سورة آل عمران | حـ 550 | 190-191 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مع كتاب الله وفي سورة آل عمران يقول ربنا سبحانه وتعالى وهو يرسم الطريق للمؤمنين ويبين معالمها، وذلك بوصف أولي الألباب: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب". من هم؟ قال الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ربنا، رقم ثلاثة، أي أنهم يذكرون ويتفكرون ويدعون،
فيكون الذكر والفكر والدعاء. ربنا يعني أنه يدعو. ها هو قول أصحاب العقول: الذكر، ربنا وصفه وقال إلا بذكر الله تطمئن القلوب. والفكر، هذا الفكر متعلق بماذا؟ بالدماغ، بالمخ، بالتفكير هو. أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، طلب منكم تعميرها، فيجب عليكم أن تفكروا كيف تعمرونها. ربنا قال هذا دعاءً وقال: "ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي"، فالدعاء إذاً عبادة، وهذا ما جاء في الحديث عن
سيدنا رسول الله: "الدعاء هو العبادة". وكان أبو هريرة يقول: "إذا لم تصدقوني أن النبي قال هكذا فاقرؤوا". قوله تعالى: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" يعني عندما سمى الدعاء عبادة، فعلينا أن نصدقه. فهذا موجود في القرآن، ويقوله سيدنا رسول الله أيضاً، وليس مخالفاً. فهو يعلمنا، كما روى أبو هريرة، كيف نصحح الحديث وأنه ليس مخالفاً، وهذا موجود في القرآن. ربنا "ما خلقت هذا باطلاً". سبحانك فَقِنا عذاب النار ربنا. الدعاء هو العبادة، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ثلاثة أمور التي ذكرناها عدة مرات: العبادة والعمارة والتزكية. أن تعبد ربك، وأن
تعمر كونك، وأن تزكي نفسك. فكل الآيات وراءها هذا المفهوم، وهذا يعني أنك إذا أخذت شيئاً وتركت شيئاً آخر. ليس جيداً أن تؤمنوا ببعض الكتاب وتكفروا ببعض. هذا غير مقبول، فالذي يعبد ثم يقوم بالإفساد في الأرض، مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له. فماذا يقول ربنا عن الصلاة؟ "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر". العبادة يجب أن تؤدي إلى إعمار الأرض، فإذا لم تؤدِ العبادة إلى الإعمار فهناك خلل. إنَّ عمارة الأرض وعمارة الكون تصبح غير مُجدية وتكون خاسرة، وتصبح عبادةً في الظاهر غير مقبولة.
قد يقول لي أحدهم: "أنا أصلي"، حسناً، ولكن لا بد أن تؤثر صلاتك هذه خارج المسجد بالخير لا بالشر. فالعبادة تؤدي إلى العمارة. وإذا كنت تؤدي العبادة مُكرهاً وتقوم بالعمارة مُكرهاً، فهذا لا يصح، بل يجب عليك أن تقوم بها بإرادتك. وأنت تحبها وتعملها لله، "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، فيجب هنا أن يكون جميلاً في التي نسميها "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها". المسلم هكذا إذا عبد وترك العمارة والتزكية، فذلك غير مقبول، وإذا عمّر وترك العبادة والتزكية، فذلك غير مقبول، وإذا زكّى وقال أنا... أزكي نفسي وأقوم في حالي
وليس لي شأن لا بعمارة ولا بعبادة وأجلس أذكر الله طوال النهار ولا أصلي. هل يوجد مثل هذا في الواقع؟ في الحقيقة هناك عقليات كهذه. ماذا تفعل؟ يقول لك: قلبي مع ربي. قلبك ماذا؟ وربك؟ هذا خطأ لا يصح. يقول لك: أنا وصلت وسقطت عني التكاليف. لا يصح ذلك، إنه يخادع نفسه ويضحك على ذاته. الأمر واضح، فعندما نقرأ الآية نجد أركان الطريق إلى الله: الذكر والفكر والدعاء. هذه أدوات: الذكر يؤدي إلى النفس الزكية، والفكر يؤدي إلى العمارة المستقيمة، والدعاء هو العبادة نفسها.
طبعاً هناك عبادات كالصلاة والصوم والحج وهكذا. لكن هذا عنوان العبادة "ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار". ربنا يتحدث عن ماذا؟ عن الذي خلق. أول ما تقول "ربنا" تكون قد أجبت على سؤال من الذي خلق. من الذي خلقك؟ إنه ربنا. يقول لك: "لا، نحن لا نعرف، أنتم أحرار، ابقوا تائهين هكذا إلى أن..." ما تجدونه يوم القيامة، لكننا مؤمنون. قال لكم: لا، نحن لا نريدكم أن تكونوا مؤمنين لأن الإيمان هذا تخلف. حسناً، سأتركك تدخل النار كما تشاء، فدعنا ندخل الجنة كما نشاء أنت ومن تهتم بأمره! والله إنها
أمر غريب! أليست هناك حرية؟ تركناهم في حريتهم ليدخلوا النار. ما يتركوننا في حريتنا لندخل الجنة. ما هذا السؤال الآن؟ لماذا تصنع عائقاً بيني وبين دخول الجنة؟ أنا أظن وأعتقد أنني سأدخل الجنة. يا أخي، عندما أؤمن بالله وأطبق الشرع الشريف وأزكي نفسي وأفعل الخير سأدخل الجنة. ما شأنك بي؟ اهتم بشأنك أنت. "فمن شاء فليؤمن". ومن شاء فليكفر لكم دينكم ولي دين، فأنا تركتك في حالك تدخل النار، فما بالك لا تتركني في حالي لأدخل الجنة؟ السؤال الذي هنا: هل هذا يعني أن هناك إرهاباً فكرياً؟ أيريد أن يرهبني؟ أيريد أن يجعلنا نضطرب؟ أبداً،
ليس هناك اضطراب. يقول له ربنا فيما يتعلق بالماضي، وهو يفهم من أين جاء - من عند... فيقول له ربنا: "ما خلقتُ هذا" - انظر إلى الكلام - "ما خلقتُ هذا" يتحدث عن أي شيء؟ عن الحاضر. "باطلاً سبحانك فَقِنا عذاب النار" يتحدث عن أي شيء؟ عن المستقبل. يعني في سطر واحد يتحدث عن الماضي والحاضر والمستقبل، وبعد ذلك يقول لك: هذا ليس كلام ربنا. كيف؟ هل هناك أحد... يعرف أن يأتي هكذا في سطر واحد في آية واحدة يتحدث عن كل شيء في حياته. في سطر واحد أيضاً يتحدث
عن الماضي والحاضر والمستقبل. على كل حال، موعدنا يوم القيامة عند مليك مقتدر يحكم بيننا وينبئنا بما كنا نعمل وفيما كنا فيه نختلف. وإلى لقاء آخر، نستودعكم الله والسلام. عليكم السلام ورحمة الله وبركاته