رب لترضى جـ 2 الحلقة الخامسة | الدين النصيحة | أ.د علي جمعة

رب لترضى جـ 2 الحلقة الخامسة | الدين النصيحة | أ.د علي جمعة - تصوف, رب لترضى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة المشاهدون، أيتها الأخوات المشاهدات في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم في حلقة جديدة من حلقات "رب لترضى"، نواصل فيها اللقاء
مع شبابنا يسألون ونحاول الوصول إلى إجابات. سديدة إن شاء الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا سيدنا ومن معه. السؤال اليوم، أستأذنك بفضل حضرتك يا مولانا، أحياناً ينزل على المرء حال ضيق هكذا يسبب له اختناقاً وقلقاً، وأحياناً يكون بسبب وأحياناً يكون بغير سبب، وبعد ذلك تجدني عندما ينزل علي هكذا، ألجأ إلى السبحة وأمسك بها. بماذا أبدأ بالتسبيح؟ هل هذا نقص أم كمال؟ حين أفعل ذلك. إن الإنسان يعتريه شيء من الضيق وشيء من الهم وشيء من الكرب، فهذا من خصائص الدنيا. أي ليست هناك دنيا خالية من الكدر، خالية من الضيق، خالية من الكروب، وهكذا.
هذا شيء خلقي طبيعي ليس فيه شيئاً مرضياً. أو شيئاً زائداً عما خلقه الله سبحانه وتعالى، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر - يعني ضاق به - أو حصل عارض من العوارض جعله ليس في حالته الطبيعية، حزبه أمر، فزع إلى الصلاة. يذهب على الفور مسرعاً إلى الصلاة. هذه الصلاة ليست فرضاً، ليست هذه عبارة عن فزع إلى الصلاة في أي وقت كان. رسول الله صلى الله عليه وسلم يفزع إلى الصلاة، فإذا كان هو يفزع إلى الذكر، فذلك
لأن الصلاة كلها ذكر، بدايتها ذكر ووسطها ذكر وآخرها ذكر، ويقول عنها سيدنا صلى الله عليه وسلم أن هذه الصلاة لا يصلح فيها. من كلام الناس إنما هي تسبيح وتحميد وتكبير إلى آخره، يعني قال تعالى: "وقوموا لله قانتين"، أي ساكتين عن كلام الدنيا، مشتغلين بذكر الله سبحانه وتعالى. فكونك أنت اعتدت أن تفزع إلى السبحة، فهذا شيء طيب للغاية، ولا نلتفت ولا يهمنا أيضاً إن جاء الهم أو الكدر أو... الكرب أو الضيق لا يأتي عندما نكون معنا سبحتنا، وهذا
إذا تعود عليه الإنسان تجد فيه راحة. قال صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة: "أرحنا بها يا بلال"، وليس "أرحنا منها" أو "دعنا ننتهي منها"، حاشا لله. "أرحنا بها" يعني بسببها، أي أنه كان يرتاح في الصلاة. الذكر يذهب أحسب أنك ستجد أيضاً أن الشرع الشريف مؤكد، وهو الذي علمنا كل هذا، لكن أيضاً التجربة لها مكانتها. هل تدرك كيف؟ وهذا ما أمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام عندما أمرنا بالنصيحة، فقالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله، أي
لوجه الله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين. وعامَّتُهم يعني ماذا؟ يعني النصيحة تأتي من التجربة. فأنا أذهب لأنصح معالي الوزير وأقول له: أيها الوزير، أنت تريد أن تنجح في المكان الفلاني، افعل كذا وكذا. هل هذا موجود في الكتاب والسنة؟ لا، ولكن الموجود في الكتاب والسنة أن نحب بعضنا، والموجود في الكتاب والسنة أن ننصح. بعض ما في الكتاب والسنة أننا نسمع، وبعض ما في الكتاب والسنة أننا نعتصم جميعاً بحبل الله، وبعض ما في الكتاب والسنة أننا نكون آدميين، نكون آدميين يعني، هذا ما في الكتاب والسنة. حسناً، فما هي هذه النصيحة إذاً؟ هذه النصيحة تختلف حسب الشخص
وحسب الحالة وحسب المشروع. حسب الأوضاع، بناءً على ذلك، هي في هذه الحالة مسألة حياتية، نعم، فهي تأتي من الواقع. هل الواقع مصدر لها؟ نعم بالطبع يا مولانا. ففي ما أخرجه ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي عن أنبياء الله، منها حكمة نبي الله داود أن يكون المؤمن مدركاً بزمانه مدركًا لشأنه عارفًا هو من هو وما إمكانياته، عالمًا بزمانه. تغير الزمان وتغير المكان. يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد
أوتي خيرًا كثيرًا. قُم يا شيخ. لقد قدمت لك هذه المقدمة الكبيرة كلها لماذا؟ لأجل الناس الذين يظنون أنهم لا يميزون بين منهج النبي ومسائل النبي أو ما كان على ما علّمناه النبي في التعامل مع الدين وبين الجزئيات، فيأتي الشيخ وتسأله قائلاً له: "إنني أعاني من ضيق الحال"، فيقول لك: "حسناً، قل يا لطيف". فتتساءل: "لماذا أقول يا لطيف ولا أقول الحمد لله؟" فيجيب: "نعم، فهي مجربة، كلمة 'يا لطيف' مع الكرب تخفف الضيق، هل تفهم؟" مائة وتسعة وعشرين مرة، ولماذا هذا العدد بالذات؟ لهذه المسألة قصة طويلة فيما يُسمى بحساب الجُمَّل وترتيب الحروف.
حساب الجُمَّل وترتيب الحروف هذه قصة طويلة يمكننا قراءتها في الكتب، لكن في النهاية فإن كل كلمة لها رقم، وهذا الرقم له أثر في الدنيا، في الحياة الدنيا، في... التأثيرات الكونية تقول لك اقرأ يواسع مائة وسبعة وثلاثين مرة، طيب حاضر. هذه تعمل مثل المفتاح وهو يفتح القفل والمزلاج هكذا، مثلما لو زدت سناً فلن يفتح، ولو نقصت سناً يدور بلا فائدة ولن يفتح. سن واحد فقط، ومن أين يأتي هذا؟ يأتي من الشريعة. يعني لا يا سيدي ليس جاءَ من الشريعة ولا هو فرضٌ عليك
أن تفعله أصلاً، إنما هو اختيار. إذا أحببت أن تفعله فجرّبه وافعله. هل اخترته وفعلته ونجح؟ فهل يجب أن أفرضه على غيري؟ لا، سيظل دائماً في دائرة الاختيار أبداً. والسبب أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل لي: إذا ضاق صدرك فقل يا تسعة وعشرون مرة أو يا واسع مائة وسبعة وثلاثين، لم يقل هكذا. من؟ الله، النبي لم يقل هكذا، ولذلك ليس سنة في ذاته. إذاً من أين أتيت به؟ من العمل. وهل هذا جائز؟ نعم هو جائز. النبي عليه الصلاة والسلام علمنا هكذا في المنهج، قال له: "وما أدراك أنها رقية".
هو "يا لطيف" من أسماء الله، "يا واسع" من أسماء الله، ولكن ما الذي أعلمك؟ عرفت بالتجربة. قال: علميها رقية النملة، علميها، وقال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه بشيء فليفعل". حسنًا، أنا عرفت هذه الفائدة كنوع من أنواع الدعاء، كنوع من أنواع الذكر، كنوع من أنواع العبادة، أقولها ما... دامت في إطار ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله، أنا سمعتها من حضرتك الآن، يعني حضرتك أخبرتنا مثلاً أن نقول "يا واسع" مائة وسبعة وتسعين مرة، أو "يا لطيف" مائة وستة وعشرين مرة، فهل يجوز لي أن أكلم شيخاً وأسأله، أم بمجرد ما أخبرتني حضرتك بذلك؟ حسناً، إذا حدث معي هكذا أفعل كذا، إذا كان لديك شيخ فاسأله وقل له: "أنا سمعت من
شخص ما عن سيدنا الشيخ أنني كذا وكذا، هل يصح أن أقولها أم لا يصح؟ وهل تأثيرها يكون أقوى أو أضعف أو كذا إلى آخره". ديننا مبني على السند ومبني على... توارث البركة يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ففي حلقات تذهب للبخاري هكذا يقول: حدثنا فلان، حدثنا فلان، حدثنا علان، حدثنا تركان، حدثنا سلان، حدثنا الصحابة عن النبي. هذا السند تنثال فيه البركة، إن هذا الأمر دين فانظروا ممن تأخذون دينكم. هذا شعبة وهو يتحدث عن السند وعن بركة. الإسناد في هذه الأمة أن هذا الإسناد دين، فإذاً
البركة الموروثة بالسند المتصل لا شك مهمة، فأنت عندما يقولون لك "شيخ" فكأنك قد أمسكت يد من أمسك يد من أمسك يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونعم، بعد الفاصل نستمع إلى أحمد في سؤاله. حقيقةً يا مولانا، كنت قد لنا أن النصيحة
تختلف بناءً على اختلاف الشخص، فهل هذا أيضاً ينطبق على الذكر؟ يعني عندما يعطي الشيخ تلميذه ذكراً، هل يختلف من تلميذٍ إلى آخر أم لا؟ هناك جهات تسمى الجهات الأربعة التي يختلف بها الأمر -أي أمر- وهي: الزمان، والمكان، والأشخاص، والأحوال. فالمريد في البداية ليس كالوسط، وليس المريد ونفسه، نفسه أمّارة بالسوء، لم يستطع أن يتخلص منها، ليست كما هي نفسه لوامة، ولا كما هي نفسه ملهمة، ولكنها هي نفسه راضية أو مرضية أو مطمئنة أو كاملة. مختلف المريض حتى في حالة مرضه عن حالته في صحته، المريض
ليس كما هو في حالة ذكائه وحدة ذهنه ولا في رقة قلبه كما هو في حالة غباوته وقسوة قلبه، لا خلاف في أن الشيخ يدرك هذا من ذاك ومن هذا الأمر ومن ذلك، أو من المفترض أن يفعل هذا. أتفهم؟ فطبعاً يمكن أن تختلف الأمور بين مريد وآخر لاختلاف الزمان، لاختلاف المكان، لاختلاف الأشخاص، لاختلاف الأحوال، نعم تختلف، ولذلك يحتاج فعلاً هذا الشيخ أن تدعو الله أن يرزقك بشيخ، لأنه
ليس هناك شيخ، أو أن الله رزقك بشيخ ليس عالماً، أو أن الله لم يرزقك بشيخ، أو رزقك بشيخ لا يعرف الطريق أو لا يسير فيه، لأن الشيخ الشعراوي عبد الوهاب الشعراوي اشتكى من أنه قد انتشر الأدعياء. في المشايخ وهذا هو الذي جعل أعداء التصوف يتكالبون عليه، يتكالبون على التصوف. لماذا؟ ولكنني لم أرَ الشيخ، فلابد من أن يُسلِّم ولابد من ألا يهدم ركناً من أركان الدين وهو مرتبة الإحسان، وهي الغاية من الإيمان ومن الإسلام، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن. تراه فهو يراك، خالِف المنطق
وخالِف المعقول. المنطق يقول ماذا؟ فقدان الوجدان لا يلزم منه فقدان الوجود. افترض أنك لم تر لندن، أتكون لندن غير موجودة؟ افترض أنك لم تذهب للحج، أيعني ذلك عدم وجود الكعبة ولا وجود مكة؟ هذا كلام مجانين. افترض أنك لم تر أو لم... إن لم تصادف أو لم تسمع أو لم يوفقك الله في الشيخ، فهناك شيوخ آخرون وهكذا. هذا كلام مجانين حقاً، ولذلك الذين يعتدون على طريق الله وعلى التصوف هم مخطئون، ومخطئون خطأً كبيراً جداً، لأنهم قصدوا أو لم يقصدوا أن يهدموا جزءاً من الدين، وفي النهاية ماذا سنجد؟ سنجد الجماعات هذه ظهرت لنا لأنهم
يأخذون النصوص فيفهمونها كما يشاءون ويطبقونها بكل ثقة، ولذلك قال سيدنا النبي: "أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من كلام خير البرية، لا يجاوز إيمانهم تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". إنها خطيرة جداً، وكل هذا بسبب فقدان هذه الصلة الضارعة بين القلوب وبين مسألة في منتهى الخطورة أن نترك طريق الله وأن نترك الذكر وأن نترك الفكر وأن نترك تخلية القلب من القبيح وأن نترك تحلية القلب بالصحيح. عندما ألف الإمام الغزالي كتاب الإحياء، جعل فيه أقساماً للمهلكات والمنجيات، وقدم
المهلكات في الربع الثالث والمنجيات في الربع الرابع. المهلكات هي التي تمثل التخلية، من الكبر ومن الحسد ومن البغضاء وتملأه بالصحيح الحب والتواضع والرحمة. حسناً، وأين هذا ممن يقتلون الناس على الهوية أو ممن يكرهون الناس وكأنهم قد أُرسلوا عليهم حافظين مسيطرين، مع أن الله يصف نبيه ويقول له: "لست عليهم بمسيطر"، ويقول له: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من". يشاء، حسناً، هل يمكن أن يذكر أحد الله لكي يقول أنا أذكر حتى يحبني الله، أم أنه في الأصل الله يحبه سواء ذكر الله أم لم يذكره؟ يعني حب الله في الأصل ليس
له علاقة بالذكر. الله واسع سبحانه وتعالى، وعندما خلق الخلق، فالخلق صنعته، فكيف يكره صنعته؟ ولكن الإنسان فسجدت له ملائكته، انتبه جيداً للكلام، وجعل الملائكة خداماً له في الجنة، وأمره ونهاه. فإذا اتبع أمره، وإذا انتهى عن زواجره سبحانه وتعالى، فإن حبه له لا يقتصر على حب خلقه، بل يتعدى إلى حب إثابته، رحمن الدنيا
ورحيم الآخرة. وهم يفسرون "بسم الله الرحمن الرحيم" يقولون... هذه الكلمة الغريبة "رحمن الدنيا" ماذا تعني؟ تعني أنه من حبه في الخلق رحم المؤمن والكافر على حد سواء، والذاكر والتقي والفاجر على حد سواء. فربنا يحبنا جميعاً: مؤمناً، كافراً، فاسقاً، منافقاً، زنديقاً، وغير ذلك. هذا هو حب الرحمن الذي هو رحمن الدنيا، ولكن في الآخرة فهذه قضية أخرى. سيقول
أنا يمكن والله المثل الأعلى يعني يمكن أن أكون أنا أرحم شخص لا أحبه، أي لمجرد أنني أشفقت عليه لكنني لا أحبه، يعني فقط رحمته خلاص لا أريد أن أراه مثلاً، فهل الرحمة هنا مُلزمة أن يكون معها حب أيضاً؟ الحب شيء آخر، أنت تحب ابنك حتى لو كان عندما يرزقك الله بالطفل ستعرف أنك تحبه، انظر إلى حب الأم لابنها، فلو عصاها تحبه أيضاً، تحبه، ولله المثل الأعلى، فإن الله أرحم بخلقه من هذه الأم بابنها، بخلقه جميعاً وليس بالمؤمن
فقط، بالخلق كلهم، وهو يحب الخلق كلهم، لكن التصنيف يأتي في الآخرة، ورحيم الآخرة كان بالمؤمنين وليس بالمؤمنين رحيمًا وكان بالمؤمنين رحيمًا. الرحمن الرحيم، الرحمن في الدنيا ورحيم الآخرة. إن الله سبحانه وتعالى يحبنا، إنما الإثابة والثواب والعقاب سيأتي حسب التكليف وحسب ما قدم العبد في مزرعة الآخرة. الدنيا مزرعة الآخرة، ماذا قدمت؟ إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، لأنك عصيته ولأنك خالفته.
حسنًا، ماذا تفعل؟ ماذا في ابنك العاصي، يمكن أن تؤدبه لكنك تحبه أيضاً، وهذا يظهر في حب الأم لابنها بشكل غير مبرر إلا أن الله قد خلق في قلبها هذا الحب. حسناً، حضرتك يا مولانا، في الدنيا ربنا سبحانه وتعالى عندما يرحم، هل يعني أنه يحب أم أنه يرحم لمجرد الرحمة لأنه رحيم؟ ضع في اعتبارك أن الرحمة هي أساس الحب، وهذه مسألة مهمة للغاية. من أين يأتي الحب؟ يأتي من الرحمة. فلأن الله رحمن رحيم فهو يحب، لكن
حبه أنواع، وحبه تجليات، وحبه درجات. الرحمة يتولد منها دائماً الحب. هذا الحب أنواع، وهو الرحمن الرحيم، وهذا الحب الذي هو درجات. وأنواع وهكذا إلى آخره يتولد منه السكينة، والسكينة يتولد منها المودة، وهذا الذي يجعل الناس أحياناً تختلط عليها الرحمة بالحب، أين الأصل وهكذا. فربنا أراحنا وبيّن لنا الأصل وقال بسم الله الرحمن الرحيم، لكي تعرف أن هذا تسلسل من الرحمة، ففيها الحب، ومن الحب
فيها السكينة، ومن السكينة فيها المودة، فيها التنازلات الأخرى، إلى لقاء آخر نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اشتركوا
في