حدود العقل في التفكير- درجات المعرفة #3 | د. علي جمعة

أهلاً بكم. في الحلقات السابقة تحدثنا مع فضيلة الدكتور حول العقل وأن هناك شروطاً لكي يتصف العقل بالصحة وبالتالي يكون هناك التكليف. هناك أمور كثيرة يجب أن تكون أو تتوافر بدايةً كي نصل إلى مرحلة التكليف. اليوم نتحدث مع فضيلة الدكتور حول وظيفة العقل، هل للعقل حدود في التفكير؟ العقلي هل هناك حدود؟ هل هناك ربما تكون أدوات
أخرى أو عوامل أخرى قد تشوش الأمور على العقل أو تتداخل مع العقل في أداء هذه الوظيفة أو هذه المهمة؟ اسمحوا لي أن أرحب بفضيلة الإمام العليم الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة. أهلاً بكم مولانا، أهلاً وسهلاً، أهلاً وسهلاً مولانا. هل هناك حدود العقل في التفكير. حينما أتأمل في الكون أو أتفكر في أمر من الأمور الدنيوية أو حتى المتعلقة بالدين، هل هناك إطار لا يجب أن أخرج عنه؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. بصورة عامة وقبل الدخول في التفاصيل لا يوجد أي عائق ولا أي حد للتفكر، لا في كتاب الله المسطور ولا في كتاب الله المنظور ولا في الجمع
بينهما. ليس هناك حدود لهذا التفكر وهذا هو الذي عاشه المسلمون، ولكن هناك خطوات منطقية بعضها يؤدي إلى بعض ويُسلم إلى بعض، وهذا الذي أسميناه بدرجات المعرفة، كل درجة إلى الدرجة التي بعدها وفوقها في نفس الوقت لن تستطيع أبداً أن تصل إلى قمة الهرم فجأةً، ولن تستطيع أيضاً عندما تقف عند درجة معينة أن تدَّعي الكمال أو أن تدَّعي المعرفة، ولذلك حدود التفكر لا نهاية لها. الله سبحانه وتعالى أمر بالتدبر وأمر بالبرهان
وأمر بالتفكر، أفلا يتدبرون؟ القرآن "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"، ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أنني سأقرأ الآيات، وهذه الآيات عددها ستة آلاف ومائتان وستة وثلاثون آية، وسأعمل مقارنة بين كل آية وبقية الآيات لأعرف إذا كان فيها اختلاف أم لا. وماذا يعني هذا؟ يعني كل آية... مع بقية الآيات كنا نسميها ونحن في الإعداد التبادل والتوافيق، وهذه يعني مليارات لا نهائية من الاحتمالات، أن كل آية تبحثها مع ستة آلاف آية، وكل آية من ستة آلاف تبحثها مع ستة آلاف آية، هذا ليس ضرب
ستة آلاف في ستة آلاف، هذا ستة آلاف في ستة آلاف. إلا واحد في ستة آلاف، إلا اثنين في ستة آلاف، إلا ثلاثة في ستة آلاف، إلا أربعة إلى نهاية ستة آلاف، هذا مبلغ ضخم جداً ليس له رقم. حسناً، إذا عاش الإنسان مائة سنة في حياته، فالمائة سنة هذه في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً تصبح ستة وثلاثين ألف يوم. الستة... وثلاثين ألف يوم، هذه تحتوي على أربع وعشرين ساعة. سينام أربع ساعات ويتفكر عشرين ساعة، فتصبح الستة والثلاثون ألفاً اثنين وسبعين ألف ساعة. وهذه الاثنان والسبعون ألف ساعة تحتوي على ستين دقيقة. هل تسمح لي بأن أقول إن الرقم الستين في اثنين وسبعين هذه تُضرب، أي أن هذه معنا هنا وعشرون ألف ساعة وانتهى الأمر،
أربعة ملايين ساعة، لكن الثانية الواحدة تساوي أربعة، لست أعلم كم، أربعة يعني رقم لا نهاية له، فمن أين سأجد الوقت؟ إنني سأفكر، نعم، لأن التفكر لا حدود له. أتعلم لماذا؟ لأنني عاجز، لأن زمني قليل، عمري قصير. الجماعة المسؤولون عن وكالات الأنباء الستة يذيعون. مائة وعشرون مليون معلومة في اليوم، لكي أقرأها سأحتاج إلى مائتي سنة. فإذا كان العقل لا نهاية لتفكيره ولا لتوليده ولا لاطلاعه وما إلى ذلك، فلا بد أن يسعى هذا العقل إلى الحقيقة، ولا بد أن يسعى إلى
الخير، ولا بد أن يسعى هذا العقل إلى النفع. وليس إلى الفساد ولا إلى الضرر ولا كذا إلى آخره، وهذا هو الذي قلنا عنه العبادة والعمارة والتزكية. إذاً العقل ليس له حدود في التفكر، لكن له توجه في التفكر. فلو توجه لنفع الناس، ولو توجه لعمارة الأرض، ولو توجه لعبادة الله، ولو توجه لتزكية النفس، ولو توجه ما... يفكر في ذلك ولا يفكر في الشر. لا يفكر لأنه لو فكر في الشر سيصل إليه لأنه عقل، ولكن إذا لم نستطع أن نقول إن هذا يقيد العقل، فهو توجيه للعقل ليتأمل في ماذا. فربنا ضرب لذلك مثلاً وقال
لنا: "وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره"، لكي أصلي، قم واتجه نحو لماذا الكعبة بالذات؟ أراد الله ذلك، هذا محل نظر الله، بيت الله العتيق، بيت الله الذي أمر أن يكون أول بيت وُضع للناس. فهذه الأولوية تجعلني أتجه إليه. لنفترض أنني عرفت أن الكعبة هكذا، فذهبت وأعطيتها ظهري وصليت صلاة غير مقبولة، لكن على فكرة، حدث قيام وقراءة الفاتحة. وركوعٍ وسجودٍ وما إلى ذلك، وفي النهاية تكون غير مقبولة. فالعقل نشاطه غير محدود عندما ينشط، ولكن توجيه هذا النشاط ينبغي أن يكون نحو الحق والخير، وليس أن يكون مغضوباً عليه بأن يعرف الحق ويحيد عنه، ولا أن يسعى إلى الشر وإلى تدمير هذا
الكون وإلى مخالفة هذا الفطرة التي ما رأي فضيلتكم فيما يفعله بعض الأشخاص الذين دائماً ما يعرضون أي أمور مبدئياً على العقل، حتى ما يتعلق بأمور الدين أو الشريعة أو السنن الإلهية أو الأوامر الإلهية، حيث يُخضعون كل شيء للعقل لكي يقبلوه؟ هل هذا مباح، أم أنه مباح بحدود، أم أنه مرفوض؟ تماماً لدينا منهج، وهذا المنهج معتبر ومحترم اسمه منهج الشك. ومنهج الشك يبيح للإنسان أن يفعل هذا، لكن ربنا سبحانه وتعالى علّمنا أموراً يجب علينا أن نلتفت إليها في منهج الشك حتى لا يتحول إلى تشكيك. فهناك فارق كبير جداً بين
الشك وبين التشكيك. في الشك اسأل يا أخي، فالسؤال... مفتاح العلم اقرأ وتعلم، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة، إياك أن تخدع نفسك بأنك قد عرفت كل شيء، وفوق كل ذي علم عليم. العلم دائماً، ولا بارك الله في يوم لم أزدد فيه إلا علماً، وقل في الدعاء أيضاً: رب زدني علماً. متى يكون هذا دائماً؟ عندما أطلب زيادة العلم، وهذا أمر جميل مع التواضع، حيث أنني أعلم أنه كلما حصلت على علم فهناك من هو أعلم مني، كلما حصلت على علم فهناك من
هو أعلم مني. ولذلك هذه هي قصة الخضر مع موسى، إذ إن موسى كليم الله موحى إليه، يعني له من الأسرار ومن العلوم ما الله به عليم، عرف كل شيء، وبالرغم من هذه المعرفة إلا أن الله سبحانه وتعالى أرسل له عبداً من عباده يفعل أشياء بتلك التجارب الثلاث التي فعلها معه، ويبين له أنه ما زال مبكراً عليه، وفوق كل ذي علم عليم، إذاً فالعلم لا يعرف الأخيرة ولا بد من المزيد، وهنا ينزل قوله تعالى الذي يدل بدلالة استقلالية على نفسه: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". إذًا لا يوجد مانع من منهج الشك. أنا أريد أن أفهم معنى هذه الكلمة،
وإذا كان معناها كذا، فسيتولد سؤال ثانٍ وسؤال ثالث وسؤال آخر. رابعًا، إما أن تقرأ أو تسأل أو تتعلم أو تصبر على تحصيل العلم إلى آخره، فهذا منهج الشك، ومنهج الشك معتبر. الإمام الغزالي هذا في الأمور الدينية يا مولانا، نعم، فنحن عندنا الأوامر الدينية، يعني لا يوجد فرق بين الدين والدنيا، نعم، لا يوجد فرق بين الدين والدنيا هذا. كتاب الله المسطور وهذا كتاب الله المنظور، لا يوجد فرق بين الدين والدنيا لأنني أريد أن يطمئن قلبي بالإيمان تماماً. منهج الشك ذكره ربنا لنا في قصة إبراهيم، نعم هل انتبهت؟ وفي قصة موسى "رب أرني أنظر إليك". كيف تنظر إليه؟ كيف؟ يريد أن يطمئن قلبه. فالشك هكذا، الشك. هذا هو الشك المنهجي، شك
منهجي، نعم. ليس له علاقة بالإيمان، أنا مؤمن لكن أريد أن أفهم. أنا مؤمن ولكن أريد أن يزداد إيماني، أنا مؤمن ولكن أريد أن يستقر إيماني. ولذلك هذا نسميه ماذا؟ الأسئلة التحضيرية. يأتي في ذهني هكذا، حسناً، افترض أن شخصاً ملحداً قال لك يا... كذا وكذا سؤال معناه أنني متشكك في وجود الله مثل هذا الملحد؟ أبداً، إنني أستحضر هذا السؤال، ولذلك سموه التحضيرية، لأعرف إجابته. أحياناً أعرف الجواب فوراً وأقول: حسناً، الإجابة كذا. وأحياناً لا أعرف، فيكون هذا سؤالاً معلقاً يجب أن أبحث عنه ويجب أن أصل إلى إجابته. ولابد أن يطمئن قلبي في أنه فعلاً المنهج يؤدي إلى
معرفة أين الحق في هذه المسألة، وبذلك لا يكون ظني بل قطعي، ولا يكون كذا إلى آخره. أما التشكيك، وهذا ما نراه ليلاً ونهاراً عند هذه الطائفة التي لا تمتثل لهذا المنهج، فهو يريد أن يشكك العوام لأنه يريد. أن يحملهم حملاً على رأيه فهذا إرهاب فكري، وهذا ليس تفكيراً مستقيماً، إنه يحاول أن يضحك على الناس وأن يخادعهم، وليس أنه يدعو الناس للتفكير، بل هو يدعو الناس لمجرد الإنكار. نعم، أنكر المعلومة، أنكر الثوابت، أنكر ما تعرفه، وحينئذٍ تصبح شجاعاً. لا، ليست هذه شجاعتنا. هذا تشكيك، وهناك فارق بين التشكيك كما بين السماء والأرض، ما بين التشكيك وبين الشك.
فالشك مقبول والتشكيك غير مقبول. طيب، بعيداً عن التشكيك يا مولانا، هل نستطيع أن نقول أو نعتبر أن العقل بمثابة سلاح ذي حدين، بمعنى أنه إما أن يؤدي بالإنسان إلى الحقيقة فتنكشف له الأمور. أو للأسف يعني قد تكون قدراته العقلية لا تؤهله للوصول إلى الحقيقة، وبالتالي قد يضل الطريق. يعني هل يمكن أن نعتبر العقل بهذا الشكل؟ وفي حال أن الإنسان فكر في أمر من الأمور واستعصى عليه، ماذا عليه أن يفعل في هذه الحالة؟ عندما اعتزل الإمام الغزالي جلس مدة يفكر في... اللحظات تقول ذلك وتُظهر له شيئاً غريباً جداً في الإنسان، وتجيب على بعض الأسئلة الأخرى، وهو أن الإنسان خُلق فيه قلب وخُلق فيه عقل وخُلق فيه سلوك، وأن
القلب يعلو فوق العقل، وأن العقل يعلو السلوك، وأن من سبب تسميته عقلاً أنه يعقِل، أي يمنع، أي يربط ويفرمل. بالكلام الذي يشبه الفرملة، يمنع الإنسان من السلوك الضال أو المؤذي أو السلوك المهلك سواء في الدنيا أو الآخرة. فهناك قلب يعلو العقل، وهناك عقل يعلو السلوك. وبدأ يتكلم: حسناً، نحن عرفنا العقل وعرفنا مكوناته وعرفنا حدوده وعرفنا أدواته، وعرفنا حسناً، فما هو هذا القلب إذن؟ هذا هو سؤال الأمس في موضوع القلب، ماذا
يقول لك؟ ولماذا سُمِّي هكذا؟ يعني اللغة لأنها من عند الله، من وضع الله، فهو الذي علَّم آدم الأسماء كلها. فوضْع اللغة من عند الله. لماذا سمَّى هذا قلباً؟ قال: وما القلب إلا لأنه يتقلب. وأول الناس وما أول... ما الناس إلا أول الناس، أول إنسان نسي هو سيدنا آدم، فسموا أبناءه ناسًا، ناس يعني ناسيين أي ينسون. فالنسيان هذه خصيصة من خصائص الإنسان لكي يتأقلم ويتكيف مع الظروف المحيطة. النسيان هذا نعمة، فربنا سبحانه وتعالى منَّ على الإنسان بأنه ينسى، حتى إذا وقع في الذنب ينسى الذنب فيصبح. لدي الآن ترتيب حيث القلب يعلو على العقل،
والعقل يعلو على السلوك. فجاء الإمام الغزالي وألّف كتاباً عن القلب وحده، ذلك الذي يعلو على العقل، والذي سيكون بمثابة مرجعية للعقل. فألّف كتاباً لطيفاً اسمه "مكاشفة القلوب"، وقال: "يا جماعة، إن هذا القلب كما أن العقل جزء منه". ما هذا؟ الحواس التي منها سلامة البصر، والقلب فيه بصيرة، وتحدث عن هذه البصيرة وعن تعلقها بالروح الإنسانية وبالنفس المدركة، وتحدث عن أن هذا القلب الذي هو من شأنه أن يتقلب هو موضع هداية الله سبحانه وتعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"، وأنه ما
دام القلب... سليم إلا من أتى الله بقلب سليم، فالقلب أحياناً يكون سليماً وأحياناً لا يكون سليماً. وإن سبب ضلال العقل إن ضلَّ أو هدايته إن اهتدى هو سلامة القلب من عدم سلامته. دعونا نتحدث عن غذاء هذه السلامة، وكيف نصل بالقلب إلى السلامة، كيف نصل بالقلب. إلى السلامة. طيب، هذا سؤال مهم جداً يا مولانا. نعم، سنأخذ إجابتك كاملة إن شاء الله بعد الفاصل إن شاء الله. ابقوا معنا. إن ما يميز صاحب هذه العقلية هو أنه ممنوع أن تدخل هنا الإعجاز العلمي، فأنت عندما تصل إلى
الحقائق المسلمة... في الكون لا تجد نصاً مخالفاً له، برنامج درجات المعرفة مع فضيلة الإمام الدكتور علي جمعة، يحاوره الإعلامي عمرو خليل، يأتيكم بإذن الله يومياً عند الساعة الثالثة عصراً بتوقيت مكة المكرمة، ويعاد في الأوقات التالية. أهلاً بحضراتكم مرةً أخرى مشاهدينا، الحقيقة بعد الفاصل مولانا طرح سؤالاً مهماً جداً: كيف نصل. بالقلب إلى السلامة، بما أن القلب هو الذي يوجه العقل، ولو كان القلب سليماً سيكون
العقل سليماً. فبالتالي يا مولانا، كيف نصل بالقلب وبالتالي العقل إلى هذه السلامة؟ يلخص أهل الله الإجابة على هذا بثلاثة أشياء وبثلاث كلمات، كلمتان مهمتان جداً وهما اللتان نعمل بهما: التخلية والتحلية، لا بد لهذا أن نجعله ننزع منه كل قبيح، ولابد حينئذ، والعالم لا يعرف الفراغ، أن يُحلى بكل صحيح، فبضدها تتميز الأشياء. فنخليه من القبيح فيتحلى بالصحيح. فإذا حدث التخلي والتحلي يحدث التجلي. تصبح ثلاثة أمور: تخلٍ، تحلٍ، تجلٍ. ونريد
أن نعرف معنى هذا الكلام، ما معنى التخلية؟ قم يأتي ليؤلف كتاباً. كتاب كبير اسمه "إحياء علوم الدين" يقول لك إنه مُقسّم إلى أربعة أرباع: الربع الأول عن العبادات، والربع الثاني عن المعاملات، والربع الثالث عن الصفات الذميمة التي نريد أن نتخلص منها، والربع الرابع عن الصفات الطيبة الجميلة التي نريد أن نتحلى بها. فيكون قد تحدث عن التخلية والتحلية في نصف عبادة وفيها معاملة، التخلية والتحلية، يجب على الإنسان أن ينتبه جيداً إلى التخلية والتحلية. وعندما نعود إلى سيدنا صلى الله عليه وسلم لنرى هذه الأمور، وأين موقعها في هذه الشريعة الغراء التي تركنا
عليها، كما قال عن المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. دعونا نرى أن السنة ألف أمر ونهي منها ألفان في كل الشريعة من أولها إلى آخرها والباقي في الأخلاق ما بين "افعل" و"لا تفعل" في جانب الأخلاق في القلب. نهانا عن الحقد والحسد والغل والكبر وهكذا، وأمرنا بالرحمة والحب والتسامح وهكذا. فنحن إذن أمام نظام أخلاقي قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ورب... يصف ويقول: "وإنك لعلى خلق عظيم". اثنان وستون في المائة منها، وواحد وثلاثون في المائة، يعني ثلاثة في المائة. هذه الثلاثة في المائة
ماذا تعني؟ تعني سبعة وتسعون في المائة في الأخلاق، وثلاثة في المائة في الصلاة والصيام والزواج والطلاق والقضاء والشهادات والمعاملات، والباقي سبعة وتسعون في المائة عندما... تذهب إلى القرآن فتجد ثلاثمائة آية في كل هذا، والباقي ستة آلاف آية عن الأخلاق، أخلاق مرتبطة بالعقيدة. إذاً نحن أمام عملية واضحة جداً أن القلب في الأصل يوجه العقل التوجيه السليم، وليس يسيطر على العقل. فلا بد أن يكون هذا القلب سليماً، هل انتبهت؟ وهذه هي الإجابة على قوله تعالى "لهم قلوب لا يفقهون بها". إن الفقه هو الفهم وهو الإدراك الواعي وما إلى ذلك. فالقلوب عندما تكون سليمة فإنها توجه العقل
التوجيه السليم الذي يستطيع - بموجب سلامة الحواس وسلامة الدماغ والمعلومات السابقة والواقع المحيط - أن يتخذ القرار السليم ويتبنى السلوك السليم. الذي هو تحت العقل الذي هو تحت القلب، نعم صحيح. فالإمام الغزالي عمل هذه الأشياء كلها وتبعه الناس بعد ذلك، وألَّف مؤلفات رائعة متميزة في التخلية والتحلية والتخلي والتحلي. يحدث، التجلي. تجلي ماذا؟ عرفت الحقيقة، شعرت بها، أيقنت بها. أنت لا تريد ترتيب أمور شغبية، ترتيب أمور شغبية، لا. ليست هي ليست هي شغباً، إنما هذا قلبك مستقر. أتدرك كيف؟ إلا من آمن وقلبه مستقر هكذا بالإيمان، وهكذا
قلبه لا يوجد فيه شك ولا ريب ولا ما شابه ذلك إلى آخره. صحيح، طيب مولانا، العقل وإدراكه للأمور، فكرة المحسوس وغير المحسوس، هنا يكون دور العقل أم دور القلب بشكل أنا قادر على تمييز هذه طاولة أو هذه مياه وهذه نار، ولكن في غير المحسوس والأمور الغيبية، هنا دور العقل أم دور القلب؟ الاثنان: العقل يقوم بعمل الأدلة وترتيب الأدلة الظاهرة لأن العقل يقوم بعملية تسمى التفكر. ما هي الفكرة؟ هي حركة النفس في المعقولات. هذه النفس لها حركة، لها... بداية ولها نهاية، يمسك الشيء من أوله ويؤدي به إلى نهايته. هذا
التفكر الذي يقوم به العقل يقول لك من المبادئ إلى المطالب، يعني من بداية الطريق لنهاية الطريق. فالعقل يقوم بعملية التفكر التي هي ترتيب أمور معلومة للتوصل بها إلى مجهول. لقد قلت لك مرة أن من عمل العقل. أنه يربط المعلومات ويصل منها إلى شيء لم يسمعه من قبل، لكن هذا الشيء واقعي وحقيقي. وهذا هو ما جعل فيثاغورس يؤمن بالله. كيف آمن فيثاغورس بالله؟ نعم، فيثاغورس صاحب حساب المثلثات، فيثاغورس صاحب حساب المثلثات. المثلثات. هل تلاحظ كيف أن عالم حساب المثلثات هذا كان فيلسوفاً ورياضياً، وكان جماعة الفيثاغوريين هؤلاء يجلسون في القبو تحت الأرض
هكذا في السرداب، ولكنه اكتشف شيئاً غريباً جداً جعله مندهشاً فآمن بالله. بعض المترجمين يخطئون ويقولون إن فيثاغورس عبد الرياضة، لا، هو لم يعبد الرياضة. هو عبد ذلك الرب الذي بنى هذا الكون بهذا النظام العجيب الغريب الذي اكتشفه فيثاغورس. كان يعبد الله، فماذا فعل فيثاغورس؟ يعني كيف فكر فيها؟ أي أن النظرية التي تشير إليها، نظرية فيثاغورس، تقول أن مساحة المربع القائم على الوتر تساوي مساحة المربع القائم. على الضلعين الآخرين عندما نحسب هذا ونحسب ذاك نجد أنه مساوٍ لهذا، فلو مثلاً هذا الضلع ثلاثة، في ثلاثة تساوي تسعة، وهذا الضلع أربعة، في أربعة تساوي
ستة عشر، تسعة وستة عشر كم؟ خمسة وعشرون. تقيس الوتر فتجده خمسة، الله! حسناً، كيف استنبطت هذه العلاقة بعقلي عندما أصعد الآية صحيحة. سينبع هذا الكلام من داخل عقولنا، وأنا لم أخلق هذا الكون، إذن من الذي جعل ما في عقلي يطابق ما هو خارجه؟ من الذي جعله يتطابق مع الواقع؟ لا بد أنه كائن غيرنا، فهو غير الكون وغير الإنسان، وهو ما نطلق عليه في كتاب الله المنظور. وكتاب الله المقدور، ليس هذا ولا ذاك، إنه شخص آخر خارجي قال: هذا هو الله سبحانه. هو الذي خلق هذا الإنسان المقدور، وجعل عقله يعمل بهذه الكيفية، والذي خلق الكون المنظور وجعله يسير بهذه القواعد. إذن لا بد
أن هناك أحداً هو الذي وفّق ما بين هذا العقل. والواقع هذا هو الله، وذهب الأستاذ في صغورس هذا، هو آمن بالله من ماذا؟ من هذه الملاحظة. إنه عمل القلب، يعني لم تمر عليه المسألة ووقف عند هذا. كان من الممكن أن يقف عند هذه الحقائق: هذا المربع يساوي هذين المربعين في المساحة وانتهى الأمر، يعني بعد ما... وصل لها بالعقل، لابد أن يصدرها القلب. أجل، صدّرها، هكذا يكون. إذا كان العقل لا بد منه، فها هو قد صدرها القلب تماماً. فقلبه أصبح يرى، والبصيرة عملت، والبصيرة التي في القلب انكشف عنها الحجاب. لذلك يا مولانا، الآية الكريمة: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، على الدوام، لكن دع... ما بالك العلماء هذا جمع ماذا؟ هذا جمع عليم وليس جمع عالم. جمع عالم أنا أعرف أنها جمع
عالم فتكون علمون، نعم، علماء جمع عليم، جمع عليم، "وفوق كل ذي علم عليم". فالعليم هذا هو الذي عمل مثل فيثاغورس هكذا، العقل سلّم للقلب فالقلب انفتح، هذا هو العليم، هذا عليم. هذا الذي يخشى الله، هذا الذي يخشى الله، لأنه دائماً سيرى الله. رأى الله وهو طبيب جراح، كيف رأى الله؟ رأى الله في الدورة الدموية. من الذي صنع هذا؟ إنه شيء غريب جداً. ما هذه الدقة في رسم الشريان الأورطي؟ ما هذه الدقة في أجزاء القلب الأربعة الأذين. والبطين، ما هذا؟ فالرجل حدث له انبهار بخلق الله
سبحانه وتعالى، فقال: "الطب محراب الإيمان". انظر كيف أنه أرسل المعلومات من العقل إلى القلب، فما إن وصلت إلى القلب حتى بدأت البصيرة تعمل، فأصبح عليماً. لكن قبل ذلك كان مجرد عالِم، كان يعرف بعض المعلومات. نعم، هل تنتبه؟ نعم، كان القلب
تحته العقل، والعقل تحته السلوك، وهذا الترتيب موجود في الشريعة، موجود في القرآن، موجود في السنة، موجود في كتابات المسلمين. فهمه الأكابر منهم وساروا على هذا. النبي بارك الله فيكم مولانا، أهلاً وسهلاً، جزاكم الله خيراً. كالعادة، أنت تنير لنا عقولنا وقلوبنا. شكراً جزيلاً لحضرتك، حفظك الله، شكر موصول. لحضراتكم نراكم على خير إن شاء الله إلى اللقاء