سورة آل عمران | حـ 480 | 133-134 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

سورة آل عمران | حـ 480 | 133-134 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة - تفسير, سورة آل عمران
مع كتاب الله وفي سورة آل عمران يقول ربنا سبحانه وتعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين"، ثم يضع لنا برنامجاً للتقوى حتى لا تكون الأمور منفرطة وهلامية ومتاهات الفكر تذهب بك وتجيء، فقال: "الذين..." وكلمة "الذين" معناها أنه سوف يفسر لنا من هم. المتقون الذين ينفقون، أي إن أول التقوى هنا في هذا الموقف هو المسارعة في الإنفاق، فإن الصدقة
تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. إذن الصدقة التي هي الإنفاق، والتي هي معونة الناس، هي أول خطوات المسارعة في المغفرة. ولكي تكون مسارعًا، يجب أن تكون يدك سخية بعض الشيء، سخية من. الذين ينفقون في السراء والضراء يعني تنفق والأمور ميسورة معك وتنفق أيضاً عندما تكون الأمور ضيقة قليلاً، ولكن لا بد أن يكون معك مال. فالقاعدة المشهورة التي وضعها العلماء: إذا كان معك
مال فلا تبخل، وإذا لم يكن معك فلا تستقرض. أي لا تذهب للاقتراض من أجل التصدق، لأن ذلك همٌّ بالليل ومذلة بالنهار، لا تستدن لكي تنفق. أنفق، من سعتك، من قدرتك، من وجدك، أي مما تجده تحت يديك. لكن طبعاً هناك فرق بين شخص يملك ملايين كثيرة والإنفاق لا يؤثر فيه، ويخرج المليون هكذا كأنه عشرة جنيهات، وبين شخص آخر سبحان الله يعني... أيضاً ضيَّق عليه ولكن معه، فيُخرج عشرة جنيهات، لكن هذه العشرة جنيهات تمثل نصف ثروته، ومعه عشرة أخرى، فليبارك الله فيها. يجب أن
نفهم هذه القاعدة: إذا كان معك مال فلا تبخل، وإذا لم يكن معك فلا تستدين لكي تستمر في العطاء، "ولينفق ذو سعة من سعته"، الله موسِّع عليك ماذا؟ لا، أحضر عشرين جنيهاً، لا تبخل، أعطِ عشرة. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله جهد المقل". جهد المقل يعني ماذا؟ يعني أنا معي ملايين كثيرة، فأخرجت لوجه الله تعالى عشرة آلاف جنيه صدقة. عشرة آلاف من ثروتك كم تعني؟ يعني لا شيء، عشرة آلاف. من ملايينه، طيب، والذي معه مائتا جنيه وأخرج مائة منها، فقد أخرج خمسين في المائة من ثروته. طيب،
هذا أخرج عشرة آلاف وذاك أخرج مائة جنيه، فالعشرة آلاف تساوي كم من المائة جنيه؟ مائة مرة ضعف، مائة مرة. إذن الجنيه الواحد أحب. قال لك: المائة جنيه أحب عند الله. كل شخص يُخرج شيئاً يأخذ عشرة إلى سبعين إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة حسب النية وحسب الحال. فالألفان مضروبة في عشرة آلاف كم ستأخذ؟ في عشرة يصبح مائة ألف. إذًا، سوف تذهب يوم القيامة وستجد ميزانك فيه مائة ألف جنيه، حسناً. إذن، أبو مائة من المفترض أن يذهب ويجد ألفاً، تختلف كثافة المعادن؛ فتجد مثلاً الألومنيوم خفيفاً، بينما تجد
سبيكة الذهب ثقيلة. وهكذا، ستجد ألف قطعة فقط من سبائك الذهب مقابل مائة ألف قطعة من الألومنيوم. لا أظلمك، فقد أعطيتك ما يخصك وهو مائة ألف قطعة كما تريد. أنا لا أظلم أحداً، فربنا لا يظلم أحداً، لكن عندما تأتي لتزنهما الذهب أثقل أم قيمته أثقل؟ نعم، قيمته أثقل. هذا الألمنيوم هو صفيح. أعطِ أحد الأعمال إلى الله جهد المقل. جهد المقل هو الذي لا يملك إلا مئتين وأنفق مئة، فيكون من الذين ينفقون في السراء، وهم أصحاب المئة ألف والعشرة آلاف الذين أخذنا منهم مئة ألف، والضراء. الذين يملكون مائتين
يشعرون بالضيق قليلاً، ما الذي جعل صاحب المائتين أفضل؟ قال لك: التوكل على الله. الشخص الشجاع الذي أخرج عشرة آلاف ما زال معتمداً في قلبه أن لديه ملايين تملأ رصيده، والآخر الذي أخرج مائة، نعم هذا هو المتوكل على الله، فقد تركها لله، فليطرح المائة التي... معه ما تبقى سيكفي حتى نهاية الشهر، سيكفي للطوارئ. لكن إذا كان الشخص يخاف ويفكر أنه ربما يحدث شيء ما، فإنه يقول: لا، ما شأني أنا بذلك؟ الذي يُحدث الأحداث ويخلق الأحداث هو الله، فما شأني أنا؟ لقد أعطيت مائة وسيبارك الله لي في المائة الثانية، فلا يأتي مرض ولا ظروف
ولا حتى تأتي أي شيء، فما الفرق بينهما الذي جعل هذا أحب من ذاك؟ الثقة بالله هي التي جعلت هذا أكثر من ذاك. ما هو؟ التوكل على الله، هو الذي جعل جهد المُقل في الضراء يكون أكثر من جهد المُكثر في السراء. الإنفاق رقم اثنين، وماذا أيضاً؟ والكاظمين الغيظ. هذه أما لن يعرف حلاوتها إلا من جربها، كيف تصل إلى تنفيذ قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تغضب ولك الجنة"؟ كيف تصل إليها؟ هذه إن وصلت
إليها، قم تبدأ بأن تكون هادئاً في رؤية الأشياء، تُعرض عليك الآراء فلا تنفعل ولا تغضب، تُعرض عليك الأحداث فتفكر هكذا كيف معها تُعرض عليك النزاعات والخصومات، فأيضاً تفكر كيف تحلها، فتصبح سعيداً جداً. والكاظمين الغيظ، المرء عندما يقرأها لأول مرة يظن أنه سينفجر وأنه ماذا؟ يريد أن يمسك هذا الغيظ الشديد الذي سينفجر، لكن ما رأيك لو عوّدت نفسك عليها لأصبحت بعد ذلك خُلقاً وطبعاً؟ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس،
هذه ثانياً: والعافين عن الناس، ولذلك إلى لقاء آخر، نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.