سورة آل عمران | حـ 476 | 129 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة آل عمران يقول ربنا سبحانه وتعالى وهو يقرر حقيقة إيمانية يعتمد عليها الإنسان في حياته وفي سيره إلى الله وفي علاقته مع نفسه ومع غيره، والحقائق الإيمانية في القرآن. يقررها لنا الله سبحانه وتعالى من أجل ذلك، من أجل أن تستقيم حياتنا، لا من أجل أن نصدقها فحسب وأن نوقن بها فحسب، بل أن نحولها إلى منهج حياة نعيش، فيقول: "ولله
ما في السماوات وما في الأرض". لو قرأتها بمعنى أنها حقيقة أن كل شيء في السماوات وفي الأرض إنما هو في ملك الله وأنك تعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا، حسنًا، لكن لا يكفي ذلك، فهذا جزء من المراد. لا يكفي أن تؤمن بها وتصدق. قلت لي: لا، أنا لست مؤمنًا بها فحسب، بل أنا أيضًا موقن بها، أي لا يتردد في قلبه. كل هذا لا يكفي. هذا عمل القلب، ولكن لا بدّ أن يظهر هذا العمل القلبي ويتجلى في صورة
السلوك وفي صورة الحياة. ولله ما في السماوات وما في الأرض. كيف نحوّل هذه الحقيقة الإيمانية؟ لن أقول لك آمن بها، ولا بد أن تؤمن بها، أبداً، كلنا مؤمنون بها، ولكن كيف نحولها إلى منهج حياة؟ نحولها إلى منهج حياة أولاً بالرضا عن الله، فأنت ترى أن هذا الواقع الذي نحن فيه هو ما نعيشه في الحياة، ويكون هناك رضا. هذا الرضا سيجعلك تتأمل وينمي لديك قدرة التأمل، وهذا
الرضا لن يجعلك محبطاً أبداً لأنك تبحث عن الحكمة وراء ما ترى، ولن يجعلك متهوراً أبداً، بل سيعلمك. إنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سيجعلك تفعل كل فعل من أجل الله، سيجعلك تبحث في كل فعل عن رضا الله. هذا هو الرضا، أنت راضٍ، فإذا بالمصائب تنزل، يقوم المرء ولا يخاف، ولا ينهار، ولا يُحبط، وليس عنده إحباط، وإنما ينزل عليه الصبر، لماذا؟
لأنه راضٍ. قل كل شيء من عند الله. إن الرضا يؤدي أيضاً إلى التسليم. فليكن في حياتك أمر ثانٍ وهو التسليم لله. الله غالب، ولا بد عليك أن تفعل الأسباب وتنفذ الأوامر، والأمر لله. لا تنتظر النتائج ولا يتعلق قلبك بالنجاح. وماذا أيضاً؟ قال: والتوكل على الله. الرضا والتسليم والتوكل على الله. والتوكل على الله معناه أن تثق بما في يد الله، أن تدعو الله
سبحانه وتعالى وتدعيه، فإذا نحن أمام شيء عظيم جداً وهو لله ما في السماوات وما في الأرض، وهذه تؤدي إلى ماذا؟ قال لا تخاف، أن لا تخف إلا الله، لا تخف أحداً، خف الله ولو خفت. الله سبحانه وتعالى أخاف الله منك كل شيء، ولو لم تخف الله خفت من كل شيء، خفت على رزقك وعلى حياتك وعلى أمنك وعلى سلامتك وعلى جسدك وعلى أولادك وعلى أهلك وعلى مالك، وتخاف من كل شيء، في حين أنك إذا
خفت من الله فإنك تخافه وحده لا غير. شريك له ولذلك تخاف منك كل الأشياء، وأخذوا يقولون لنا عندما يتجرد العباد وعندما يتجرد العلماء ويخافون الله، وكيف خاف الله منهم الملوك والأباطرة والحكام وغيرهم. ويحكون عن الإمام النووي أنه نصح الظاهر بيبرس فغضب الظاهر بيبرس من النصيحة النووية، فلما رآه خافه الظاهر بيبرس، خاف الإمام النووي خافه. ارتعش منه والظاهر
أنه يُبرز، أي أنه كان قوياً ومتهماً بقتل قائد الجيش الذي انتصر على التتار، وكان لا يهمه أحد، يقتل بسهولة هكذا وكأنه لا شيء. قابلوه فقال له: "اتقِ الله"، فقالوا له: "ما بالك؟ هل خفت أم ماذا؟" فقال: "خفت من ماذا؟ هذا (عند) الأسد من يكون؟" الإمام النووي هذا مات وهو في الخامسة والأربعين من عمره، لم يكن متفرغاً للعلم، وكان أبوه وأمه في نوى يرسلون إليه بعض الأقراص ليعيش عليها، وكان يصوم كل يوم لأنه لم يكن متزوجاً، وعندما كان الناس يأتون من الآفاق ليروا الإمام النووي لا يعرفونه لأنه كان نحيف الجسم هكذا.
كان وجهه ضامراً وتحت عينيه سواد من السهر، والملابس التي يرتديها لا تليق بمكانته، فكان يسأل أحدهم: "أين الإمام النووي؟" فيجيب: "ها هو". فيذهب السائل إلى الشخص المجاور له لأنه لا يصدق أن هذا هو الإمام، وعندما يسأل الشخص المجاور يقول له: "هذا هو حضرة الإمام"، فينتقل إلى الشخص الآخر بجانبه من الناحية الأخرى، لأنه لا يصدق. أمعقول ذلك؟ ما هذا إلا سخافة! عندما دخل على الظاهر، كان يعلم أنّ لله ما في السماوات وما في الأرض. كان يعلم هذه الحقيقة أنّ لله ما في السماوات وما في الأرض. لقيت خيراً يا نوى، ووقيت من ألم النوى، فلقد نشأ بك عالم لله
أخلص. ما نوى وعلى علاه وفضله فضل الحبوب على النوى. هؤلاء هم الناس الذين نحن اليوم بعد سبعمائة أو ثمانمائة سنة نذكرهم ونتحدث عنهم ونقول: الله الله. وكيف حدث ذلك؟ إنه من إخلاص النية، من أنه عرف أن لله ما في السماوات وما في الأرض. وإلى لقاء آخر نستودعكم الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته