سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين | باب المحاسبة | أ.د علي جمعة

سبيل المبتدئين في شرح البدايات من منازل السائرين | باب المحاسبة | أ.د علي جمعة - تصوف, منازل السائرين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. قال المصنف رحمه الله تعالى ونفعنا الله بعلومه في الدارين آمين: بعدما بيّن أن أول الأمر ولا بد من اليقظة، لأن النائم لا تكليف عليه، فإذا خاطبت النائم بشيء فقد خاطبت المحال، وخطاب المحال. محال فلا بد من اليقظة لأن تكليف المحال محال وعبث، كيف تخاطب نائماً له: افعل وافعل وافعل وافعل وافعل، وهو نائم؟ فلا بد أولاً من اليقظة، واليقظة تتأتى بمعرفة حقيقة الدنيا
وأنها فانية إلى زوال، وأن حقيقتها أنها مخلوقة لله رب العالمين، وحقيقتها أنها من خلق الله في خيرها وشرها. فالله سبحانه وتعالى فعال لما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون والله هو صاحب الحول والقوة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فاليقظة هي أن تعرف معنى هذه الكلمة التي هي كنز من كنوز مخبوئة تحت عرش الرحمن لا حول ولا قوة أبدا ونفيا تاما من كل لا أحد في الكون سواء كان بشراً أو ملكاً، سواء كان نبياً أو ولياً، سواء كان مؤمناً أو فاجراً،
إلا الله، فإنه كان قبل أن يكون الكون، وهو الآن على ما عليه كان، وكل شيء يهلك وفانٍ إلا وجهه سبحانه وتعالى، هو الذي يبقى، فهو الباقي، فالله سبحانه وتعالى هو الحقيقة. الوحيدة وهو الواجب الوحيد وما سوى ذلك إنما هو بأمره. هذه هي اليقظة. إذا فهمت ذلك كلمناك، وإذا لم تفهم أيقظناك، وإذا لم تستيقظ تركناك، لأنه لا فائدة من الكلام معك إذا لم تعلم هذه الحقيقة الأولى المبدئية التي هي باب الخير كله.
ثم بعد ذلك وإذا عرفت الحقيقة من اليقظة وكيف تصل إليها وتقاوم نفسك من أجلها، فاستيقظ! فأول ما تفعله هو أن تبادر بالتوبة إلى الله بالانخلاع من دائرة ما أنت فيه من غفلة ومن ذنوب ومن كبر ومن تقصير إلى دائرة الله سبحانه وتعالى الذي يفعل ما يشاء وما يريد. تنخلع بالكلية، والانخلاع هو حقيقة التوبة وبين. بالتفصيل كيف يكون ذلك وكيف أن التوبة ليست شيئًا ينتهي بل هو شيء تفعله في كل درجاتك ومقاماتك مع الله فالعوام يتوبون والخواص يتوبون وخواص
الخواص يتوبون والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الأسوة الحسنة وغاية المراد من رب العباد وهو المصطفى الكريم وهو المجتبى صلى الله عليه وسلم والمثل الأعلى والإنسان الكامل كان يقول إنني لا أستغفر الله في اليوم مائة مرة. إذاً فالتوبة في حد ذاتها عبادة لا يخلو منها أحد، والتوبة مقام، والتوبة بداية، لكنها ليست بداية ككل البدايات تنتهي، بل إنها بداية لتستمر. وعلى ذلك يتوب الإنسان كل يوم ويستغفر ربه كل يوم فإنه لا
لا بد عليه بعدد أنفاسه من إحداث التوبة، لا تستكثر طاعتك ولا تتكبر بها ولا تتعالى على أخيك إذا ابتلاه الله سبحانه وتعالى بالذنب، ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولا تحقر أخاك الذي أذنب، ولا ترضى بالذنب، واكره هذا الذنب ولا تكره صاحبه، فهناك فرق بين الذنب والمذنب وبين الكفر والكافر. وبين الطاعة والطائع فرق، فرُبَّ طائع ليس له من طاعته شيء. يأتي يوم القيامة القارئ فيكون أول من
يدخل النار، وعالم بعلمه لم يعمل معذب قبل عُبّاد الوثن. إذاً، فهذا الرجل الذي كان عالماً قارئاً يُقال له يوم القيامة: إنما قرأت ليقال عنك قارئ، وقد قيل، فيُؤخذ. والشهيد يُقال عنه: قاتلت. حتى يقال عنك شجاع وقد قيل، فيؤخذ إلى النار، إذ رب طائع ليس له نصيب من طاعته. ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"،
لأنه لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى. "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" بعد. ما انتهى من هذه اليقظة ومن تلك التوبة وأمر العبادة أن يتوجهوا وأن يفروا إلى الله وأن ينخلعوا بالكلية من دائرة المعصية إلى دائرة الرحمن فإنه تكلم عن الباب الثالث من العشر الأول فقال باب المحاسبة حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، إذا نظرت لغد فإنك
سوف تحاسب نفسك ما الذي قدمته لله. فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما جاءه أحدهم وقال: "يا رسول الله، سل لي الجنة"، يعني اسأل ربك لي الجنة، قال: "وماذا قدمت لها؟". إذاً هناك محاسبة، اتقوا الله ولتنظر. النظر هو حقيقة المحاسبة لنفسك وما قدمت لغد، وكيف تعود إلى ربك. يقول أهل الله من السادة الصوفية: "ملاك الأمر كله
أن تجهز حجتك لله غداً". الناس يسألون أهل الله ويقولون: "أنا لا أريد كلاماً كثيراً، صلِّ وصُمْ واذكُرْ واتلُ، أمرني بمائتي شيء، أنا أريد مفاتيح أمشي بها". عليها أيُّ المفاتيح هذه؟ قال له: هذه المفاتيح تتمثل في أنك كلما تأتي لتُقدِم على عملٍ تفكر: ماذا سأقول لربنا غداً؟ ثم اعمل ما تريد أن تعمله، انظر ماذا ستقول له. ماذا يعني "ماذا سأقول لربي غداً"؟ يعني أنك تضعه في المرتبة الأولى وتؤمن بأن هناك يوماً آخر في المرتبة الثانية. ومؤمن أن في هذا اليوم
الآخر حساباً للثواب والعقاب. النقطة الثالثة: ثم إنك سوف تحاسب نفسك قبل العمل إذا ما كان هذا يرضي الله أو لا يرضيه. ومن هنا تأتي الحاجة إلى الفقه، فالفقه مهم لأنه الحكمة، لأنه الذي يبين للناس معالم الحلال والحرام. فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، يعني الذين تولوا استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة. فالطاعة
هنا تكون لله وتكون لرسول الله وتكون لمن نسب أحكام الله موقعين عن الله. لما ابن القيم عمل كتابه سماه إعلام الموقعين عن رب العالمين. فأولوا الأمر هم العلماء وهذه هي الحكمة، فالمحاسبة تحتاج إلى حكمة، والحكمة إما أن تكون بالعلم، وشرف العلم فوق كل شرف. في الكفاءة تُشترط في الرجل أن يتزوج المرأة بحيث يكون أعلى منها أو مساوياً لها في الكفاءة في الحسب والنسب والدنيا والجاه لأنه هو الذي وُلِّيَ أمرها. أمر البيت وللرجال عليهن درجة، فناسب
ذلك أن يكون الرجل أعلى أو مساوياً، ولا يجوز أن يكون أقل. فلو ذهبت وتزوجت رجلاً أقل منها كفاءة، فلوليها أن يطلقها. الولي الخاص بها له أن يطلقها. لماذا؟ لأنها ذهبت فتزوجت بغير كفء. كيف يكون الكفء؟ مثلاً هؤلاء أناس أغنياء وذهبت لتتزوج رجلاً فقيراً لا يستطيع. أن تعيش معه كما عاشت مع أبيها، أو هذه ذات حسب ومن أهل البيت فذهبت وتزوجت بغير ذي حسب أو
إلى آخره، إلا إذا كان عالماً، إذا كان عالم فشرف العلم فوق كل شرف، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، فشرف العلم فوق كل شرف. قضية أنَّ العالِم. المفترض أن يكون فاهماً فيكون إن كرهها لم يظلمها وإن أحبها أحسن إليها. حسناً، هذا ما أريده في الكفاءة، هذا ما أريده في الكفاءة. إذا كان العلم مهماً والعلم حكمة إما بالتعلم وإما بالسؤال، إذا لم تكن عالماً فاسأل العالم. قال وإنما يسلك طريق المحاسبة بعد.
العزيمة على عقد التوبة التي قدمناها لا بد أن نعاهد ربنا عليها ونوقع عقداً بيننا وبين الله، والله أمرنا فقال: "أوفوا بالعقود" أمرٌ في القرآن، فلا بد من عهد الله، إن عهد الله كان مسؤولاً، "وبعهد الله أوفوا". وإنما يُسلك طريق المحاسبة بعد العزيمة على عقد التوبة، والمحاسبة لها. ثلاثة أركان كما اعتدنا لها ثلاثة أركان. المرحلة التي نحن فيها هذه أحدها أن نقيس
بين نعمته أو أن تقيس بين نعمته وجنايتك، يعني تجلس وتفكر وتحاسب وتقول النعم التي أنعم الله علي بها كم قدرها وما هي. سؤال: ما رأيك لو كنت موفقاً لشرح الله صدرك وأظهر لك منته عليك؟ ولو كنت غير موفق أغلق بصيرتك ثم لا تجد لله عليك حقاً وتقول في نفسك ما أنا متعب طوال النهار، ماذا سيفعل بنا أكثر
مما فعله بنا؟ هذا مطموس البصيرة. لكن لو وفقك الله لرأيت نعمه كما يقولون في العامية من أساسك إلى رأسك، الأساس الذي هو... ما الأساس الرجلين؟ يعني لأن الأساس يكون تحت. رأسك وشعر رأسك كلها نعمة، عقلك نعمة، وابنك نعمة، عينك التي ترى بها نعمة. فإن أخذها الله منك فهي نعمة وما بعدها نعمة. فهو قال له: حرمك الله من البصر. فقال: حرمني من أن أرى مثلك، يعني هذه نعمة حرمني منها.
من أي شيء يعني حرمك الله من البصر؟ قال له: أبداً، هذه نعمة، حرمني الله من أن أرى مثله. آه، هذه مصيبة. نعمة، النعمة فيها من أخذ الله حبيبتيه أبدله بهما الجنة. يبقى ماذا إذن؟ هذا مضمون له الجنة، هذا ذاهب على الفور هكذا. من أي شيء؟ من الدار إلى الجنة. يبقى نريد. ما هذا تنفسك؟ نعم، رأيت أحد الطغاة وهو ممسكٌ بوردة يشمها في قفصه وهم يحاكمونه، فسألت: ما باله؟ أليس مهتماً أو ما الأمر؟ قالوا: له يبعد عنك، كل نَفَس يأخذه يتقطع داخله كالسكاكين، يخرج النَفَس فيتقطع داخله كالسكاكين، فهو
غير قادر ويسلي نفسه بالوردة كي يخفف الألم قليلاً. ما هذا يعني؟ نحن في نعمة وإلا ما هذا الاستمرار؟ نحن نتنفس باستمرار. فاعجب إن فتح الله عليك لتراه ممتناً عليك، وإن أغلق بصيرتك لنسيت نعمته. وهذا يشق على من ليس لديه ثلاثة أشياء في ثلاث أشياء تساعدك على فتح البصيرة ورؤية النعمة ورؤية الجناية التي فعلتها. قبل الله هو الله يمن عليك بالمنن والمنح والنعم
وأنت تقابله بالمعصية والفرار والطغيان والنسيان والقسوة. نور الحكمة الذي هو الفقه إما بالعلم وإما بالسؤال، فعندما أكون عارفاً بالحلال والحرام أصبح مدركاً لما أفعله، ولكن إذا لم أكن عارفاً بالحلال والحرام فلا أدرك ما أنا عليه. كيف حالك؟ أقول: ماذا فعلت يعني؟ أنا لا أفعل شيئًا سيئًا. سمعنا من الناس كثيرًا هكذا، قال: أنا لم أفعل شيئًا سيئًا أبدًا. فأقول له: أبدًا؟ قال لي: أبدًا. أتصلي؟ أنا أول ما قلت له هكذا: أتصلي؟ قال لي: نعم، ماذا إذن؟ أصلي الجمعة، أصلي الجمعة.
لا أرى أنه... حتى الصلاة لم يصلها، هو يصلي وبعد ذلك يقول لي ماذا؟ فماذا يعني؟ أيضاً يعني يعترض عليّ! يعني ماذا؟ ماذا تظن؟ قلت إذن يصلي جماعة في المسجد في الصف الأول، لم يترك خلف الإمام أربعين سنة. اتضح أنه يصلي الجمعة فقط ولم يفعل أبداً شيئاً سيئاً في حياته. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"، يعني ذنب عظيم حقيقةً، ليس كفراً بمعنى الخروج عن الملة، لكن ذنبه قريب من الكفر. وبالرغم من ذلك، أخونا لا يرى أحداً آخر، يقول لي: "أنا لا أعرف لماذا فعل الله بي هكذا بالرغم من أنني
سليم". مائة في المائة سليم، مائة في المائة أيها الطاغية، سليم مائة في المائة هكذا هو، سليم مائة في المائة. قال: "لا، فما الأمر إذن؟ أبحث هكذا ولا أجد شيئاً". تعرف أنه مخذول، هذه مصيبة، والإنسان عندما لا يجد شيئاً فليذهب إلى ربه ويبكي. اجلس وابكِ الآن، قل له: "لا، أنت هكذا". مُغلقٌ عليَّ ما دمتُ لا أرى وأرى نفسي جميلةً جداً هكذا، وليس هناك شيء عندما فعلته. هكذا أنتَ أغلقتَ عليَّ، لِمَ أغلقتَ عليَّ؟ ماذا فعلتُ؟ سامحني، اغفر لي، افتح لي. لن أقوم من هنا، وابكِ، تنهَّد، واجلس أمام الباب حتى يُفتح، حتى يُفتح لك. لا فائدة إلا هكذا، ما دمت ترى نفسك أنك قد وصلت إلى الغاية، فاعلم أنك في الحضيض. نور الحكمة الذي
هو الفقه وسوء الظن بالنفس، يا سلام يا سلام. رأينا أناساً، واحد مرة قال لي: "أنت تكلمني هكذا؟ إنني أنا يحبني الله"، قلت له: "هذا شيء جميل". أن تثق بالله كيف يحبك الله. قالوا: ما لا يحب من؟ نعم والله، هذا أوجعني وأوجعني وأوجعني. وأخذ يسرد متاع الدنيا: أموالاً وجاهاً وسلطاناً وحسباً ونسباً ومتعاً وشهوات. وكل هذا عند الله لا يساوي جناح بعوضة
وليس دليلاً على الحب. الدليل على الحب التوفيق، الزيادة في العبادة، الاستمرار فيها. هذا هو. الدليل على الحب أما غير ذلك فليس بتوفيق. هذه نعم متكاثرة تستوجب منك الشكر بالليل والنهار، وهي عليك لا لك، تبعتها لستَ قادرًا عليها. قال لي: "أنا منذ خمس سنوات فتحتُ حسابًا في البنك وأُخرِج الزكاة وأضعها فيه لأنني لا أجد فقيرًا". قلت له: "ياه! الدولة اغتنت إذن". الله! إننا في عصر عمر بن عبد العزيز الذي بحث
فلم يجد فقيراً في المسلمين. قال: أي والله. قلت له: حسناً، إن شاء الله سأكتب لك عشر عائلات وأكتب لك المبالغ التي يحتاجونها من ديون وعلاج وزواج، وأناس يريدون شراء سيارة أجرة ليعملوا عليها لأنهم لا يجدون لقمة العيش كلها، وأناس يريدون... تفتح كشكًا يبيعون فيه الحلويات أو أي شيء، قال لي: حسنًا، وهو كذلك. وبعد ذلك قال لي: لا، أنا لا أريد أن أعطي الشخص عشرة جنيهات مقابل عشرة جنيهات، ولذلك لم أجد من يستحق العشرة جنيهات، وأنت تقول يعطيه خمسة آلاف وستة آلاف ليفتح بها محلًا. كان السلف إذا أعطى أغنى. لكي ينتقل من الفقر إلى الغنى
ونكتفي ونأخذ منه الزكاة السنة القادمة، وصاحبنا يكدس الأموال في البنك. انتبه، هو رجل تقي لا يُخرج الزكاة بل يضعها في البنك فتزداد فيه وغير راضٍ وبالملايين ويريد آلاف الناس ليعطيهم ماذا؟ عشرة في عشرة! لا توجد حكمة ولا سوء ظن. بالنفس فيها الأنا كبيرة جداً، كان بعض أهل الله وهم يربون أتباعهم وأنفسهم يخلون كلامهم من "أنا"، لا يرضى أن يقول "أنا" في مرحلة كهذه يدرب نفسه، ومن ناحية الملكية لا يقول "هات كتابي" أو "خذ طعامي" أو
"تعال بيتي"، لا يقول ذلك، بل يقول له "تعال إلى البيت" و"خذ الكتاب" و"هات الطعام"، لا يرضى أن يقول. ماذا؟ لأنه لا يملك من الدنيا، إنما الملك والمالك هو الله، وأنا ذهبت أنا فقط. ولكن هذا ليس على الدوام يا إخواننا، هذه مرحلة من مراحل التربية، يعني الذي يتمسك بهذه المسألة لا يتمسك بها دائماً، يا شيخ محمد، أليس كذلك؟ هذه مجرد مرحلة من مراحل التربية فقط. وبعدها نتركها ونعود مرة أخرى إلى الكلام العادي، فإن سيدنا رسول الله قال "أنا" وقال "تعال إلى بيتي"، وهو خير من نقتدي به، لكن هذا ما هو إلا لكي تقهر نفسك قليلاً التي هي تعاكسك، ولتميز النعمة من
الفتنة عندما يمنحك الله أموالاً ويسلطك على إنفاقها في الحق، اعلم أنها... نعمة تجعل قلبك يتعلق بها وتلتفت إلى غيرها اعلم أنها نقمة وفتنة. انظر إلى النعمة التي منحها الله لك: نعمة السلطان، نعمة الجاه، نعمة الوظيفة، نعمة الزوجة، نعمة الولد، نعمة المال، نعمة أي شيء أدى بك إلى حب الله ورسوله، حب المساكين، حب المسلمين، بذل ما في. يدك توكلاً وثقةً بالله وما عندك، فإن الحب عطاء من غير نظر إلى مقابل أو إنك قد
التفت بها إلى غيره سبحانه وتعالى. فإذا كانت الأولى فهي نعمة، وإن كانت الثانية فهي نقمة وفتنة. الأمر الثاني من المحاسبة: الأمر الأول أن نقيس بين النعمة والجناية، والأمر الثاني أن توزن مال. الحق عليك مما لك أو منك، نريد أن نتحاسب الآن. وعندما تذهب لتحاسب البقال أو التاجر أو أصحاب الأموال، ماذا تفعل؟ شيء يسمى دفتر الأستاذ، منه وله، مديونية ودائنية. نريد الآن أن نتحاسب، ما لك وما عليك. هذه هي
القضية الثانية في المحاسبة. المحاسبة معناها أن نبين ما لك وما عليك. دع كل واحد... يعرف حقك ما هو إن شاء الله عند الله، وما عليك من قِبَلِ الله الطاعة والفروض والواجبات، ومطلوب منك السنن والرواتب والنوافل. فما لك إذاً؟ لا شيء، أنت مفلس ليس لك شيء عند الله لأن هذه الأعمال في مقابل بعض المنن التي عليك، أنت عليك عليك عليك وليس لك. مسكين، عليك أن تعرف نفسك وليقف كل واحد عند حده. لماذا تمشي رافعاً رأسك؟ أنت لا
تملك شيئاً أصلاً. لماذا تأتي لتصرخ في الدكان وأنت يا مسكين مديون بآلاف آلاف الآلاف وليس لك عندنا شيء؟ ها قد انكشفت القضية والحقيقة، فاعلم أن الجناية عليك حجة، والمصائب التي تصنعها حجة عليك والطاعة. عليك منها، تقول: "الله، لقد صليت"، فيقول لك: "أأنت صليت أم أنا الذي جعلتك تصلي؟ أأنت زكيت أم أنا وفقتك للزكاة؟ أأنت ذكرت أم أنا الذي جعلتك تذكر؟" أقول له: "حسناً، ماذا أفعل؟" يقول: "اشكر يا ولد! أنت مدين بالشكر. لم تشكر
حتى الآن، فظهرت مداناً في الجناية". وخرجتُ مديناً في الطاعة، أنا ذاهبٌ وفاعلٌ ماذا؟ أظنُّ أن طاعتي سأجد لها درجةً عنده، اتضح أنه "لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، إنما بفضل الله"، قالوا: "ولا أنت يا رسول الله؟"، قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" صلى الله عليه وسلم. صلوا على سيدنا رسول الله، والحكم عليك. حُجَّةٌ لا تَلِيقُ بِكَ، مَعْذِرَةً، لا تَتَغَابَى وَتَقُولَ لَهُ: حَسَنًا، أَلَيْسَ اللهُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ عَلَيَّ الطَّاعَةَ؟ نَعَمْ، أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي كَتَبْتَ عَلَيَّ المَعْصِيَةَ؟ قَالَ: مَاذَا يَعْنِي؟ هَلْ هُوَ ذَكِيٌّ جِدًّا؟ وَكَثِيرٌ جِدًّا، خَاصَّةً مِنْ رِجَالِ الأَعْمَالِ، يَفْعَلُونَ هَكَذَا.
قَالَ: جَالِسٌ يُفَكِّرُ، ظَانًّا أَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ يَتَعَامَلُ مَعَهَا. يستورد منها قول، حسناً، أنت يا ربنا كتبت عليّ الجناية. قال له: يا حبيبي، الجناية التي كُتبت عليك حجة عليك، ليست معذرة لك. هي معمولة لكي تعتزل وتقول لا ذنب لي فقد أجريت المعصية. هي معمولة لكي تطأطئ رأسك وتقول له سامحني، هي معمولة لذلك. لأجلِ أن تقولَ اغفرْ لي، هذه مصنوعةٌ لتُثبتَ في النهاية افتقارك إليه. هي حجةٌ عليك، فإنها والحكمُ عليك حجةٌ وليست لك معذرة. والحكمُ عليك حجةٌ وليست لك معذرة، لا تستطيع أن
تحوِّله إلى معذرةٍ تعتذر بها عند الله. والثالث من أركان المحاسبة أن تعرفَ أن كل طاعةٌ رضيتَها منكَ، رضيتَها من نفسِكَ يعني، ومسرورٌ جداً أنكَ قمتَ الليلَ مُبارِزاً، فهي عليكَ لأنها تحتاجُ إلى شكرٍ، والشكرُ يحتاجُ إلى شكرٍ، والشكرُ يحتاجُ إلى شكرٍ أبداً. وكلُّ معصيةٍ عيَّرتَ بها أخاكَ فهي إليكَ مردودةٌ، لأنكَ بتعييرِكَ قد برَّأتَ نفسَكَ، وتبرئتُكَ لنفسِكَ كِبرٌ، فربما يغفرُ اللهُ لهُ ويؤاخذُكَ بها. يكون هو الذي ارتكب المعصية فأورثته ندماً وتوبة صادقة، وأنت
قد تكبرت عليه فأخذت بها، فهي مردودة إليك. فلا تضيع ميزان وقتك، أي لا تضيع ميزان المحاسبة. اعرف ما لك وما عليك، ولو ضيعت صفحتك ستتوه ولن تعرف الحقيقة أبداً، وهذا الانكسار والذل الذي تفعله المحاسبة. في نفس الإنسان هو الذي يهيئك للدخول إلى الإنابة، الباب الذي بعده ماذا؟ باب الإنابة. باب الإنابة ينبغي أن تدخله أنت ذليل خاضع لمن؟ لله. بعض النصارى الغربيين يقولون
ماذا؟ كيف يكون الإنسان ذليلاً ويسجد؟ يقول: أنت ترى ذليلاً؟ ذليل لله يا ابن آدم. يقول: يعني كيف؟ يعني يكون... ذليل لأنه لا يسجد، فلو سجد لعرف كيف يكون ذليلاً لله، وبذلك يكون عزيزاً على كل خلقه، لأنه أخرج الدنيا من قلبه فكانت في يده، وليست همه. متوكل على الله، لا يخاف سوى الله، لا يعبد إلا إياه، لا يطلب إلا منه، لا يتوكل إلا عليه. عليه رضا وتسليم وسعادة لو عرفها غيرنا لقاتلوا عليها كما يقاتلون على البترول لأنهم في جحيم وهم يكتبون أنهم لا
يقدرون أن يخرجوا من هذا الجحيم. واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، فها هو فرعون كان ينظر إلى سيدنا موسى وعقله يقول له اقتله فإن هلاكك على يديه، وقلبه لا. متدين متشدد قال أحضروه لأقتله أو أرى له حلاً. عندما رآه قال له: "ما هذا؟". قال: "إن ربك فينا وليد ولبثت فينا من عمرك السنين وفعلت فعلتك التي فعلت". أهذا خطاب شخص يريد قتل شخص آخر؟ إنهم مع بعضهم، يكفي أن يشير بعينيه فقط ليقتلوه. لكن أول شيء الله يقول له: "ولتُصنع على عيني وألقيت عليك محبة مني"، فأنزل عليه خيمة المحبة، فكان فرعون كلما نظر
إليه ازداد محبة له، أمر غريب! ينظر إليه فيحبه. وبعد ذلك أراد واستمر معه بهذه الطريقة، فكان فرعون لطيفاً تماماً في خطابه معه، لطيفاً تماماً. ليس هو فرعون الذي نعرفه، فرعون الذي نعرفه هذا يقتل بالنظرة، وفرعون هذا لا، "وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني"، خلاصاً يا إخواننا، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ويحول بين المرء ولسانه، كذلك إذا كان قلبه الذي بين صدره يحول بينه وبينه ولا يعرف. يتصرف من غيره من فتح الله عليه باب المحاسبة فلا يضيع الميزان من يديه، فاللهم
يا ربنا يا كريم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. تفضل يا شيخ ممدود.