إن هذه الدنيا شر ويجب عليك أن تتخلص منها وألا
تعمرها وأن تحطمها تحطيماً، لكن ليس عندي ذلك، بل عندي "واستعمركم فيها"، يعني طلب منكم عمارتها. إن عندي أن الله لا يحب الفساد، عندي شيء لا غبار عليه. لن يستطيع أحد أن يعترض عليها لأنها تسير في الطريق الصحيح، فأنا أملك هذا الصواب كله. لذا أريد أن أقول إننا أمامنا فرصة كبيرة لأنه معنا كنز، لكن هذا الكنز يحتاج إلى عمل. فعلمنا لا يعوقنا وترتيب نظرنا لا يعوقنا، بل يتركنا في اختبار مع أنفسنا: هل سنعمل بموجب ما فتنطلق أنظمتنا من عقائدنا وتنطلق
تصرفاتنا وسلوكنا من رؤيتنا الكلية للإنسان والكون والحياة، أو أننا نستكين ونكسل فتسبقنا كل الأمم كما سبقتنا. حسناً، في هذا الإطار، البعض للحقيقة يُفتن بالحضارة الغربية ويعتقد أن الحضارة الغربية لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بعد أن انفصلت عن العلوم الشرعية. وانفصلت عن الدين في حين أن ما ذكرتَ من قبل - أعني عن أولياء الله وعن العلماء المسلمين قبل قرون طويلة كأبي الخير وابن سينا - لم يكن هذا الانفصال موجوداً وكانت الحضارة العربية والشرقية في أوجها. أعني كيف نرد على هذا الرأي يا مولانا بأننا يمكن أن نتقدم كالحضارة؟ الغربية مع الاحتفاظ بديننا، ليس لدينا تجربة مثل التجربة التي تلقاها جاليليو من أنهم فرضوا
عليه أن يحرق كتبه. ليست لدي هذه التجربة في وضعنا، أي أن الدين الإسلامي لم يكن عائقاً أمام الفكر العلمي. ليس لدينا في حياتنا إطلاقاً مفهوم الاستعمار أبداً، نحن تاريخ. خالٍ من الاستعمار، عندما جاء المسلمون مثلاً وفتحوا مصر، تزوجوا من العائلات المصرية وأنجبوا الجيل الأول والثاني والثالث. يقول ريتشارد بليوت في كتابه عن الحضارة الإيرانية الذي طُبع في نيويورك سنة أربعة وسبعين، أنه بعد مائة سنة كان المسلمون في مصر يشكلون خمسة في المائة فقط بعد مائة سنة. منذ دخولهم وفي سنة مائتين وخمسين أصبحوا خمسة وعشرين في المائة، وفي سنة سبع مائة
وخمسين زادوا وأصبحوا فوق تسعين في المائة. سبع مائة وخمسون سنة، هذا هو الواقع. إننا ما زال لدينا الإخوة المسيحيون يعيشون معنا والإخوة اليهود يعيشون معنا، يعني هذا هو الواقع. فإذاً عمر الإسلام ما كان. بلد استعماري دخل هنا وذهب حاملاً خيراته مُتجهاً إلى الحجاز حتى تكون جنة غنّاء. لم يحدث أبداً في تاريخ الإسلام أننا كنا عنصريين. هل رأيت أمة قط تجعل عبيدها يحكمونها كملوك في فترة تمتد إلى نحو ألف سنة؟ صحيح أننا نجعل عبيدنا يحكموننا. هل رأيت قط مسألة خالية من محاكم
قصة أخرى التي حدثت هناك وكونك تُحضر جاليليو وتقول له كيف تثبت ما تقول وهو مخالف لنص عندي فيجعلونه يتوب إلى الله ويحرق كتبه، لم يحدث عندنا هذا. كان عندنا رجل فاسق كان اسمه ابن الراوندي، وابن الراوندي هذا كان غير مؤمن بالقرآن وألّف كتاباً ضد القرآن، فيقول الإمام... قال القرطبي: "وادعى ابن الراوندي الفاسق كذا وكذا وكذا"، لكن ابن الراوندي كان يعيش في أمان الله، ولم يكن هناك شيء [ضده]، ولم يكن هناك أحد إلا أن يذهب إلى القاضي، أي كانت هناك محاكم قضائية. فحدثت حوادث قليلة مثل السهروردي المقتول ومثل الحلاج،
وهذه لم تحدث بسبب العلوم الذي يقول مثلاً أنا الله فأجابته قال له ما معناه أنا الله، يقول الجنيد: "ولو أدركته لأنقصته بقشة"، يعني أيضاً حتى القاضي عندما حكم وقتل الحلاج، الأمة لم تقتله، وجلسوا يدرسون في كل ما كتب السهروردي المقتول وفي كل ما كتب القاضي عمارة وفي كل ما كتب، لا يوجد ولا... واحد لدينا عمل بالتجريب وقتلوه، نعم أو قال نظرية. نحن لدينا ابن يونس وابن حبيب والصابي، هؤلاء كلهم في الفلك وفي الهيئة وغير ذلك إلى آخره، وقالوا ما قالوا، ولكن أبداً لم تكن هناك تجربة،
التجربة الموجودة التي بموجبها أنه عندما نحّوا هذه السلطة انطلقوا، غير موجودة لدينا لأن لم تكن لدينا سلطة أساساً، أو حاجة أصلاً في السلطة، وثانياً تأسيس ما نحن فيه كان نسقاً مفتوحاً ولم يكن نسقاً تصادمياً مغلقاً. وأنا أتعجب كيف تقيس ما كان في هذه المصائب على ما كان في هذا النقاء، فنحن ليس لدينا هذا الكلام ولذلك. ليس لدينا مشكلة بين العلم والدين ولا بين النظر والعمل ولا بين الدنيا والآخرة أبداً، بارك الله فيكم، أهلاً وسهلاً، جزاكم الله خيراً، شكراً لحضرتكم، شكر موصول لحضراتكم، إلى اللقاء.