دورة التراث الإسلامي بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي جـ4 | 13-2-1995 | أ.د. علي جمعة

دورة التراث الإسلامي بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي جـ4 | 13-2-1995 | أ.د. علي جمعة - التراث
السلام عليكم، الحمد لله والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. في هذا اللقاء الرابع نتحدث عن عنصر من عناصر الشفرة التي كُتب بها التراث، والذي نحتاج إلى معرفته حتى نتمكن من فهم دقيق لما تحت أيدينا من صياغات تراثية. ونعالج اليوم قضية الصياغات اللغوية والمنطقية. هناك مفهوم... محدد وتصور محدد تتداخل
فيه الصياغة اللغوية مع الصياغة المنطقية وتشكل طابعاً عاماً لصياغات الأفكار عند السلف. النقطة الأولى التي تحددنا في ذلك هي قضية الجملة المفيدة. نحن جميعاً ندرك ما معنى الجملة المفيدة، والجملة المفيدة احتلت مكاناً بارزاً ومهماً في علم البلاغة وفي علم النحو وفي علم الأصول وفي... علم المنطق وهكذا وفي
غيرها من العلوم، والجملة المفيدة عندما تم تحليلها وجدوها أنها تنقسم إلى قسمين ظاهرين وإلى ثالث غير ظاهر خفي، واختلفت تسمية كل قسم من هذه الأقسام باختلاف العلوم. "الولد قوي" و"الشجرة مثمرة" جملة مفيدة. أهل المنطق يتكلمون عما أسموه بالموضوع والمحمول، الموضوع هو ذلك الشيء
الذي سنتحدث عنه، هو موضوع الكلام، هو الذي سأضعه أمامي، ثم بعد ذلك أصفه، أُخبر عنه، أحمل عليه، أُسند إليه، وكلها ألفاظ متفقة في المعنى، ولكن كل علم من العلوم يستعمل لفظًا من تلك الألفاظ التي قد استعملتها أنا الآن. ففي علم البلاغة يقولون: المسند والمسند إليه، وفي علم النحو يقولون... المبتدأ والخبر أو الفعل والفاعل، وفي علم المنطق يقولون الموضوع والمحمول، وهكذا. ولذلك فإن الجملة المفيدة نفسها قد
وجدناها يسمونها القضية، المسألة، الدعوة، وهكذا. وكل هذا إنما هو شيء واحد. فعندما يتكلمون عن مسائل العلم، فإنهم يعنون الجمل المفيدة المذكورة في ذلك العلم. ففي علم الفقه مثلاً: البيع حلال والسرقة. حرامٌ والصلاةُ واجبةٌ والعقدُ بالصيغةِ الفلانيةِ صحيحٌ، كلُّ هذه الجملِ هي مسائلُ علمِ الفقهِ، وموضوعُ علمِ الفقهِ هو الموضوعُ في كلِّ تلك الجملِ. فإذا ما تأملناها لوجدنا أنَّ الموضوعَ
في علمِ الفقهِ هو فعلُ المكلفِ، وأنَّ المحمولَ (الجزءَ الثاني من الجملةِ، الخبرَ) هو حكمٌ من أحكامِ اللهِ سبحانه وتعالى. البيع والعقد الفلاني، كل هذه أفعال بشرية تصدر من البشر. حرام وواجب ومندوب ومكروه ومباح، كل هذه أحكام شرعية نصف بها الفعل البشري. فإذا بنا نخرج بجملة مفيدة، نخرج بمسألة، أي نخرج بدعوى وقضية. ومن أجل ذلك يقولون إن موضوع علم الفقه هو فعل المكلف، لو تأملنا
في الجمل الموجودة. في علم الأصول مثلاً لوجدنا أن موضوع علم الأصول هي الأدلة الشرعية من حيث إثباتها للحكم، من حيث إثباتها للحكم. الكتاب ليس من ناحية أنه موجود في المصحف ولا كيف يُرسم ولا حفظه، إنما من ناحية معينة بالذات وهي كيف نستنبط منه الحكمة الشرعية. السنة، الإجماع، القياس وهكذا هذه الأدلة. لا من حيث ذكرها ولا من حيث ذاتها وإنما من حيث إثباتها للأحكام الشرعية من هذه الحيثية بالذات،
هذا هو موضوع أصول الفقه. مسائل أصول الفقه: الكتاب حجة، الكتاب يشتمل على أوامر ونواهٍ، الأوامر والنواهي، الأمر للوجوب، الأمر يفيد التكرار، لا يفيد التكرار، يفيد المرة، يفيد الماهية، المسائل مسائل مكونة. أي جمل مفيدة، فقضية الجملة المفيدة المكونة من المبتدأ والخبر أو الفعل والفاعل، أي من المسند والمسند إليه، قضية مهمة ننظر فيها إلى ما يسمى بالإسناد. فبالنسبة إلى الشجرة، قد نسبنا إليها وأسندنا إليها
الإثمار فقلنا: الشجرة مثمرة. فهناك عنصر ثالث خفي ليس مذكوراً وهو العلاقة بين الشجرة وبين... الثمر الشجرة مثمرة الشجرة فهمتها وحدها تلك النبتة المرتفعة في السماء، الثمرة مفهوم، الثمرة الشجرة هذه مثمرة، هذه علاقة بين الشجرة وبين الإثمار قد أثبتها وقد أنفيها فأقول الشجرة ليست مثمرة أو غير مثمرة، إذاً فالنسبة معناها إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، هذا معنى النسبة عند شجرة
أثبت لها. إنها مثمرة أو أنفي عنها أنها مثمرة حتى يصلني ما تريد أن تقوله ويكون ذلك مفيداً لي، فينبغي عليّ أن أبحث عن تمام الإسناد. فإن قلت لك: "الشجرة الطويلة الخضراء التي بالخارج"، كل هذا أحدد به الموضوع، كل هذه صفات لتحديد موضوع معين، فلا بد لي من أن أخبر وإلا فلو... أنني قد وقفت فإنك تتعجب وتقول ما لها ما للشجرة الخضراء الطويلة الموجودة في الخارج،
ماذا تريد أن تخبر عنها. لقد حددتها في صورة ساذجة في صورة مفردة. أين النسبة؟ إنني حتى الآن لم أسمع النسبة. أنا أريد أن أستمع إلى النسبة، أين هي؟ وعلى ذلك فإنك لو سكت ووقفت فإنك... تكون قد تكلمت بكلام غير مفيد، بكلام ناقص، ناقص فيه، ناقص في الإسناد. أين المسند الذي سأسنده إلى هذا الموضوع الذي قد حددته؟ لا بد علي أن أقول "مثمرة"، تقول: "ارتحت الآن" إنك تريد أن تقول إن الشجرة مثمرة. فهمت، الشجرة التي رأيتها
بالأمس أنا وأنت، ما زال الكلام ناقصاً. لا بدَّ عليَّ أن أُخبر وأقول: قد قطعت، سيأتي، قد قطعت، خبر، لماذا تلك الشجرة. وهكذا علينا عندما نبحث ونقرأ في التراث أن نبحث عن النسب التامة، أن نبحث عن الجمل المفيدة، وإلا إذا لم نستطع أن نحصل للمبتدأ على خبر ولا للفعل على فاعل، فإننا لا نفهم في بعض الأحيان. في الصياغات التراثية قد يطول الفصل بين المبتدأ والخبر، أو يقرأ
الإنسان قراءة مخطئة فيعتقد أن شيئًا هو الذي أخبر عن شيء آخر وهو لم يخبر بعد. كأن يفهم من "الشجرة الخضراء" أن المعنى هو "الشجرة خضراء"، أو من "الشجرة التي بالخارج" كأنه قد فهم منها "الشجرة بالخارج"، وهذا خطأ لأنه في الحقيقة تلك الصفات قامت. بتحديد الموضوع فقط ولا بد لها من نسبة تنتسب إليها وإسناد يُسند إليها حتى تتم الجملة المفيدة، فعلينا إذاً بصورة أساسية أن نتفهم هذه المسألة
وأن نبحث عن الجمل المفيدة. رأينا ذلك من معوقات الفهم عدم إدراك قضية الجملة المفيدة، تصورنا أن البناء اللغوي كله مبني على قضية الجملة المفيدة. سيفيدنا كثيراً في فهم كثير من أمور التناقض أن الجملة المفيدة دعوى أو قضية أو مسألة، والدعوى والقضية والمسألة تحتاج منا إلى دليل. "الصلاة واجبة" جملة مفيدة،
ولكن من الذي قال إن الصلاة واجبة؟ ما الدليل على ذلك؟ وهنا سنلاحظ أن لدينا مجموعة من الجمل المختلفة، فهناك جمل طريقة إثبات النسبة فيها. طريقة إثبات العلاقة بين الخبر والمبتدأ فيها ترجع إلى الحس والإدراك الحسي، وهناك بعض الجمل طريقة إثبات النسبة فيها ترجع إلى العقل، وهناك ما يرجع إلى النقل، سواء كان ذلك النقل عن أهل تخصص معين أو طائفة معينة، أو كان ذلك النقل عن الشرع الشريف مثلاً، ومن
هنا... كانت الأدلة منها ما يكون دليلاً حسياً ومنها ما يكون دليلاً عقلياً ومنها ما يكون دليلاً شرعياً ومنها ما يكون دليلاً وضعياً أي تواضعت طائفة معينة عليه. إن هناك فارقاً كبيراً بين قولنا النار محرقة وبين قولنا الصلاة واجبة وبين قولنا واحد زائد واحد يساوي اثنين وبين قولنا إن السماء فوقنا والأرض تحتنا فقولي أن النار محرقة أمر حسي يريد مني أن أجرب
ذلك وأن أكرره حتى أحكم على تلك الجوهرة التي تسمى بالنار أو ذلك الجوهر المسمى بالنار بأنه محرق وذلك بأن أضع يدي فيها فإذا بها تسبب الإحراق ولا بد علي أن أكرر ذلك حتى يتبين لي أنها محرقة للجميع، فقد أظن أنها تحرق الرجال دون النساء، فوضعت امرأة يدها فاحترقت، أو الكبار دون الصغار، أو المصريين دون سواهم، أو المسلمين دون الكفار، أو الكفار دون المسلمين. ولكنني بعد تجربة واسعة، كل بشر يلامس النار فإنه يحترق. ومن هنا فإن
الدليل على إسناد الإحراق للنار حتى تنشأ تلك. الجملة المفيدة: "النار محرقة" دليل حسي تجريبي. وفيه عادة، والعادة معناها العود والتكرار. ولكن "الصلاة واجبة" ليست من هذا القبيل، فإن الذي وصف الصلاة بالوجوب هو الشرع، فلا بد علي من أن أقيم الدليل من الشرع لا من الحس، لأنها أمور ليست حسية. وهذا بخلاف إطلاق كلمة السماء على ما... فوقنا والأرض على ما تحتنا، وكان يمكن أن تضع العرب كلمة أرض على ما فوقنا أو كلمة سماء على ما تحتنا، ولكن اللغة التي قد تربيت عليها وسمعتها ممن قبلي
عن طريق النقل أن السماء هي ذلك العلو والأرض هي ذلك السفل، ولذلك كون السماء فوقنا أمر يرجع فيه إلى النقل. إلى أننا نسمي هذا الذي فوقنا وهو مشاهد بالحس لا يحتاج إلى دليل سماءً، وأننا نسمي الحيوان المفترس الذي في حديقة الحيوانات أسداً ولا نسميه رجلاً مثلاً. وهكذا نسمي الرجل الذكر من بني آدم. إذاً تختلف المسائل والقضايا فتختلف الأدلة المثبتة لها، مثبتة لماذا؟ مثبتة لتلك النسبة، فما معنى
ذلك؟ الإثبات نعم تأملوا هنا وهكذا بدأوا كما أشرح أنا الآن أنهم وجدوا أن اللغة مكونة من جمل مفيدة وأن الجمل المفيدة مكونة من جزئين وبينهما علاقة وأن هناك أدلة تثبت تلك العلاقات وتلك النسب ثم بعد ذلك تنوعت الأدلة فأصبح هناك دليل شرعي وأصبح هناك دليل وضعي وأصبح هناك دليل نقلي وأصبح هناك دليل حسي أو عادي وهكذا لتثبت العلاقة.
تثبت لماذا لم تصدقني؟ هل تحتاج إلى دليل حتى تصدقني؟ لماذا عندما قلت لك أن الشجرة مثمرة كان هناك احتمال أن تصدقني؟ لو صدقتني بمجرد الكلام لكان ذلك كافياً، وإلا ستقول لي: اثبت ذلك. وأقول لك: المشاهدة. تعالَ وانظرْ، هذا هو الثمر، إنه موضوع المشاهدة وهو الدليل. وإذا قلتُ لك الصلاة واجبة، تقول: ومن قال لك هذا؟ يجب أن أقيم لك دليلاً. قال تعالى: "أقم الصلاة"، "أقم الصلاة" أمر، وكل أمر يفيد الوجوب، فالصلاة واجبة. ما دليلك على أن "أقم الصلاة" أمر؟ الوضع اللغوي أنه "أقم" فعل أمر، اسمه فعل أمر. أمر هذا ما دليلك
على أن كل أمر للوجوب؟ الاستقراء والتتبع والسنة والإجماع. وسأقيم لك الدليل فتقتنع أنت بالمقدمتين، وتقتنع بعد ذلك بأنه صحيح. الصلاة واجبة، فما الذي يحدث في هذه القصة؟ الذي يحدث عندما تأمل فيه العلماء والمفكرون أنني قد مررت بمرحلة تسمى إدراك المفرد ثم بمرحلة أخرى. أسموها إدراك النسبة مع التسليم لها والإذعان، وأسموا هذه المرحلة التصديق، وأصبح عندنا قسمان للإدراك بحصول صورة الشيء في الذهن: الأول هو ما يسمى
بالتصور، والثاني هو ما يسمى بالتصديق. إذاً هناك تصور وهو إدراك المفرد، وهناك تصديق وهو إدراك النسبة على جهة الإذعان والخضوع والموافقة. فعندما قلت الشجرة تكون... في ذهني صورة للشجرة، وعندما قلتُ "مثمرة" تكوّنت في ذهني صورة للثمرة والإثمار، وتكونت أيضاً في ذهني العلاقة بينهما،
أن تلك الشجرة مثمرة. وإدراك الشجرة وإدراك الإثمار والثمرة وإدراك نسبة الثمر إلى الشجرة كله من باب التصور، لأنه إدراك مفردات دون أن أذعن في نفسي وأسلّم وأصدق أن ذلك كائن. وأن ذلك صحيح وأن هذه الجملة المفيدة التي فهمتها قد طبقتها إذاً في مرحلتين: مرحلة الفهم ثم مرحلة التصديق. كل أحد من المسلمين أو الكافرين يعلم ما معنى عبارة "محمد رسول الله". محمد يعلمه أنه ذلك الشخص الذي ولد في مكة
ومات في المدينة، قبره يزار إلى اليوم، أتى بدين. نسمة الإسلام، وهكذا رسول الله يعلّم ما معنى كلمة "رسول الله". "رسول الله" هذه معناها أنه بشر، وأنه موحى إليه، وإلى آخره. لا يعلم تلك النسبة، أن هذا الشخص فيه هذه الصفة، يعلم هكذا تصوراً وفهماً، لكن هل يصدق؟ إن صدق آمن، وإن لم يصدق لم يؤمن. ففي... فرق بين الفهم وبين التصديق. التصور هو مرحلة الفهم لكن التصديق مرحلة أخرى. الإذعان هنا أمر أساسي،
هو إدراك للنسبة. نعم، والنسبة طبعاً لا بد لها من مسند ومسند إليه، من موضوع ومحمول، من مبتدأ وخبر. لكن هذا الإدراك لم يكن مطلقاً إنما كان على جهة الإذعان والتسليم. والخضوع والتصديق، ولذلك سمّوه التصديق. هنا مفردات: شجرة، حجرة، بقرة، أي شيء. وهنا نسب جمل مفيدة، ولكنها أيضاً يكتنفها الإذعان والتصديق. عندي صورة في ذهني قائمة أريد أن أنقلها إلى ذهنك حتى تفهم ما الذي يدور في ذهني،
فكيف أوصلها إليك؟ هي مفردة. قالوا: توصلها إلى ذهن السامع عن طريق... ما يسمونه بالتعريف الحدّ، فالتعريف موصل للتصور. فلو قلت لي مثلًا: "ما الحنطة؟" في كلمة لا أفهمها (حنطة)، قلت لك: "هذا القمح". و"ما معنى البرّ؟" قلت لك: "هذا القمح". هذا يسمونه تعريفًا لفظيًا، أي أن هناك كلمة "قمح" أنت تعرفها وتفهمها،
ولكن كلمة "حنطة" و"برّ" لم تسمع بها من قبل. فكأنني قد نبهت ذهنك إلى ما هو في داخله من أن الحنطة أو البُر معناه ذلك القمح الذي تعرفه. ما الأشاوث؟ قلت لك: الأسد. عرفت لك شيئاً قد يكون التعريف لشيء أنا أريد أن أدرك كنهه، فأريد أن أكلمك عنه ما هو. وهنا نلجأ إلى التصورات الكلية التي ذكرناها في... في المحاضرة قبل الماضية قلنا إن الوجود منه ما هو متحيز ومنه ما ليس بمتحيز،
والمتحيز هو الجوهر، وغير المتحيز هو العرض. هذا الجوهر إذا كان مفرداً نسميه الجزء الذي لا يتجزأ، أو إذا كان مركباً أسميناه جثماً أو جسماً. هذا الجسم عندما لاحظناه وجدنا أنه أنواع وليس نوعاً واحداً، وهذا الجسم قد يكون نامياً. ينمو أي يزيد، وقد يكون غير نامٍ. هذه السبورة منذ أن تركناها في المرة الفائتة نرجع فنجدها كما هي لا تزيد، ولكننا إذا كان لدينا نبتة فإننا نرى أن النبتة تزيد شيئاً فشيئاً. إذاً، فهناك من الموجودات ما هو نامٍ: الطفل يكبر، والثمرة تنضج،
والنبات ينمو، وهكذا. وهناك ما ليس بنامٍ. وهو الجماد، وعندما تأملنا في القسم الذي ينمو وجدناه أنه ينقسم إلى قسمين: قسم متحرك بالإرادة وقسم لا يتحرك بالإرادة. القسم الذي لا يتحرك بالإرادة مثل النبات. فعندما تركت النبتة هنا بالأمس، وإن كانت بذرة قد نمت، إلا أنها لم تتحرك من مكانها. على أنني إذا ما تركت البقرة فإنني... أجدها تحاول أن تتحرك حتى تسعى إلى طعامها وإلى رزقها، وهنا هي رأت شيئاً من الحشيش أو شيئاً من العشب فصارت نحوه حتى تأكله، ورأت شيئاً من الماء
فصارت نحوه تسعى حتى تشرب. إن الحيوان متحرك بالإرادة، ولكن النبات ليس متحركاً بالإرادة، قد يتحرك بالهواء، قد يتحرك بالضوء، قد يتحرك. بردود فعل انعكاسية مثل النباتات المتوحشة لكنه لا يتحرك بالإرادة لأنه ليست عنده إرادة. إذاً فأنا أرسم خريطة الآن وأقول إن الموجود منه متحيز وغير متحيز، والمتحيز منه جوهر ومنه جسم، والجسم هذا منه نامٍ ومنه غير نامٍ، والنامي هذا منه متحرك ومنه لا، والمتحرك هذا منه ناطق مفكر
ومنه... بهيمة غير مفكرة رسمت أمامي خريطة شجرة أجد فيها مستويات متعددة، أجد الشيء له فرع وله أصل، له ما هو تحته وله ما هو فوقه، وهناك شيء لا تحت له، وهناك شيء لا فوق له. كل هذه الأنواع، ابتدأ المناطقة في تسميتها باسم المخصوص، فقالوا على الشيء الذي تحته أنواع. تقسيم جنس وعلى هذا نوع، فالموجود جنس الأجناس، والناطق النوع
المطلق، النوع الذي ليس تحته شيء. ونجد أن كل واحد بعد ذلك كالمتحرك هو جنس لما تحته وهو نوع لما فوقه. النامي جنس لما تحته لأنه يشتمل على نوعين: متحرك وغير متحرك، وهو نوع لما فوقه لأنه نوع من أنواع. الجسم وهكذا فأصبح عندنا مصطلحان: الجنس والنوع، وكما نرى فإن الجنس والنوع شيء واحد، أي أنهما متماثلان باعتبارهما، إلا أن الجنس تندرج تحته أفراد مختلفة تماماً بعضها عن بعض. فالحيوان جنس، لكن يندرج تحته البهائم، ويندرج
تحته الإنسان الناطق، والإنسان الناطق يختلف اختلافاً بيّناً ظاهراً واضحاً تاماً عن البهيمة، إلا أن الكل سواء في الإنسانية أفرادها لا تختلف في كل الإنسانية لكنها تختلف عندما يكون الأمر جنساً، ولذلك الإنسان ليس جنساً لأنه ليست تحته أنواع مختلفة، فالذكر فيه كالأنثى، والكبير فيه كالصغير، الكل قابل
لأن يكون حيواناً ناطقاً. ما الذي يفرق نوعاً عن نوع في الجنس؟ ما الذي يفرق الإنسان عن البهيمة؟ الإنسان حيوان. والبهيمة حيوان، فما الذي يفرق بينهما؟ قالوا إن الذي يفرق بينهما هو النطق، فإن الإنسان ينطق. ليس ينطق بمعنى يتكلم، بل ينطق بمعنى يفكر، يرتب أموراً معلومة ليتوصل بها إلى مجهول. فإن الإنسان يفكر وأن البهيمة لا تفكر. القردة وهي أكثر الحيوانات ذكاءً وأكثر
الحيوانات تصدر منها حركات عجيبة إذا ما وُجدت. عصاً فإنه يستخدمها ليحصل على الموز من على شجرته مثلاً أو ثمرة جوز الهند، يمسك العصا ويحاول أن يحصل على طعامه ورزقه منها، لكنه لا يحتفظ بها للغد. أما الإنسان فإنه بعدما يحصل على جوز الهند، فإنه يحتفظ بالعصا للغد حتى يكرر المحاولة بها إذا خرج القرد من. بيته صباحاً وكانت العصا أمامه فإنه لا
يأخذها معه حتى يحتاط لأمره لكن الإنسان يأخذها معه حتى يحتاط لأمره، إذاً فهناك ثمة اختلاف بين ذلك الحيوان الذي تصدر منه بعض الأفعال التي تدل على نوع ذكاء وبين ذلك الإنسان، إنه التفكير وترتيب الأمور المعلومة لأن الإنسان قد حدثت عنده عملية فكرية. في ذهنه تقول أن هذه العصا مفيدة وأنه يمكن لي أن أواجه غداً ما قد أواجهه اليوم فأستفيد منها فيما قد استفدت منه، وهكذا يفكر فاحتفظ بها وتصبح لها عنده قيمة. كل هذه الترتيبات التي خلقها الله في الإنسان فعمَّر بها الكون من ذلك التفكير مفقودة عند الحيوان قطعاً، فما...
ذلك الفاصل بين الإنسان والحيوان تلك الصفة، فاسمعوا هذه الصفة الفصل. إذاً فعندنا ثلاثة ألفاظ: الجنس والنوع والفصل. ولكننا رأينا خواصاً يختص بها النوع، ورأينا خواصاً يشترك فيها النوع مع غيره من الأنواع تحت الجنس الواحد، وهذه الخواص لا تميزه بحده، لا تميزه دائماً، وذلك مثل الضحك للإنسان. إن الإنسان... عندما يضحك فإنه يضحك لأنه قد أدرك شيئاً متناقضاً بين أمرين بينهما مفارقة، فهو يضحك من أجل
هذه المفارقة. وعلى هذا بُنيت النكات والمزاح، أنني أقول شيئاً أعني به شيئاً آخر، أو مواقف فيها طرائف وغرائب ومخالفات ومفارقات، يتعجب الإنسان فيضحك. هذا التعجب لا يحدث للبهيمة فلا تضحك وليس هناك. لا توجد بهيمة يصدر منها الضحك أبداً، لأنها لا ترتب أموراً فيتضح لها من ذلك الترتيب مفارقات، فتسبب لها هذه المفارقات تعجباً، فيحدث ذلك التعجب ضحكاً. أبداً فهذه خاصية خاصة بالإنسان. لكن
الإنسان يمشي والأسد يمشي، إذاً فهذا عَرَض عام يشترك فيه أفراد الجنس الواحد وإن اختلفت أنواعهم، بالتأمل والتدبر والاستقراء والتتبع. قالوا إنَّ هذه الخمسة هي فقط التي استطاع الإنسان أن يرصدها فأسموها بالكليات الخمس. فالكليات الخمس إذاً يمكن أن تكتبوها هي: الجنس، النوع (اترك سطراً أمام كل واحدة)، الجنس (واترك أمامها سطراً)، تحتها النوع، الفصل، الخاصة، العرض العام. فالجنس يعرفونه بأنه كلي ذاتي،
نقول يُطلق، يعني نقول على كثيرين على... كثيرون على أفرادٍ كثيرة مختلفين في الحقيقة، أسد وإنسان وما إلى ذلك. نمثل لها بنقيضين: الحيوان؛ النوع كلي مقول على كثيرين متفقين
في الحقيقة، وهذا بنقيضين: الإنسان. والفصل كلي ذاتي مقول على كثيرين متفقين في الحقيقة أيضاً في جوابي، في جواب أي شيء هو في جنسه عندما نقول للإنسان حيوان. تقول أي حيوان منهم المفترس أو آكل النبات أو الناطق، فأقول لك: لا، الناطق. خلاص، إذن كلمة "الناطق" هنا أجابت عن سؤال عندما يُذكر الجنس. أما الخاصة فهي كلي عرضي مقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في
جواب ما هو في خاصته. والعرض العام كلي عرضي مقول على كثيرين. مختلفين في الحقيقة في جواب أي شيء هو في عرضه. قالوا إذا أردنا أن نعرف شيئًا فننقل ذلك الفرض الذي حصل في أذهاننا إلى أذهان المستمعين لنا، فإنه يجب علينا أن نكوّن التعريف من الجنس ومن الفصل، ويمكن أن يكون من الجنس ومن الخاصة، ويمكن أن يكون
من... الجنس فقط أو من الفصل فقط أو من الخاصة فقط، فإذا كان من الجنس والفصل يسمونه الحد التام، أو من الفصل فقط أو الجنس البعيد والفصل يسمونه الحد الناقص، وإذا كان من الجنس والخاصة فإنهم يسمونه الرسم التام، فإن كان من الجنس البعيد والخاصة أو من الخاصة فقط. فإنهم يسمونه الرسم الناقص، وهكذا لو أضفنا إلى هذا التعريف اللفظ الذي ذكرناه أن القمح هو البُر، ولو أضفنا إليه التقسيم
أن نقسم الشيء حتى نعلمه، ولو أضفنا إليه التعريف بالمثال، لتمت لنا أنواع التعريف عند المناطقة. ولكن أهل الكتابات الأخرى غير المنطق يُطلقون على الكل تعريفاً، فيقولون: ويُعرَّف بكذا. وأخيراً، قد يكون هذا التعريف رسماً عند المناطقة أو حداً عند المناطقة، هذا أمر واسع، لكن كل تعريف لا بد لنا أن نبحث فيه عن الجنس وعن الفصل الذي يحدد النوع من بين الأنواع المختلفة. شاع ذلك وذاع في تعريفات الألفاظ الشرعية. كلمة "بيع" لا بد أن يكون لها تعريف، كلمة... إطلاق كلمة طلاق، كلمة صلاة، كلمة نية وهكذا، نأتي بكلمة هي
شبيهة بالجنس ونأتي بعدها بقيود هي فصل أو فصول تحدد المراد، وأصبحت فلسفة التعريف وحكمة التعريف أمراً شائعاً وضرورياً حتى يفهم كل إنسان ما يريده الآخر، وحتى يُبنى الكلام بعد ذلك على ما قد حُدد أو عُرف في. أول الكلام، لأننا لو لم نفعل ذلك لاختلفنا في الظاهر وقد نكون متفقين، ولتشتت بنا البحث، ولاعترض بعضنا على بعض وهو يقول نفس الشيء. ومن أجل ذلك، وحتى نزيل الخلاف، وحتى يفهم بعضنا بعضاً، كانت مسألة التعريف. ومن أجل أن تُضبط مسألة التعريف تكلموا عن الكليات الخمس وتكلموا
أيضاً. عن أنواع ذلك التعريف كما شرحناه الآن أننا بالتعريف نتوصل إلى التصور، فكيف نتوصل إلى التصديق؟ سَمَّوْه القياس المنطقي أو الدليل، أن نرتب أموراً معلومة ثم نتوصل من هذا المعلوم إلى شيء جديد. وكما ذكرنا نقول: الصلاة واجبة، كيف نثبتها؟ فنقول: قال تعالى "أقم الصلاة" وهو أمر، والأمر للوجوب إذاً. فصلها واجب، ترتيب هذه الجمل لاستخلاص جملة مفيدة أخرى منها هو الذي عالجه المنطق في قضية
المقدمات. ومن أجل ذلك كان من المهم علينا أن ندرس هذا المنطق وأن ندرس هذا الجزء من قضية القياس المنطقي الذي له أشكال وأنواع وكلام معين حتى نفهم كلامهم. لقد استعملوا كل ذلك استعمالاً. سهلاً يسيراً لأنه كان من المسلمات عندهم، وسنرى عند التطبيق الآن أنهم قد استعملوا تلك الألفاظ وتكلموا عليها بسهولة ويسر، وكأنه نوع من أنواع الخط. فما معنى الجنس؟ وما معنى الفصل؟ وما معنى المقدمات؟ وما معنى القياس الحملي والقياس الاستثنائي؟ وما معنى الملازمة؟ وما معنى الاستثنائية؟ كل ذلك موجود في... علم المنطق فلا بد علينا من إدراك تلك الصياغة حتى ندرك ما يقولون وإلا
فإننا نكون غير مدركين لأغلب ما يقول هؤلاء الناس، وحينئذ تدخل ذلك حجر عثرته لسفهه. إذاً، فمن الممكن أن نقول إن هناك مجموعة من الصياغات اللغوية والمنطقية ينبغي علينا أن ندركها وأن نستوعبها، وقد لا يكون. الوقت قد سمح لنا باستيعابها، ولكنني ألقيت ما قد يكون لافتًا للنظر من وجوب دخول ذلك المضمار قبل الخوض في أي كتاب من كتب التراث. عند
التمرن على ذلك، ستتكون لدى الإنسان منا ملكة يستطيع بها أن يحلل الكلام وأن يفهمه فهمًا أعلى من الفهم الذي كان يفهمه من قبل. هيا بنا مرةً ثانيةً مع ذلك النص الذي اخترناه، ونرى أهمية ما ذكرناه. كتاب البيع أخّره عن العبادات لأنها أفضل الأعمال، ولأن الاضطرار إليها أكثر، ولقلة أفراد فاعله. هنا نرى نوع صياغة
ينبغي أن نلتفت إليه في كتاباته، أنه يذكر الجملة ثم بعد ذلك يعقبها بدليلها، وقد يذكر بعد الدليل. التعليل: لماذا كان هذا دليلاً لذلك، وهكذا دائماً وفي ذهنه قضية الجملة المفيدة، وينبغي علينا أن ندرك ذلك. يقول آخر: "البيع عن العبادات جملة لأنه قد أخبرني بشيء قال فيه البيع آخر عن العبادة". نعم، كتب الفقهاء إذا
ما فتحناها وجدنا كتاب ردع العبادة وفيه الصلاة والصيام والحج والزكاة وكذا. ثم بعد أن ينتهي من العبادات يدخل في المعاملات، يدخل في البيع، فلم يؤخر البيع عن الصلاة والزكاة. فهنا أخّره عن العبادات. أين الدليل؟ الدليل الحسي: ما أنت في يدك الكتاب، وهذا المصنف قد كتب كتاب البيع بعد كتاب الحج. ولماذا طلبوا التعليل؟ نعم، هو أخّره، هذه دعوى ودليلها الحس. لكنْ لِمَ؟ لماذا؟ آخرها هنا نطلب التعليل. هل آخره نطلب الدليل؟ لِمَ آخره نطلب التعليل؟ فإذا
به يقول: لأنها أفضل. لا، لا، وليس منها للتعليل. أهي؟ وكثير من الناس يقرأ سريعاً فيغفل عن ذلك. آخره عن العبادات جملة مفيدة دليلها معها. هذه قضايا دليلها معها لأنها واقع مثلما أقول. أنا هنا هذا دليل معي ما يحتاج لدليل التعليل لأنها أفضل الأعمال تعليل آخر ولأن الاضطرار إليها أكثر تعليم ثالث ولقلة أفراد فاعله إذا هذه علل ثلاثة اجتمعت فكانت سبباً في اختيار المصنفين تأخير كتب
المعاملات وأولها البيع على كتب العبادات ولطفه في الأصل مصدر فلذا افرضه لطفه في الأصل مصدر، فلذا أفرده. جعل هذا علة لذكر الأول. كتاب البيع، كتاب البيع، لماذا لم يقل كتاب البيوع؟ لأن لفظه في الأصل مصدر، وتكلمنا عن أن المصدر حدث، والحدث لا يتعدد، ولذلك فإن المصادر لا تُجمع إلا إذا رُوعي فيها اختلاف الأنواع، فلذا أفرده
وإن كان تحته أنواع، يعني حتى... ولو كان تحته أنواع يعني هو ملتفت إلى هذا المذهب الآخر الذي يجمع فيه الفقيه أو الكاتب لفظ البيع على بيوع، حيث أنه يعد كل نوع من أنواع البيع بيعًا مستقلًا، فليس المقصود أن البيع يتعدد حدثًا ومصدرًا، وإنما المقصود أنه قد اختلفت أفراده تحت نوعه ثم صار اسمًا لما. هناك مقابلة على ما سيأتي، ثم إنني أريد به أحد شقي العقد الذي يُسمى من يأتي به بائعاً، فيُعرِّف. وكلمة "يُعرِّف" هنا، أصبحنا ندخل في مسألة الجنس والفصل. هو يريد أن ينقل إلى ذهنه تعريفاً معيناً عن البيع، فيُعرِّفه بأنه
تمليك بعوض على وجه مخصوص. تمليك، ما دام قال... إنها أن ذلك تمليك يبقى التمليك هو الجنس مثل الإنسان حيوان ناطق تمليك، فكان أحدهم قال: وأي نوع هو من أنواع التمليك؟ هو يسأل بذلك عن الفصل، تمليك أي نوع من أنواع التمليك. إن أسباب الملك كثيرة، منها الميراث، ومنها الهبة والوصية، ومنها الاستيلاء على المباح، فلو أنني قد ألقيت. بشبكتي في النهر أو البحر وأخذت منه سمكاً فهو لي، ولو أنني قد حصلت على بعض الماء العذب بمجهود مني فهو لي، فإن الاستيلاء على
المشاعات المباحة يسبب الملك. هناك أسباب كثيرة تسبب الملك، فأي نوع هو من هذه؟ فيقول بعض على وجه الخصوص، فكان ذلك فصلاً كلمة تملك أو... تمليك جنس وكلمة بعوض على وجه مخصوص ستكون فصلاً ويقابله الشراء الذي هو الشق الآخر الذي يسمى من يأتي به مشترياً ويعرف بأنه تملك بعوض كذلك ويجوز إطلاق اسم البائع على المشتري وعكسه اعتباراً والتعبير بالتمليك والتملك بالنظر للمعنى الشرعي كما سيأتي وإن أريد به المركب من الشقين معاً بمعنى العلاقة الحاصلة من
الشقين التي ترد عليها الإجازة والفسق يقال لها لغةً مقابلة شيء بشيء على وجه المعاوضة، فيدخل فيها ما لا يصح تملكه كالاختصاص، وما لو لم تكن صيغة كالمعاطاة، وخرج بوجه المعاوضة نحو السلام. ويُعرف شرعاً بأنه عقد، يصح كلمة عقد. هي الجنس؛ العقود كثيرة، هناك عقد سلام، هناك عقد نكاح، هناك عقد وكالة. العقود كثيرة، فأي نوع وأي فرض هو من أنواع العقود؟ فيقول: عقد معاوضة مالية فقط. هل
هو معاوضة فقط؟ قال: لا، لا يكفي. إذًا فلا يكفي هذا القيد أنه معاوضة، بل لا بد أن نضيف إليه بأنه... مالي لأنه لو معاوضة فقط قد لا تكون على مال تفيد ملك عين أو منفعة فقط ملك عين أو منفعة ولا هناك أيضاً فصول أخرى قال على التبادل فقط ولا يمكن أن يكون هذا ليس بيعاً قال لا على وجه القربى فكل قيد من هذه القيود قد أخرجت شيئاً كما سنرى في السطور القادمة وأركانه ثلاثة: عقد ومعقود عليه وصيغة، وهي في الحقيقة ستة كما سيأتي. ولنبدأ الآن، والعقد
في التعريف جنس، كلمة "عقد" في التعريف جنس، وشأنه الإدخال، شأنه أن يُدخل في ذهن الإنسان حقيقة جنس معين وهو العقد، لكن إذا كان بينه وبين فصله عموم، عموم من وجه. يخرج بكل منهما ما دخل في عموم الآخر، فكلمة "حيوان" عامة تشمل الإنسان وتشمل الأسد وتشمل الزرافة، فهو الجنس، والجنس من شأنه أن يكون عاماً. أما كلمة "ناطق"
فهل تعم الإنسان وغيره؟ تكلم بعضهم في ذلك وقالوا إن كلمة "ناطق" تعم الإنسان والملائكة، فالملائكة موصوفون في القرآن. بصفاتٍ تؤكد أنهم ليسوا من البهائم، بل إنهم يتكلمون مع الله، ويوحي الله إليهم، ويرسلهم بالرسالة. فلا بد، لا أستطيع أن أقول إن عندهم عقلاً حتى لا تكون الكلمة فيها تجاوز، إنما هم عقلاء، هم يعقلون. على كل حال، قد لا يكون بمخٍ ودماغ، نعم، لكنهم يعقلون، هم قومٌ يعقلون. ويفقهون
ويُكلَّفون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والله سبحانه وتعالى قد فضَّلهم وكتبهم وزادهم في الخلق. وهكذا صفات تؤكد لي أن هؤلاء الخلق خلقٌ ناطق، خلقٌ مكلَّف من قبل الله سبحانه وتعالى، مأمور، وليسوا هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. هذه صفات الحفاظ، لكن الملائكة لهم الصفات. الذي إذا كان ناطقًا قد يكون بشرًا، وقد يكون عندما نضع الدائرتين معًا: الحيوانية من جهة والناطقية من جهة أخرى،
فإنه تكون هناك مساحة مشتركة بين الدائرتين هي الإنسان. عندما يكون لدي دائرة هكذا ودائرة هكذا، فإن هناك مساحة مشتركة. إذا كانت هذه هي الحيوانية وهذه هي الناطقية، فإن الحيوان... الناطق هو ذلك المشترك. قال علماء المنطق إنه عندما يكون للجنس عموم وأيضاً يكون هناك عموم للفصل، فإنني عندما أضع الجنس مع الفصل يتحدد المراد ويقيد عموم كل طرف من الأطراف عموم الآخر. الحيوانية تقيد بأنها ناطقة،
والناطقية تقيد بأنها حيوان. وهذه مسألة صعبة عند المناطقة أدركوها بعد مناقشات كثيرة. ولم تكن هذه النقطة عند أرسطو بل هي من منتجات المسلمين وهو تخصيص عموم كل طرف من الأطراف بعموم الآخر فيقول: لكن إذا كان بينه وبين فصله عموم من وجه يخرج بكل منهما ما دخل في عموم الآخر، ولذلك قالوا: خرج بالعقد المعاطاة، وبالمعاوضة الهدية، وبالمالية النكاح، وبإفادة ملك العين. الإجارة وبغير وجه القربى القرض، والمراد
بالمنفعة بيع نحو حق الممر، والتقييد بالتأبيد فيه لإخراج الإجارة أيضًا، وإخراج الشيء الواحد بقيدين غير معيب، وهذا التعريف أولى من التعريف بأنه مقابلة مال بمال على وجه مخصوص لما لا يخفى، ثم البيع منحصر في خمسة أطراف: الأول في صحته وفساده، والثاني في جوازه ولزومه والثالث في حكمه قبل القبض وبعده والرابع في الألفاظ المطلقة والخامس في التحالف ومعاملة العبيد وأفضل المكاسب. انتهت معاملة العبيد، انتهت الجملة. ينبغي علينا أن نقف عند جملة مفيدة نسبياً، ودخل في قضية ثانية تماماً. قال: وأفضل
المكاسب الزراعة ثم الصناعة ثم التجارة على الراجح. انظر إلى الصياغة. اللغوية في كلمة "الراجح"، وسنعود مرة أخرى لشرح التعريف. عندما يقول "على الراجح" فإن هذا معناه أن هناك مرجوحاً وأن هناك قولاً آخر غير هذا. إذاً ففي المسألة قولان أو ثلاثة أو أربعة، هناك خلاف، ومن أجل ذلك عبّر بكلمة "الراجح"، لأن بعضهم قد فضل التجارة مطلقاً وعدّها من أفضل. المكاسب وبعضهم قد فضل الصناعة واستدل بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمسك بسيف وقال: "وددت أن صنعنا هذا..." وإلى آخره، ولكن الراجح عنده عند هذا الفريق من العلماء
أن أفضل المكاسب هي الزراعة ثم الصناعة ثم التجارة. بعضهم يكره الزراعة ويقول ينبغي على الإنسان وعلى الناس أن يتركوا الاستكانة إلى الأرض وأن تكون الزراعة في حدود الأكل والشرب فقط وليس في حدود الامتهان بها وكذا أرى، لكن نحن الآن نريد أن نتبع من كلمة راجح من الناحية اللغوية تفيد أن هناك اختلافاً بين العلماء، فلما يكون البيع هو عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد ليس على وجه القربى. ماذا لو قلنا أنه عقد في مقابلة، أو مثلاً عقد
مالي، أو عقد يفيد ملك عين، ولم نقل كلمة معاوضة؟ سيكون عقداً مالياً يفيد ملك عين، أو من فعل التأبيد ليس على وجه القربة. هذه تصدق على الهدية، هدية الرد. هدية الرد مثل ما عندنا. في ريف مصر توجد ما يُسمى بالنقطة، وهذه النقطة تعني أن الإنسان عندما يتزوج أو عندما تحدث عنده مناسبة، يأتيه الناس ويعطونه نقوداً لذلك المولود الجديد أو لذلك الزواج الجديد أو حتى الوفاة، على أن يردها لهم. فهم لم يعطوها له هكذا،
ولم يعطوها له على وجه القربى، وليست هدية. مطلقة ليست صدقة، إنما يريدون أن ترد إليهم. فعندما أكون قد أعطيته شيئًا، فينبغي عليه عندما أتزوج أنا أن يعطيني نفس الشيء أو ما يستطيع أن يعطيه. ولذلك ليس فيها معاوضة وليس فيها رد، بل فيها هدية، هكذا كل واحد على استطاعته. لو قلنا إنه عقد معاوضة يفيد ملك. منفعة عين أو منفعة، فيمكن أن تفيد ملك المنفعة. ولكن الزواج هكذا فيه معاوضة لأنه فيه نوع ما، ولكنها ليست معاوضة مالية. نحن في الزواج لا يشتري الرجل المرأة وليست فيه
معاوضة، ولكن فيه مهر يُعطى للمرأة إكراماً لها. وهذا لا بد علينا أن نذكره ونفرق ما. بين النكاح والبيع بكلمة مالية، وبعدها يقول يفيد ملك عين، مما يُخرِج الإجارة، لأنها لو قلنا يفيد منفعة فقط أو لم نذكر، يكون معها الإيجارة. لكن عندما قلنا ملك عين، فإن الإيجارة لا تدخل في التعريف. في الإيجارة نمتلك المنفعة ولا نمتلك الرقبة. فالشيء له رقبة وله منفعة، وعندما أؤجر لك مكاناً فإنني... قد تنازلت عن منفعته، بعتها لك، فإنني قد تنازلت عن منفعته، بعتها لك مدة معينة، ولكن رقبة الشيء (عين
الشيء) ما زالت في ملكي. الملك التام هو أن أمتلك الرقبة والمنفعة، والملك الناقص هو أن أمتلك الرقبة دون المنفعة أو المنفعة دون الرقبة. فعندما يكون في جيبي مال فهذا ملك. إذا ما أعطيتُه لك سَلَفاً فأصبح مِلكاً ناقصاً لأنني أمتلك عينه لكنني لا أمتلك الانتفاع به، تركت الانتفاع به لك، فإن انتفعت به ثم رددته إليّ أصبح عندي مِلك تام أمتلك فيه الرقبة والمنفعة جميعاً. لو أنني أجّرتك المكان فإن منفعته قد أُعطيت لك ولكن رقبته ما زالت عندي. إذا
كنت قد امتلكت المنفعة لكنك لم تمتلك الرقبة فملكك للمستأجر ملك ناقص، وهكذا فالقضية أن الأمر يتكون من عين ومنفعة، من رقبة ومنفعة، من جوهر وعرض. على التصور الكامل من امتلك الجوهر والعرض فهو ملك تام، ومن امتلك واحداً منهما دون الآخر فهو ملك ناقص، فملك العين سيخرج. به الإيجارة وبغير وجه القربى القرض. القرض عقد أعطيك فيه مائة حتى تعطيني مائة، والمائة هنا مال، وحينئذ تمتلك شيئاً من هذا، وامتلاكك
له قد يكون على التأبيد، لأنك عندما تقترض مني مال العين وكذا تصرفه ثم تعطيني مثله ولا تعطينيه هو نفسه، وإلا كانت عارية ولم يكن قرضاً، لكن. هذا يتم على وجه القربة فلا بد أن نقول لا على وجه القربة حتى يخرج القرض، والمراد بالمنفعة بيع نحو حق الممر عندما تكون هناك قطعة أرض. قطعة الأرض هذه قُسِمت قسمين: قسم في الخارج على الشارع وقسم في الداخل. عندما قُسِمت قسمين هكذا، بجوارها قطعة أرض أخرى مبنية فيها. عمارات
وقطعة أرض عن شمالها مبنية فيها عمارات، وجئت أنا وأخي ورثنا هذه القطعة، ثم قسمها أخي هكذا: قال أنا لي القطعة التي أمام على الشارع وأنت لك التي في الخلف. طيب، وكيف لو بنيت أنت هنا، كيف أدخل إلى ملكي؟ ينبغي عليه أن يترك ممراً أستطيع أن أدخل منه. على ملكي حتى إذا ما بنيت في قطعة أرضي الداخلية كان هناك ممر، فقال لي: "وما الذي يجعلني أضحي بمتر من الواجهة أو مترين حتى أصنع لك ممراً؟ أنا لا أريد أن أترك هذا
مجاناً، أنا أريد أن تعطيني حق ما تمر به"، قلت له: "إذاً بعني حق الممر وأصبح". المرور هو لم يبعني الأرض ولم تصبح هذان المتران ملكي، بل إنني اشتريت منه حقاً يمنعه تماماً من أن يبني في هذه المساحة حتى يترك لي مكاناً أدخل منه إلى بيتي. فحق الممر يُباع ويُشترى وهو من الحقوق المتداولة، وهو بيع أيضاً وليس إجارة ولا شيئاً آخر، إنه بيع مؤبد ويمنع التصرف فيه. هو ومن خلفه سواء كان ذلك الخلف هو الخلف العام أو الخلف الخاص، يعني سواء باع هو لغيره، فإنه يبيع الحال على ما
هو عليه. يقول له: "هذان المتران نملك رقبتهما، لكننا لا نملك أن نمنع صاحب البيت الداخلي من المرور فيهما، لأنني قد بعت حق الممر له فتملكه". أبداً إلى يوم الدين أو كان خلفاً خاصاً الذي هو الوارث له، فالوارث لا يستطيع أن يغير ولا المشتري الجديد يستطيع أن يغير في ذلك. إذاً المسألة ليست استئجاراً وليست تنازلاً وليست هبة، لا، المسألة مسألة بيع وشراء فيدخلنا كلمة منفعة. شكراً لكم.