حقيقة وجود الإله #16 | درجات المعرفة | أ.د. علي جمعة

أهلاً بكم اليوم مشاهدينا الكرام، سنفتح مع فضيلة الدكتور مسألة الإيمان بالله، وقطعاً الإيمان بالله هذا هو الهدف الأسمى والأعلى لكل الرسالات، رسالات السماء التي جاء بها الأنبياء والرسل الكرام إلى أهل الأرض، وهذه هي الهداية التي يتمنى ونتمنى كل البشر أن يصلوا إليها، ولكن في هذا الطريق، طريق الإيمان. بالله، يوجد الكثير من الأمور التي يجب أن نقف عليها اليوم، ومن بداية الحلقات أن نبدأ من حيث المعرفة ومن حيث العقل وصولاً للإيمان بالله. أرحب بفضيلة الإمام العالم الجليل الأستاذ الدكتور علي جمعة، أهلاً بفضيلتك. أهلاً وسهلاً بكم، أهلاً وسهلاً بفضيلتك مولانا. بداية كما تعوّدنا في هذه الحلقات. مع فضيلتك يكون المبتدأ دائماً هو العقل وهو المعرفة. في قضية الإيمان بالله، أين يقع العقل من هذه القضية؟ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة
والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. عرفنا العقل بأنه هو هذا المجموع من سلامة الحواس وسلامة الدماغ، هذا المجموع أيضاً من... المعلومات السابقة ومن الواقع المحيط، ولو بدأنا في مكونات هذا العقل حتى ندرك أين هذا العقل من الإيمان بالله، لوجدنا أن الواقع المحيط منه ما يُسمى بالعالم العلوي ومنه ما يُسمى بالعالم السفلي. والعلوي والسفلي هي مسافات، فالسماء وما فيها من النجوم والكواكب التي تسير بقوانين معينة هي العالم العلوي. والعالمُ السفلي هو هذا العالم المحيط بالأرض من الشجر والبحار والأنهار والإنسان والحيوان والجماد إلى آخر ما هنالك مما هو محيط
بالإنسان. وسلامةُ الحواس تجعل هناك صورةً لهذا العالم قد انتقلت إلى ذهن الإنسان وإلى دماغه وما رُكِّب في هذا الدماغ من قوة رابطة للمعلومات. من إثارة الأسئلة جعلته دائم السؤال ودائم البحث والتنقيب ومحاولة الإجابة على هذه الأسئلة، وهنا يأتي دور العقل في الإيمان بالله، لأن هناك ما يسمى بالأسئلة الكلية الكبرى التي أُثيرت في العقل البشري، كل العقول البشرية وليس عقلي أو عقلك، وليس عقل المؤمنين من دون الملحدين، بل هي أُثيرت في العقل البشري كعقل بشري ضابطاً ذلك قضية السببية دائماً. الإنسان
عندما يرى كتاباً فإنه يسأل من أين هذا؟ يسأل تلك الأسئلة الكبرى: من الذي كتبه؟ من الذي طبعه؟ من الذي أتى به هنا؟ فيسأل بأين، ثم إذا عرف يسأل بمن، ثم إذا عرف يسأل بلماذا، ثم إذا عرف يسأل بكيف. يقول أرسطو أن هناك في الفلسفات العليا ما لا علاقة له بأي دين من الأديان، وأن الفلسفة تقع ما بين "كيف" و"لماذا". "لماذا" يعني أنه يبحث عن السبب، و"كيف حدث هذا" أيضاً فإنه يبحث عن الماهية. وقد بدأ العلماء يتكلمون في هذه الأسئلة حتى أن هذه الأسئلة لها صياغات
في عندما نقول ما هذا؟ لماذا؟ كيف؟ أين؟ متى؟ من؟ كلها أسئلة، وكلها صيغ للسؤال عما يثيره العقل عندما وجد نفسه في هذا العالم. إذًا، فالعقل يتأمل ويتدبر ويربط المعلومات، تُثار فيه أسئلة يحتاج لهذه الأسئلة إجابات وافية، وقد حاول هذا فيما هو محيط به في عالمه السفلي، وأيضًا امتد. تفكيره فاستطاع أن يوجد قوانين للعالم العلوي فعرف شروق الشمس وغروبها وعرف شروق القمر وغروبه وعرف وتجمعت عنده معلومات وتراكمت هذه المعلومات حتى سأل هذا السؤال
أو الأسئلة الكبرى. ما هي الأسئلة الكبرى؟ سؤال عن الماضي، سؤال عن الحاضر، سؤال عن المستقبل، فهذه نسميها الأسئلة الكلية في ثقافتنا الأسئلة الكلية في ثقافة غيرنا يسمونها الأسئلة الكبرى، وسنرى الفرق بين الثقافتين، لكن على كل حال هي الأسئلة نفسها: من أين وجدنا؟ ماذا نفعل الآن؟ ما الذي نقوم به هنا؟ ماذا سيكون غداً؟ لأننا من ضمن ما رأيناه أن الإنسان يولد فتكون له بداية، وأنه يموت فتكون له نهاية ومشاركته. في هذا العالم وفي التفاعل معه محدود بهذا الزمن وجدنا الإنسان له طبيعة معينة،
فهو محتاج إلى غيره، محتاج إلى الطعام، محتاج إلى الشراب، محتاج إلى النوم، محتاج إلى العلاج، محتاج إلى وهكذا احتياجات الإنسان. ولذلك بعضهم يبدأ يتأمل ويتدبر ويصف هذا الإنسان بأنه حيوان لأن فيه حياة، حيوان لأنه... يتحرك بالإرادة حيوان لأنه موجود من هذه الموجودات متحرك، وليس جامداً كالجمادات، وليس مقهوراً كالنباتات التي توضع هنا وهناك. لا، بل هو متحرك، فبدأ يسأل ماذا أفعل ولماذا أنا هنا إلى آخره، وبدأت سلسلة الأسئلة، لكنها كلها منطلقة من سؤال: ماذا نصنع الآن؟ أي أنه
يسأل عن واقع الإنسان في إذا بدأ العقل يثير ما يوصلنا إلى هذه الإجابات، فالعقل استنبط من هذا العلم السفلي القصور الذاتي. نظرية القصور الذاتي هذه هي كأنها قانون يحكم عالم الأشياء. ما معنى القصور الذاتي؟ إنه لا توجد شيء يحدث هكذا بلا سبب، لا يوجد شيء هكذا. عندما أجد طعاماً... فلا بد أن هناك شخص أحضر هذا الطعام، فعندما أجد قمحاً فلا بد أن هناك من زرع هذا القمح، حتى لو كان القمح نبت وحده، فالإنسان يبحث كيف نبت
وحده، فنقول أصلاً هناك ريح، والريح حملت اللقاح، وبعد ذلك البذرة، فألقتها، وبعد ذلك جاء بعض الماء، حسناً، ولكن لا بد ظهر القمح هذا وبدأ يتضح للإنسان أمور وتصنيفات أخرى في أن هناك أموراً طبيعية تحدث في الطبيعة مثل وجود الغابات التي لم يزرعها أحد، ومثل وجود الحيوانات داخل هذه الغابات، وبدأ يتأمل ويتدبر، وهكذا إلى آخره، إلى أن وصل إلى هذه الإجابات الثلاث: أن الذي أوجدنا هو الله وأنه سبحانه. وتعالى موجود وأنه سبحانه وتعالى بما خلق حولنا من
العالم السفلي والعالم العلوي متصف بصفات الكمال، لأن الخلق على هذه الطريقة يدل على أنه بصير، ويدل على أنه حي، ويدل على أنه قادر، ويدل على أنه مريد، وهكذا كل شيء في الكون يعمل هكذا. الشمس لو اقتربت قليلاً... لو ابتعد القمر قليلاً، أو اقترب قليلاً، أو ابتعد قليلاً، كيف تسير الأمور بهذا الإتقان والإحكام؟ فلا بد أن العقل يأبى أن يكون كل هذا يتم بآلية
لا علاقة لها بموجود عظيم خارج هذا الكون، ولا أن تتم من غير موجود أصلاً. السؤال الثاني: هل تركنا هذا الموجود العظيم هكذا وحدنا بعد أن أعطانا مؤهلات القيام في هذا العالم من تفكير ومن حواس ومن عقل ومن معلومات سابقة ومن كذا إلى آخره، وعلى ذلك فنحن نعيش كما نريد وكما نقرر، أو أنه سبحانه وتعالى أوحى إلى بعض خلقه بالتكليف أفعل ولا تفعل، فوجدنا أن هناك من يدعي أنه قد اتصل. به هذا الموجود العظيم وأنه كلّمه وأوحى
إليه وأنه يقول افعل ولا تفعل، وهذا الذي نسميه في ثقافتنا الأنبياء والرسل، وهذا الذي نسميه في ثقافتنا الوحي والكتب، وهذا الذي نسميه بعد ذلك بالتشريع. ولكن هو يجيب على السؤال الثاني: ماذا نفعل الآن؟ نفعل الآن أننا ينبغي علينا أن ندرك الحق. والباطل، الخير والشر، وأن نقوم بفعل ما أراده الله وبالانتهاء عما نهى عنه الله. السؤال الثالث: فماذا سيكون بعد ذلك؟ وعندما نموت أين نذهب؟ وأين كذا؟ فأجاب هذا الوحي بأن هناك يوماً آخر سنرجع فيه إلى ربنا للعقاب أو للثواب، للحساب، وأنه لن يتركنا هملاً ولن يتركنا عبثاً
نفعل ما ونفسد كما نريد أو نصلح كما نريد، ولكنه سبحانه وتعالى جعل على الفساد عقاباً وجعل على الصلاح جزاءً. هذه الأسئلة بهذه الإجابات تريح البشر. كم عددنا الآن؟ نحن الآن سبعة مليارات. هل هم مرتاحون؟ كم عدد المرتاحين منهم؟ ما مقدار عددهم؟ سبعة؟ لا، قليل منهم مرتاح. سبعة وقليل من الإجابات متوائماً مع نفسية الإنسان من الداخل، ومتوائماً مع استفزاز العقل لإرادة الإجابة. كم واحد أصبح يقول: "لا، أنا لست راضياً عن هذا النظام"؟ قلة ليسوا مقتنعين
بهذه التفسيرات أو التأويلات. يا مولانا، أنا لست أريد كل هذا، لدي طريقة أخرى للتفكير أو لدي كذا... إلى آخره. فأقول له: حسناً. ما هي هذه الطريقة؟ وكم عددكم؟ كم عددكم تريدون أن تعيشوا بخلاف هذا الذي توافق عليه السبعة مليارات؟ فأنتم كم عددكم؟ في الحقيقة، الإحصاءات الاجتماعية تقول أن الذي ينكر هذا الموجود يعني هو يجيب على السؤال الأول ويقول أن السؤال الأول هذا لا يوجد أحد. هذا جاء هكذا فنحن لا نعرف أحياناً من الإجابات حتى يُلغي هذا
فيقول لك ليست مشكلتي أنا لا أريد أن أجيب عليه، حسناً وماذا سيحدث بعد الموت، قال: أنا لا أريد أن أجيب، لا أعرف، هل انتبهت؟ فيكون إذاً قد تنصَّل ممن الذي أوجده، لا شأن لي بذلك، وممن الذي دعوة هذه القصة لا يحبها أغلب البشر، لأنه ما زال عقله يلح عليه، وماذا سيكون بعد ذلك؟ ما بعد ذلك؟ بما أنك لم تجبني، فبدأت مدارس، كان في المائة... هؤلاء، الإحصاءات تقول أن الذي ينكر هذا الوجود، الذي ينكر الوجود كله، لا يوجد كائن هكذا. لا يتعدى ثلاثة أو أربعة في المائة تماماً، والباقي يقول إن لديه يقين
بأن هناك خالقاً بالضبط. وبعد ذلك، هذا الخالق توجد فيه درجات في هذه النسب سنتكلم فيها إن شاء الله. طيب، اسمح لي بعد الفاصل إن شاء الله أن نتحدث عن فكرة هل يوجد لدى الإنسان شعور داخلي هناك إله حتى وإن أنكر حتى وإن أسرّ والحب هل يكون في داخله شعور بهذا أم لا إن شاء الله بعد الفاصل ابقوا معنا أهلاً بحضراتكم مرة أخرى مولانا في إطار قضية الإيمان بالله وبناءً على ما ذكرت فضيلتك بأن الأغلبية ممن يعيشون على هذا الكوكب يشعرون ويؤمنون بأن هناك إله خالق، والقلة هم من ينكرون ولا يكترثون بهذه القضية ولا يفكرون من أين جئنا، وهم على درجات، أي أن بعضهم يقول بإنكار الألوهية وإنكار الموجود أصلاً، وهؤلاء لا يتعدون ثلاثة أو أربعة في المائة، وهناك من يقولون إنه موجود لكنه غير
متصف بصفات الكمال، وهؤلاء يوسعون الدائرة أكثر من يكونون خمسة أو ستة في المائة منهم من يقولون: نعم، الله موجود ومتصف بصفات الكمال سبحانه وتعالى، ولكن ليس له علاقة بنا، فهو ينكر الرسل والكتب والتشريع. وبعضهم يقول: لا، هو موجود وكل شيء ومتصف بصفات الكمال ويوحي، لكنه يوحي إلينا جميعاً، أي أنه يلهمنا جميعاً لأنه عطوف ورحيم. وجميل وكل شيء، لكن نحن لا نريد أدياناً وقصة اليوم الآخر هذه، بل نحلها بطرق مختلفة. حسناً، ما هو الطريق المختلف؟ ذهبوا إلى مدارس من الهند القديمة قالت بتناسخ الأرواح لكي تحل مشكلة الحساب، فأنا لن أعود مرة ثانية
إلى ربنا، وإنما روحي هي التي ستعود إلى الأرض، فإن كنت رجل خير سيعود في شيء جميل هكذا مريح، وإذا كنت رجلاً شريراً ستعود في جسد يُعذَّب، ثم إذا تحمل مع هذا العذاب صبراً وما إلى ذلك سيعود مرة أخرى، والروح تخرج هكذا إلى الأبد. فنحن سنظل هكذا على الدوام، روح تدخل وروح تخرج وما إلى ذلك، وبدأوا في التقسيم والتراسخ قال إن التناسخ هو أن روح إنسان تخرج وتدخل في إنسان آخر. وما هو التفاسخ؟ قال إنه دخول الروح في الحيوان، أي أن روحي بعد أن تخرج تدخل في قطة أو كلب ليتم ضربها في الشارع، أو تصبح كلباً في أمريكا حيث يستخدمونه
بديلاً عن الأولاد، فبدلاً من الزواج يربون مثل، أو يخرج كلب في الفلبين فيأكلونه، أشياء من هذا القبيل. الذي الآخر هو الترسخ أنه لا، أن هذه الروح توضع في حجر، توضع في شجرة، توضع في أشياء من هذا القبيل. فيكون هناك تناسخ وتفاسخ وتراسخ، وهذا محل الإيمان باليوم الآخر. بدأ البشر يعرضون أفكاراً كثيرة جداً في هذا. في هذا المجال، هناك أناس يقولون: نعم، الأديان موجودة وكل شيء، لكننا لسنا مؤمنين بالإسلام. هناك أناس مؤمنون بالإسلام، وهكذا كل الأديان الإبراهيمية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وهؤلاء يمثلون نصف سكان الأرض تقريباً، ويؤمنون باليوم
الآخر. توجد أديان كثيرة أخرى مثل الكونفوشيوسية، والشنتو، والبوذية، والهندوسية، وغيرها إلى... آخره وهؤلاء يأخذون النصف الثاني من البشر، وهؤلاء يعني منهم من يؤمن بقضية الوحي وبقضايا إطلاقية الأخلاق وهكذا، ومنهم من لا يؤمن بهذا ويرى أنه لا وجود للإله ولا وجود لكذا، وأنها ليست إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. إذاً فالناس مختلفة في النسب. مختصة في هذا المجال. طيب، هل الإنسان مهما كانت درجته في هذا التصنيف أو هذا التدرج، هل كل إنسان يا مولانا يُخلق ولديه فطرة وغريزة هكذا من الله سبحانه وتعالى بأن هناك إله، بأن هناك خالق، لكنه إما أن يصدقه أو إما أن يعاند ويكابر؟ انظر
إلى تهيؤ الإنسان. لمعرفة الحقيقة الموجودة عند كل الناس، فإن كل الناس لديها تهيؤ لأنه عندما أعرض عليهم حقيقة وجود الإله، يوافقون ولا يعترضون. ليس هناك شيء في النفس البشرية يرفض أو يصطدم عندما تعرف حقيقة وجود الإله فترفضه أو ترده أو تصطدم معه. لا يوجد شيء كهذا، ففطرة الإنسان تقبل هذه الحقيقة. الثاني الذي تسأل عنه هو: هل هذه الفطرة تدعو الإنسان للإيمان؟ الأشاعرة يقولون: لا. فعندنا مذهب أهل السنة والجماعة أنه بعد التدبر وبعد الاحتكاك بالخلق وبعد التأمل
وبعد ذلك، يقولون: لا، ليس هناك شيء داخل الإنسان يدفعه دفعاً إلى أن يؤمن بهذا الإيمان، فلا بد أن يتعلم، ولا بد أن لم يجد في نفسه معارضاً مصادماً لهذا، لكننا رأينا بشراً، وهؤلاء البشر، الرجل الذي يتبع الطاوية، اجتمعنا معه مرة في سنغافورة، قال: يا جماعة نحن ملحدون، نحن لا نؤمن بالإله. طبعاً هو يقول هذا الكلام لأنه تربى على ذلك، ربّوه على أنه لا يوجد إله، لا يوجد إله مفارق، نحن... في حياتنا الدنيا هذه لا يوجد إله مفارق، فتربى على ذلك. فهل هذه
فطرته هكذا؟ حسناً، أنا سأقنعه بأن هناك إلهاً، لن يجد في نفسه رفضاً لهذا. فيكون إذاً الفطرة المعنية بها أنك لن تجد فيها ما يدفع الإنسان إلى الكفر، ولن تجد فيها أيضاً ما يدفعه دفعاً إلى الإيمان. نعم، أي لا فيها هذا ولا فيها ذاك، وهديناه النجدين، فلا اقتحم العقبة. يعني هو بعدما بيّن له ربنا هذا وذاك، أصبح هو المختار بأن يدفع نفسه هنا أو هناك فيُحاسب. ولذلك لدينا هذه نقطة خلاف بيننا نحن معاشر الأشعرية وبين الماتريدية، وهي الوحيدة التي نحن.
نستطيع القول أن في فطرة الإنسان ما يدعوه للإيمان بالله، في داخله شيء يدفعه دفعاً. أبو منصور الماتريدي يقول هذا، ونحن في الأشعرية نقول لا. هل انتبهت؟ إذن لماذا يقول ربنا سبحانه وتعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"؟ لماذا إذن أهل الفترة ناجون؟ كيف إذا كان عندهم... من الفطرة ما يدفعهم للإيمان ولم يؤمنوا فسيُؤخذون. المرتدون يقولون ليس هناك إلا الإيمان بالموجد الحكيم، وهذا هو فقط ما تدعو إليه الفطرة. أما مسألة الصلاة والصوم وأن هذا حرام وهذا حلال، فلا، لسنا مكلفين بذلك. لكن أن يقول إنسان
أنه ليس لهذا الكون إله، فهذا... لا نسمح للأشاعرة بالقول بأنه طالما لم يأتِ للشخص رسول يفهمه ويلفت نظره لينظر إلى الكون الأسفل والكون الأعلى، ويتدبر ويفكر، ويستثير عقله، ويريه الطريق الآخر. فطالما لم يأتِ أحد ليعلمه هذا الأمر، فإنه ناجٍ ويكون في كنف الله سبحانه وتعالى، ومن الممكن أن يعفو عنه، وانتهى الأمر لأنه... لماذا لن يعذبه؟ لن يعذبه لأنه لم يرسل إليه أحداً ينبهه، فيكون العذر بالجهل. هنا الأشاعرة لديهم هذه المسألة. أما الماتريدية فيقولون: لا، هذه فطرة الإنسان داعية، وهو مدرك أن هناك خالقاً، شيء بداخله يشعر بأن هناك خالقاً، لكن من
الممكن أن يكون غير عارف بالطريق وكيفيتها. لكن الشعور بأن هناك خالقاً، ولو أننا لا نعرف الطريق، ليس لنا شأن بذلك، إلا أن هناك إحساساً داخلياً يدعوه ويتحدث إليه ويناديه ويُلح عليه بأن هناك خالقاً. ولذلك هؤلاء الملحدون هم أناس كاذبون، المطلقون يقولون هكذا، لأن هناك شيئاً في داخلهم يقول لهم: لا، أنت كاذب، أنت تخدع نفسك. هل هناك شخص قال له وعلّمه وجلس معه وفهّمه ووضّح له واستثار ذهنه وقال له انتبه جيداً، انظر كيف؟ أم أنه مثل طرزان في جزيرة بدران؟ إذا كان مثل طرزان في جزيرة بدران فهو معفو عنه. ماذا يعني طرزان في جزيرة بدران؟ هذا يعني أنه لم يخبره أحد بشيء. هكذا
إن طرزان هذا، شخصية السينما التي أعرفها، هذه الشخصية هي شخص يعيش وحده في كوكب منعزل، لم يصله أي خبر أو رسالة. فهذه هي الإجابة على سؤال حضرتك. سؤالك عميق جداً، لكننا نحاول أن نبسّط الأمور. عمرو يكون عميقاً إلا مولانا. القضية أن الله... ماذا يا إخواني الأمر؟ أما الأشاعرة فقالوا: لا أبدًا، لا بد من معلم، من رسول، من مرشد، من مثير للفكر، تتم على يديه الهداية بالدلالة والإرشاد. أما الماتريدية فقالوا: إلا وجود الخالق، نعم، كل كلامكم هذا صحيح في بقية الشريعة من أولها لآخرها، إلا هذا الوجود، إلا أن هذا الكون من الذي ماذا صنع، أتنتبه؟ نعم، يقول أن الشمس، يقول أن القمر، يقول أن الجن، يقول أي شيء ولا
يهم، لكن يجب أن يستقر في ذهنه أن هناك مَن أوجد هذا. فالآخرون قالوا له حتى ولو بنفسي، لأنه من الممكن جداً أنه لا يستطيع الوصول إليها وحده، لأن الفطرة فيها دلالة النجدين الدافع على دخول واحدة منهن. حسناً مولانا، هنا قضية الإشهاد. البعض يعتقد ويقول إن قضية الإشهاد هذه ستظل باقية في الحمض النووي الخاص بالبشر، بأنه في يوم من الأيام، وإن كنا لا نعي هذا اليوم وكنا في الغيب، هناك إحساس بأنه حدث إشهاد والله سبحانه وتعالى ذكر. هذا صحيح، ولذلك عندما تعرضوا لقضية الإشهاد قالوا: الإشهاد هو تلك التهيئة. كما نقول هو مهيأ، ليس عنده مانع، ليس عنده معارض، فهو هذه التهيئة. نعم، هو التهيئة. ولذلك عندما
أسير وأنبه: "ألست تذكر يوم أشهدكم؟" يبدأ يتذكر أن هناك إحساساً، أنت... ألست أنت غير منتبه؟ راجع نفسك، تأمل في ذاتك، تأمل فيما حولك. ويقول: نعم صحيح والله أنا منتبه، لكن المشكلة ليست هنا. المشكلة أنه إذا لم يقل "نعم صحيح والله" وعقله لم يستوعب الأمر، فهل سيُؤاخذ أم لا؟ الماتريدية يقولون سيُؤاخذ لأنه يتغابى، والأشاعرة يقولون لا، ليس كذلك. سيُؤخذ لأنه ليس هناك ما يلفت انتباهه. تعال فقط وانظر، انظر إلى هذا، ففي يوم ما ستجده بداخلك. هذا هو جوهر القضية، فالمسألة ليست قضية وجود هذا الشعور
المتوافق الملائم للإيمان بالله، لا، هو موجود، ولكن من الذي يثيره ويُخرجه ويُبرزه وينبه إليه؟ وهل هذا شرط المؤاخذة أم لا؟ نعم، ما دام لا يوجد مثير له فسوف لا يُؤاخَذ، هذا كلام الأشاعرة وهذا كلام الماتريدية، وكلاهما من أهل السنة والجماعة، وكلاهما يجوز لأي مسلم أن يتبناه حسب قناعاته وحسب اعتقاداته وحسب ما يبنيه بعد ذلك على هذا الأمر. نحن أشاعرة، يعني أيضاً نرى أن الأشاعرة أرفق بالإنسان. أرفق بالإنسان من الماتريدية في هذا الموضع، في هذا الموضع، لأن عدد المسائل التي
نختلف فيها معهم واحد وعشرون مسألة. يقولون لنا ألفاً وخمس مئة مرة: صحيح، إن الواحد والعشرين مسألة منها خلافات لفظية وليست حقيقية، والحقيقي منها ثمانية، الحقيقي الذي بيننا وبينهم ثمانية، وهذه واحدة منهم، نعم، بارك الله فيكم مولانا، أهلاً وسهلاً، شكراً جزيلاً لفضيلتكم، شكراً لحضرتكم، شكر موصول لكم مشاهدينا، نراكم.