خطبة الجمعة | أركان المناجاة 2011 - 07 - 08 | أ.د. علي جمعة

الحمد لله وكفى وسبحان الله الذي أرسل إلينا النبي المصطفى المجتبى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. الحمد لله الذي خلق الموت والحياة، خلق الليل والنهار، وخلقنا فرزقنا وهدانا،
فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين. والصلاة والسلام على نبينا الأمين. اللهم يا ربنا صل وسلم عليه في الأولين. صلِّ وسلِّم عليه في الآخرين، وصلِّ وسلِّم عليه في كل وقت وحين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، وأتباعه الأبرار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة
وأدى الأمانة. الأمانة ونصح للأمة وجاهد في سبيل الله حق جهاده واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله
فقد فاز فوزًا عظيمًا. أما بعد، فنحن في شهر شعبان وهو شهر نتهيأ فيه لرمضان. أكرمنا الله سبحانه وتعالى فيه بمكارم عدة، من هذه المكارم أنه استجاب لمناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها". كان رسولنا الكريم يناجي ربه ويعلمنا كأمة تعبد
ربها أن نناجي ربنا سبحانه وتعالى، وأن المناجاة سبب لاستجابة الدعاء. لها أركانٌ غَفَلَ عنها كثيرٌ من الناس. أول هذه الأركان أن نُخلص النية لله. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى. فأول أركان المناجاة الإخلاص. اقصِد ربك وحده واسأل ربك وحده. قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا سألت
فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على..." أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا ما كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك بشيء إلا ما كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، يعني تم القضاء، فلا ملجأ من الله إلا إليه. الإخلاص في مبدئه ومنتهاه مبني على التوحيد الخالص، فلا بد أن تخرج. أخرج ما سوى الله من
قلبك ولا يبق فيه إلا الله، هذا أول ركن من أركان المناجاة. قد نرى تقلب وجهك، والوجه في اللغة يأتي بمعنى المواجهة، ويأتي بمعنى هذا الوجه الذي في الرأس، ويأتي بمعنى العلوم، ويأتي بمعنى الإخلاص، يعني أخلص وجهه لله، يعني وجّه وجهه. فعندما وجّه وجهه لجهة واحدة وهو... الله سبحانه وتعالى أول شيء قد نكون غفلنا عنه كثيرًا إلا من رحم ربي
أننا لم نحرر الإخلاص في قلوبنا لله حتى نصل إلى درجة المناجاة، ونريد أن نعود في هذا الشهر الكريم عندما نتذكر أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب لنبيه، ونرى كيف استجاب لنبيه فينص على أنه استجاب. له من تقلب بوجهه في السماء الإخلاص، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يدعُ مرةً ولم يدعُ مرتين ولا عشرة، بل إنه استمر في الدعاء. تحولت
القبلة بعد ثمانية عشر شهراً من الهجرة النبوية الشريفة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يستقبل بيت المقدس لأنه كان قبلة أبيه إبراهيم لكنه كان يستقبل الركنين اليمانيين: الركن الذي فيه الحجر والركن اليماني الآخر، وبذلك يكون قد وضع الكعبة أمامه وهو اتجاه في نفس الوقت بيت المقدس، فيستقبل بذلك الكعبة وبيت المقدس. فلما تحول
إلى المدينة، والمدينة شمال مكة، أصبح بيت المقدس في الشمال ومكة في الجنوب، وافترقت القبلتان. فدعا ربه ليس يوماً ولا يومين ولم ييأس بعد شهرٍ أو شهرين، بل إنه استمر. فالركن الثاني من المناجاة هو الاستمرار والتداوم، لأن الدعاء في ذاته عبادة فهو يعبد ربه. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الدعاء هو العبادة"، وفي رواية: "الدعاء مخ العبادة".
إذاً لا بد من الاستمرار. ويقول بيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وكان كما وصفته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: كان عمله ديمة أي دائماً مستمراً. والديمومة ركن من أركان عمارة الأرض ونجاح العمل، والشخص الذي يعمل تارةً ويترك تارةً يقول فيه رسول الله صلى الله عليه. وسلَّم ولا أحب أن تكون مثل فلان كان يقوم الليل ثم تركه، بل
إنه يريد الحفاظ ولو على القليل، لأن هذا من شأنه أن يربي الملكات ومن شأنه أن يربي الصدق مع الله، ومن شأنه أن يستجيب الله سبحانه وتعالى لمناجاته. الإخلاص والاستمرار الركن الثالث هو التدبر والتأمل، وقد حُرمنا. كثيراً من التدبر ومن التأمل المناجاة تحتاج أن تتحدث مع ربك بعد تفكر وتدبر ﴿أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ربنا سبحانه وتعالى مدح الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ دَعَوْا بعد الذكر والفكر. فالمناجاة لا بد أن تشتمل على الفكر، الفكر في كتاب الله المنظور في الكون، في السماء، في الأرض، في النبات، في الحيوان، في ذات الإنسان. "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها". والفكر في كتاب الله، كتاب الله المسطور. التفكر
نعمة حُرمنا منها، فأصبحت الحياة سريعة لا نقف أمامها ونتفكر، أصبحت... الأحداث متتالية فتقدم السعي قبل الوعي، ومراد الله منا أن يتقدم الوعي قبل السعي. قبل أن تسعى يجب أن تتدبر وأن تتأمل وأن تتفكر، فإن هذه الأمور، هذا التدبر، هذا التأمل ركن من أركان المناجاة. الركن الرابع في المناجاة هو أن
تدعو ربك بما في قلبك، تحدثه سبحانه وتعالى. تناجيه، تكلمه، تشكو له، ترجوه، تتضرع إليه، تتوسل إليه، تطلب منه. كلمة يمكن أن تُفضفض ما في صدرك وأن تفيض ما فيه مع ربك. المناجاة في ركنها الخامس مسألة سرية، فهي سر بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه أحد،
لا من قريب ولا من بعيد. إذا فعلنا ذلك عدنا. إلى ربنا سبحانه وتعالى فاستجاب لنا، فإذا استجاب الله لنا لأننا عدنا إليه، تقوى إيماننا وصلب، فاستمر أحدنا يشعر بلذة الإيمان في قلبه، يشعر أن شيئاً في قلبه يتحرك ويزداد إيمانه بالله، وكلما رأى أن الله يستجيب له، يرى الله في الأكوان وفي كل شيء له آية تدل على. أنه بعد
هذا لا يستطيع أحد أن يقول لك تعالى أقم لك ألف دليل على عدم وجود الله، فإنك ستبتسم وتضحك لأن قلبك قد اطمأن بالإيمان، وهذا هو ما أدركه هرقل عندما سأل أبا سفيان: أيزيدون أم ينقصون؟ يعني أتباع محمد، قال: بل يزيدون. فلما فسر له هذا السؤال قال... له وسألتكَ هل يزيدون، فقلتَ: نعم يزيدون. وهكذا شأن الإيمان، إذا دخل
القلب لا يخرج منه أبداً، وإذا دخل القلب زاد كل يوم. والله سبحانه وتعالى جعل علامة المؤمنين أنهم إذا تُلِيَت عليهم آياتنا زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون. المناجاة غير الدعاء، فالدعاء قد يكون مفرداً في مرة، والدعاء يكون... في الصلاة وفي خارج الصلاة، ولكن المناجاة هي جلسة خلوة مع ربك، أرشدنا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتحنث الليالي ذوات العدد في غار حراء،
فكان يذهب بذاته لمدة حتى إذا نفد الزاد نزل فتزود لمثلها، وحُبِّبَت له الخلوة، وأرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى الاعتكاف، فالاعتكاف ثمة خلوة مع النفس، خلوة يعيش الإنسان فيها مع ربه، خلوة تساعده على التأمل والتدبر والتفكر وعلى المناجاة. المناجاة تشتمل على الدعاء وعلى قراءة القرآن وعلى التأمل والتدبر والتفكر، تشتمل على الحديث مع الله. وعندما قسّم
أهل الله درجات التقوى، كانت هناك درجة تحدثوا عنها وعنونوها بأهل الحديث مع. الله وأهل الحديث مع الله هم أهل المناجاة، فالمناجاة أعلى من الذكر وأعلى من التلاوة وأعلى من الدعاء وأعلى من الخلوة لأنها تضم ذلك كله. كل ذلك نتعلمه في هذا الشهر الشريف من قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" في هذا الشهر الشريف وفي الرابع. منها رزقَ اللهُ السيدةَ
فاطمةَ عليها السلام بسيدنا الحسين الذي شرّف مصر ونوّرها، فكان حِبَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعاش سيداً ومات شهيداً إماماً ثائراً لا يبتغي إلا وجه الله. مَنَّ الله على مصر بأن جاءها الرأس الشريف فدُفِنَ في هذا المقام الشريف في المكان المعروف لكم. جميعًا يذكرنا ذلك بقوله سبحانه: "قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى". ومن
أجل أن نصل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نود قرابته ونحب أهل بيته. فتميز المصريون بحب أهل البيت عبر القرون، لم يخرجهم ذلك إلى الانحراف ورفض الصحابة كما فعل الرافضة، ولكن بالرغم من ذلك. تمسكوا باحترام الصحابة الكرام وبحب أهل البيت الأطهار. مرت مصر بفترات عصيبة، منها فترة تحكم فيها أناس كانوا يكتبون على المنابر: من لعن وسب فله دينار وإردب، يعني من لعن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فله ذلك.
ولم يأخذ أحد من المسلمين المصريين شيئاً من هذا، وحافظوا على... جلالة أبي بكر وعمر وإلى يوم الناس هذا مسلم أصيل يفرق بين الحق والباطل ويعرف كيف يناجي ربه في هذا الشهر الشريف. فإذا جاء رمضان عبدنا الله سبحانه وتعالى بصيام نهاره وبقيام ليله وبخلوة معه سبحانه وتعالى نناجيه فيه. فاللهم تقبل منا صالح أعمالنا. ادعوا ربكم. الحمد لله والصلاة
والسلام. على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ونبيه وحبيبه وصفيه، فاللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى المسلمين إذا ما جاء النصف من شعبان أن يصوموا. حتى يدخل رمضان، فإذا جاءت الجمعة القادمة فإن النبي ينهاكم عن الصيام حتى دخول رمضان،
إلا من كانت له عادة مستمرة قبل ذلك بصيام الاثنين والخميس أو بشيء من هذا، وإلا من كان عليه أو كانت عليها أيام قضاء لم تقضها أو لم يقضها فإنه يقضيها في النصف الثاني من شعبان ولا بأس بذلك لأن هذا أمر مفروض يجب أن نلتفت إليه نهانا ونحن لسنا أصحاب عادة بالصيام فيجب علينا أن نفطر قبل رمضان بأسبوعين اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار وأرنا
الحق حقاً واهدنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وجنبنا اتباعه اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم تعلَّمْ أنَّكَ أنتَ الأعزُّ الأكرمُ، اهدِنا في مَن هَدَيتَ، وعافِنا في مَن عافَيتَ، وتولَّنا في مَن تولَّيتَ، وبارِكْ لنا فيما أعطَيتَ، واصرِفْ عنا شرَّ ما قضَيتَ، واجعلْ جَمْعَنا هذا جَمْعاً مرحوماً، وتفرُّقَنا مِن بعدِه تفرُّقاً معصوماً، ولا تجعلْ فينا شقيّاً ولا محروماً، اشفِ مرضانا، وارحمْ موتانا، واغفِرْ لحيِّنا وميتِنا وحاضرِنا. وغائبنا ورُد الغائب واهدِ العاصية يا رب العالمين. اللهم أنجح الطلاب، اللهم وفقهم إلى ما فيه رضاك. اللهم انقلنا من دائرة سخطك إلى دائرة رضاك. اللهم إنا نعوذ
بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم انقلنا من حالنا إلى أحسن حال واهدنا إلى أقوم طريق واهدنا إلى ما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم يا رب العالمين، نعوذ بك من كل ما استعاذك منه نبيك محمد وعبادك الصالحون، ونسألك من كل خير سألك منه نبيك محمد وعبادك الصالحون. اللهم رضاك والجنة، ونعوذ بك من غضبك ومن النار، متعنا بالنظر. إلى وجهك الكريم في جنة الخلد يا أرحم الراحمين، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر،
والله يعلم ما تصنعون.