حفظ العقل | خطبة جمعة بتاريخ 2006 06 23 | أ.د علي جمعة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ونبيه وصفيه وحبيبه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد في الأولين، وصل وسلم على سيدنا محمد في
الآخرين، وصل وسلم على سيدنا محمد في كل وقت وحين، وصل وسلم على سيدنا محمد في العالمين، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار وأتباعه الأبرار إلى يوم الدين يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا
قولا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما. أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله وإن خير الهدي هدي سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. جاءت الشريعة الإسلامية تؤكد كل شريعة قبلها، تؤكد أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق عبثا. وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب وجعل صلة بينه وبين مخلوقه ليرشدهم إلى سعادة الدارين من لدن أبينا آدم
حيث أوحى الله إليه ما أوحى وإلى خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت تلك الشرائع كلها تدعو إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وتدعو إلى عمارة الكون وتدعو إلى تزكية النفس وتدعو إلى إخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه وتعالى جاءت تلك الشرائع كلها تدعو الناس إلى حفظ النفس وإلى حفظ العقل وإلى حفظ الدين وإلى حفظ كرامة
الإنسان وعرضه وإلى حفظ مال الإنسان وماله وسميت هذه بالمقاصد الخمسة العليا لأن كل دين قد دعا إليها، لم يأت نبي قط فيبيح الهرج والمرج والقتل والتظالم بين الناس في دمائهم، لم يأت نبي قط ويدعو الناس إلى الخرافة أو إلى إهانة العقل الذي خلقه الله سبحانه وتعالى مناطا للتكليف، لم يأت نبي قط ويدعو الناس إلى أن يتخذونه إلها من دون الله قل هو الله أحد الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد
ولم يكن له كفوا أحد لم يأت نبي قط ويدعو الناس إلى أن يتسلط بعضهم على بعض فيبيح السب والقذف والتعذيب بل كل نبي دعا إلى كرامة الإنسان وحقوقه ودعا إلى احترام الآدمي باعتباره أن الله قد خلقه على صورة أبيه آدم الذي كرمه وشرفه والنبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نضرب الوجه فيقول اتقوا الوجه فإن الله قد خلق آدم على صورته أي على صورة ذلك المضروب فاحتراما لهذا الإنسان الأول الذي كرمه الله وأسجد له الملائكة كرم
الله أبناءه وأعز وجوههم سواء عرفوا الله أم لم يعرفوا وسواء آمنوا أم كفروا وسواء أصلحوا في الأرض أو أفسدوا فيها حفظ الله كرامة الإنسان كرامة لآدم عليه السلام وأمرنا الله ألا نكون سفهاء لا في تحصيل الأموال ولا في إنفاقها فحرم علينا الحرام وأباح لنا المباح وحفظ علينا مقاصد الشرع الشريف الذي إذا ما حفظناها على أنفسنا نلنا سعادة الدارين واليوم نتحدث عن حفظ العقل ولذلك حرم الله علينا المسكرات وحرم علينا المخدرات
وحرم علينا أن يغيب العقل البشري لأنه مناط التكليف لأن الله إنما كلف العاقل منا ووضع القلم ورفعه عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ لأنه لا يملك عقله وعن الصبي حتى يبلغ لأنه لم يرفع عنه العقل وعن المجنون حتى يفيق، فإذا أفاق فإنه تعود عليه التكاليف. حفظ الله لنا العقل وكرمه وأعلى من شأنه وحرم كل مفسد له، ومن هنا حرمت شريعة الإسلام الخمر وشددت في تحريمها وحرمت كل
وسائلها وما يوصل إليها، ولعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دلالة على أنها من الكبائر ولم يكن سبابا ولا فاحشا ولا لعانا ولا بذيئا صلى الله عليه وآله وسلم حتى أخذ علماء الأمة من لعن النبي صلى الله عليه وسلم لشيء أنه من الكبائر وهذا هو سبب اللعن أن يرشد أمته من بعده إلى أن هذا من الكبائر وإلى أن الخمر إنما هي أم الخبائث فحرم النبي فيها عشرة، حرم شاربها وبائعها وحاملها والجالس في
مجلسها، حتى أخذ علماء الأمة من كل موارد التحريم حتى لا نصل إلى الخمر، إلى أن النظر إلى الحرام حرام، فالنظر إلى الخمر مجرد النظر حرام، حرم الله هذا، ولكن النفس البشرية عبر القرون وفي كل عصر حتى في عصر الصحابة الكرام الذين أكرمهم الله بنظر النبي إليهم صلى الله عليه وآله وسلم حتى أحدث فيهم موجب العدالة فلم يكن فيهم فاسق قط ترد روايته وإن ردت أمام القضاء إلا أن الصحابة كلهم عدول بنظر النبي لهم يقول
ابن حجر نظر النبي إلى الصحابة فأحدث فيهم ما استوجب عدالتهم إلى يوم الدين، حتى الصحابة غلبت نفوسهم عليهم، فكان النعيمان يشرب الخمر خفية ثم يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصباح تائبا ويطلب منه أن يؤدبه حتى يرتدع وحتى يكون التأديب معينا له على نفسه، ثم تكرر منه ذلك رضي الله تعالى عنه وأرضاه حتى قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: اتركني أقتل هذا المنافق يا رسول الله، فقال: كيف تقتله وهو يحب الله ورسوله؟ أقر النبي له مع
معصيته بحب الله ورسوله، أقر النبي له بالإيمان، ولذلك من يقع منا في المعصية وتغلبه نفسه عليها فعليه أن يبادر بالتوبة وبالرجوع إلى الله وبذكر وبكثرة الصلاة على النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ييأس من نفسه ولا ييأس من كثرة المعاصي التي تصدر منه، بل عليه أن يعود إلى الله مرارا وأن يتوب إلى الله، فإن الله تواب يقبل التوبة. يا ابن آدم لو جئتني بقراب الأرض ذنوبا ثم جئتني تائبا لغفرت لك والله يفرح بتوبة عبده التائب، والله سبحانه وتعالى جل في علاه إذ يفرح هذا
الفرح، فإنك أيها المؤمن أولى أن تفرح ربك، والأمر راجع إليك، فعندما تتوب فإنما التوبة تتبارك في مالك وأهلك ونفسك وصحتك، وتعود إلى ربك وقد غفر لك، حفظ الله العقل، فقد ورد عن أم سلمة المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل مسكر ومفتر، وأجمع علماء الأمة على أن المخدرات من المفترات. وإذ رأينا الخمر تسيطر على الناس حتى تصل إلى الإدمان، وإذ رأينا المخدرات
تسيطر على الناس حتى لا يستطيع أحدهم أن يتخلص منها فإننا نعلم أن التحريم ليس فقط للحفاظ على العقل، بل أيضا للحفاظ على النفس، ونعلم أنه ليس فقط للحفاظ على النفس بل هو أيضا للحفاظ على الدين، فإن الخمر أم الخبائث، وليس فقط هو حفاظا على الدين بل هو حفاظ على كرامة الإنسان وعلى ماله، ثم بعد ذلك وقبل ذلك. هو حفاظ على أن تقع في الشرك بالله فيسيطر عليك شيء يمنعك من طاعة الله من غير إرادة منك وبضعف فوق ضعفك البشري، هذا كلام مقرر عند المسلمين
لا جدال فيه ولا نقاش، وهو الذي حمى المسلمين في أحلك أوقاتهم وأزماتهم حيث سيطرت الشيوعية على بلاد واسعة من بلاد المسلمين. فحفظ هذا الحكم من تحريم كل ما يؤدي بالعقل حفظ عليهم دينهم وترى المسلم فيهم لا يصلي ولا يصوم لكنه لا يشرب الخمر، حفظ هذا الحكم المسلمين في الأرض عن أن ينسوا إسلامهم وعن أن ينسوا ربهم وعن أن ينسوا صلاح كونهم وصلاح أنفسهم، حكم بسيط متفق عليه لكنه في غاية الأهمية وفي مرتبة
عليا من الاهتمام نرى أن بعضهم قد أباح الخمر لنفسه ونرى أن بعض الكاتبين يسخر من تحريم الخمر ونرى فوضى في الفكر وفوضى في التعقل ولذلك يجب علينا أن نرجع إلى كتاب الله لنرى ما الذي يصد الناس عن التعقل إن الذي يصد الناس عن التعقل هو الهوى والذي يصد الناس عن التعقل هو حب الشهوات وحب العصيان والذي يصد الناس عن التعقل هو الجهل ولذلك نرى الله سبحانه وتعالى يقول
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون فجعل العلم سببا للتعقل فجعل الجهل سببا لعدم التعقل وربنا سبحانه وتعالى يقول أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، إذا هناك هوى دفعهم إلى عدم التعقل. أيها المسلمون يجب علينا أن نفهم دين ربنا لا في حفظ العقل من المسكرات والمخدرات فقط، بل
في كل ما يؤدي بالعقل إلى الضلال في كل ما يؤدي من بالعقل من الأمية التي شاعت وذاعت وتمكنت فينا ونحن أمة تقرأ، كيف يحدث هذا؟ هل هناك عدم جدية في إزالة الأمية من مجتمعاتنا؟ هل بلغ بنا الحال إلى أن قصرنا في الدعوة إلى ربنا إلى أن الناس قد شاعت فيهم الأمية الهجائية الأبجدية، لا يعرف أن يقرأ ولا أن يكون هذا مصيبة كبرى، حرص النبي من أول يوم في المدينة على إزالتها، ولذلك
أخذ يعلم الناس الكتابة والقراءة، ولما جاءت بدر وانتصر المسلمون ووقع أسرى من المشركين، جعل فداء الأسير تعليم عشرة من المسلمين الكتابة والقراءة صلى الله عليه وآله وسلم، فخرجت أمة عمرت العالم وعلمت المنهج العلمي. لها وبنت حضارة عجيبة غريبة يجب علينا أن نرجع ريادتها وقيادتها، ليس فقط الحفاظ على العقل من الهوى ومن الجهل والأمية، بل أيضا من الضلال ومن فقدان المعيار ومن فقدان الموجه
الذي يوجهنا إلى الله. فإذا فقدنا هذا في حياتنا فقد تلاعب بعقولنا، ولذلك يجب علينا أن نعرض عن الجاهلين. خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين وربنا سبحانه وتعالى أمرنا بالإعراض حتى نرى طريقنا ولا نشتغل بردود أفعال سخيفة نضل بها عن طريقه فإن الملتفت لا يصل عباد الله عليكم بحفظ العقل في أنفسكم وفي تفكيركم بإزالة الأمية وبالبعد عن المحرمات والضلال والهوى وبفعل النافع للناس
وافعلوا الخير لعلكم ترضاه آمين الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ونبيه وصفيه وحبيبه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح
للأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، اللهم يا ربنا صل وسلم عليه كما يليق بجلاله عندك أن يكون وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ونور قلوبنا واجمع شملنا ووحد كلمتنا واجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء همنا وحزننا واجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا، اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم. اللهم يا أرحم الراحمين ارحمنا، ويا غياث المستغيثين أغثنا. آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما وتفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا
تجعل فينا شقيا ولا محروما، وكن لنا ولا تكن علينا، فارحم ضعفنا. وميتنا وحاضرنا وغائبنا وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وانقلنا من دائرة سخطك إلى دائرة رضاك وأحينا مسلمين وأمتنا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين وألحقنا بنبيك صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة واسقنا من يده الشريفة شربة ماء لا نظمأ بعدها أبدا ثم أدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب، اللهم يا أرحم الراحمين استجب دعاءنا وتقبل منا صالح أعمالنا ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنة الخلد يا رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وأقيموا الصلاة إن الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.