سورة البقرة | حـ 172 | آية 153 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة

سورة البقرة | حـ 172 | آية 153 | تفسير القرآن الكريم | أ.د علي جمعة - تفسير, سورة البقرة
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا رسولِ اللهِ وآلهِ وصحبهِ ومن والاه. معَ كتابِ اللهِ وفي سورةِ البقرةِ يقولُ ربُّنا سبحانَهُ وتعالى عنوانًا للمؤمنينَ في سيرِهم لحياتِهم إلى يومِ الدين: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين". هذا هو منهاجُ حياة. المؤمن الذي آمن بالله ورسوله أنه يطلب الاستعانة، والاستعانة تعني طلب العون. "إياك نعبد وإياك نستعين" نطلبها
يوميًا من ربنا، ووسائل هذه الاستعانة تكون بالصبر، والصبر الموصوف في القرآن هو صبر جميل: "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون". والصبر الجميل يكون بلا جزع، ويكون برضا، ويكون بتسليم، ويكون بتوكل. على الله هذه هي صفات الجمال في الصبر أن الإنسان يرضى بقضاء الله وقدره وأنه يسلم له سبحانه فإنه لا يكون في كونه إلا ما أراد ومن أجل ذلك فإنه لا يغضب وإذا لم يغضب فإن ذهنه يكون قادرا على التفكير والتدبر ويكون قادرا على أن يضع الأشياء في نصابها وهذا
هو عين الحكمة، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، والغضب قد يكون للنفس وقد يكون لله، فإذا كان للنفس فهو مذموم، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تغضب ولك الجنة"، وإذا كان لله فهو ممدوح لأنه يكون ناتجاً من موقف قوي لله وليس لهوى. النفس، ويكون الغضب لله إذا ما انتُهِكت حُرمات الله، ويكون الغضب للنفس إذا ما كان هذا الغضب يعود على النفس بوفاء شهوتها من الغضب، فإن الغضب شهوة، أو بوفاء مصالحها
ومنافعها عند الخلق، أو للانتقام لنفسه ولمصالحه ومنافعه. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب إلا لله. سأله... سائلٌ وهو بمكة: "يا رسول الله، استعرض بنا هذا الوادي" - يعني نقاتل المشركين في مكة. فتغيَّر وجهه غضباً. لماذا؟ لأن هذا يريد في الظاهر أن ينصر الله، ولكنه في الحقيقة يريد أن ينصر نفسه، ويريد أن يُغلِب شهواته على مقتضى الحكمة، ويريد أن يسلك بنا في طريق لا نعرف نهايته. ولا نعرف له بداية ولذلك
غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني رسول الله ولينصرني الله حتى تصير الظعينة أي المرأة من مكة إلى صنعاء لا تخافون إلا الله والذئب على غنمها، وأنه كان يُؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار في مفرق رأسه فيُنشر ما بين جلده. وعظمه لا يرده ذلك عن دين الله، يعني فصبر جميل. وفي مكة، ولأنها ليست داراً لإقامة أحكام المسلمين فيها، بيّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يعيش المسلم في أوساط غير المسلمين. لم يؤمن أهل مكة، ولكنه
حافظ على ودائعهم، وكانوا يأتمنونه من دون الناس، ووضع أحدهم أمانته. عند أبي جهل وجاءه يطلبه فأنكره، إذاً فالناس ليست مطمئنة لسيد قريش، ليست مطمئنة لأبي جهل، لكنهم لما كانوا يضعون الودائع عند الصادق الأمين كان يؤديها بالرغم من أذيتهم وكفرهم وإلحادهم وشركهم، ولكن هذا لا بد علينا فيه من أداء الأمانة، فإن أداء الأمانة وعدم الغدر من صفات المؤمنين، ولذلك عندما أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة ردّ الودائع إلى أهلها، ولم
يقل اعذروني، ولم يستحلّ غدرهم بالرغم من أنهم من أهل الغدر. وعندما أنكر أبو جهل ما وُضع عنده من أمانة، أتى قريشاً فإذا بهم يسخرون منه ويستهزئون به، وإمعاناً في الاستهزاء دلّوه على محمد صلى الله عليه وسلم. وآله وسلم بأبي هو وأمي، يريدون أن يذهب محمد إلى أبي جهل وتكون معركة، ويسخرون ويضحكون ويستهزئون بهذا المسكين الذي يطالب بوديعته. قالوا له: لا يستطيع أن يرد وديعتك إليك إلا رجل يقال له محمد، فاذهب إليه واحكِ له حكايتك، فهو
الذي يحبه أبو جهل وأبو جهل يحبه. فذهب إلى قال له محمد: "تعالَ معي"، وذهب إلى أبي جهل وطالبه بالوديعة، فدخل وردّها للرجل. فقال أهل الشرك له: "ما هذا يا أبا جهل؟ ظنناك تطرده ونستهزئ به ونفرح ونضحك". قال: "أَوَلم تروا الفحل الذي كان وراءه؟" قالوا: "أيّ فحل؟" قال: "رأيت فحل إبل يفتح فمه ليبتلعني"، لقد رأى فحل إبل. وهو أنه لا يوجد فحل إبل ولا شيء، مهابة الله أغنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
من كل سلاح، مما يعني أن هذا من عند الله. هذه ليست أوهامًا، هذه حقائق. كن مع الله. لم يقاتلهم رسول الله، بل عاش معهم وأدى أمانتهم وصبر على بلائهم، ولذلك ائتمر بأمر الله يا. أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين، وهذه وحدها تحتاج إلى لقاء آخر، فأستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.